النجاة من السجن
هذا يومك يا مسرور، سيدك في السجن وأخاف أن يقتلوه؛ لا لأنه مجرم مثل غيره، بل لأنه كان يتردد على قنصل الإنكليز، فلا بد لك من تخليصه، وقد عرضنا الأمر للقنصل، فوعدنا خيرًا وهو صادق في وعده، ولست خائفة منه بل من أولاد الحرام أن يغدروا بأحمد، فخذ ما شئت، هذه عشرة آلاف غرش خذها، وبرطل بها السجان أو برطل من تريد، وإذا ما كفَّت فخذ غيرها لحد مائة ألف غرش، وأنا اعتمادي عليك بعد الله، ولا تخبر أحدًا على الإطلاق بل دبر كل شيء وحدك، ولكن لا بد من العجلة؛ لأني خائفة جدًّا أن تضيع الفرصة علينا. آه يا ربي! ما هذه المصيبة؟! من أين أتتنا هذه البلية؟! قلت له ألف مرة: مالك ولهذه الاجتماعات؟! قلت له: انزل بنا إلى بيروت وخلصنا من أولاد عمك ومن مشايخ العقل، قلت له: امشِ مع قنصل الإنكليز مثلما مشى المرحوم والدك؛ فما سمع مني. الله يجازي الذين كانوا السبب، الله يخرب بيوتهم مثلما خربوا بيوت الناس! قم يا مسرور وخذ ما شئت، ولا تدعني أرى وجهك إلا وأحمد معك (قالت أم الأمير أحمد هذا القول والدمع ملء عينيها).
فقام مسرور ووضع نصف النقود في كمره ونصفها في كيسه، وهي مائة ليرة فرنسوية، وركب إلى بيت الدين حيث كان أمراء الدروز ومشايخهم مسجونين، وجعل يتردد على السجان ويشرب معه الدخان، ولما استوثق منه أعطاه عشرين ليرة، فجحظت عينا الرجل؛ لأنه لم ير في حياته نصف هذا المبلغ في يده، واتفقا على أن يسكرا الخفراء؛ لأنه خاف أن يرشوهم فلا يكتموا السر كلهم، واشترى مبردًا كبيرًا من بيطار، وأحضره إلى السجان، فأوصله إلى الأمير أحمد لكي يقطع به القيود من رجليه، وانتظروا إلى أن كانت ليلة مظلمة من ليالي المحاق، تلبدت الغيوم في سمائها، وحجبت نجومها، فدخل السجان وأخرج الأمير أحمد، وسار به الهوينى إلى أن وصلا إلى الباب الخارجي، فوجدا الخفراء قد استيقظوا وأوقدوا نارًا أضاءت ما حولهم، فعاد به من حيث أتى، وجاء مسرور في الصباح فأخبره السجان بما جرى، ووصل إلى مأمور السجن في ذلك اليوم كتاب من غير إمضاء يقال فيه إن أحد الأمراء المسجونين عازم على الفرار، فتعهد أبواب السجن وأقفلها بنفسه وضاعف عدد الخفراء.
واجتمع مسرور بالسجان فأخبره السجان بما حدث، فعزم أن يذهب إلى المأمور ويرشوه، ولكنه لم يجد إليه سبيلًا، فعاد يفكر في الأمر فلم يجد أسلم من أن يقيم مقام الأمير أحمد، فرجع إلى الشويفات وأحضر عبدًا آخر من عبيد مولاه وصباغًا أسود، وأتى به إلى السجن ليعطيه للأمير أحمد حتى يصبغ به وجهه ويدَيْه.
فتمت الحيلة ووضع مسرور القيود في يديه ورجليه بدل مولاه، وخرج الأمير أحمد من السجن، وسار مع عبده الآخر، وجعلا يسريان ليلًا ويختفيان نهارًا إلى أن وصلا بلاد بشارة، واختفيا عند الشيخ نصار أحد مشايخها، ومرت ثلاثة أيام ومسرور يدعي أنه مريض في سجنه لا يخرج منه، وأخيرًا دخل المأمور يفتقد المسجونين، فرأى العبد مسرورًا بدل الأمير أحمد، وشاع الخبر حالًا في بيت الدين، وقامت له البلاد وقعدت، وقبض على السجان وأودع السجن، وتحدث مؤتمر المعتمدين بهذا الأمر، وأصر معتمد فرنسا على معاقبة العبد والسجان والتفتيش عن الأمير أحمد ومعاقبته أيضًا، وكان فؤاد باشا مؤيدًا له، وخالفهما لودر دفرن معتمد إنكلترا؛ لأن الكولونل روز كان يعتقد براءة الأمير أحمد، ولو لم تكن لديه الأدلة الكافية على ذلك، وقد أعجب بشهامة العبد مسرور، كما أعجب بها كل من سمع عنها، وأُرسل الرجال للتفتيش عن الأمير أحمد في كل أنحاء الجبل وجهات الولاية، ووصل ثلاثة منهم إلى قرية الشيخ نصار الذي كان الأمير أحمد مختفيًا فيها، وكانوا متنكرين فلما وصلوا إلى العين التي يستقي منها نساء القرية جلسوا وأخرجوا زادهم وجعلوا يأكلون، وطلبوا الماء من النساء ليشربوا فامتنعن؛ لأنهن يتنجسن من كل من يشرب من آنيتهن من غير المتاولة، وأخيرًا أتت امرأة من نساء النصارى بجرتها وسقتهم، ووقفت تتحدث معهم ووقف غيرها من النساء معها، واجتمع بعض الأولاد فأشارت عليهم إحدى النساء أن ينزلوا في المنزول في دار الشيخ نصار، فقالت أخرى: إن عند الشيخ نصار ضيوفًا. فقالت الأولى: هؤلاء ليسوا ضيوفًا، بل هم أمير من أمراء جبل لبنان وعبده. فأسكتتها الثانية قائلة: إن هذا الكلام لا أصل له. والتفتت إليها وعضت على شفتها، فأدرك الرجال حالًا أن ضالتهم المنشودة في بيت الشيخ نصار شيخ تلك القرية، لكنهم تجاهلوا ذلك، وبقوا في مكانهم إلى أن انصرف النساء عنهم، وقر قرارهم على أن يعود واحد منهم إلى بيروت يخبر بما سمعوا، ويبقى اثنان منهم في القرية أو ينزلا ضيفين على الشيخ نصار؛ ليراقبا حركات الأمير أحمد وسكناته.
فعاد أحدهم وسار الاثنان الباقيان إلى دار الشيخ نصار، ونزلا في المنزول الذي ينزل فيه الضيوف، وهو غرفة كبيرة فيها فرش كثيرة، يزورها الشيخ كل يوم ليرى النزول فيها ويسألهم عن راحتهم، ويقدم لهم الطعام في أوقاته الثلاثة من غير أن يسألوا عن غرضهم، لكن الشيخ أوجس خيفة لما رآهما، فرحب بهما على جاري عادته، وأخبر الأمير أحمد بذلك وأخرجه في ظلمة الليل من باب سري، وأرسل معه اثنين من خدمه ليوصلاه إلى حدود بلاد حوران فيصير في بلاد الأمان؛ لأن حوران ملجأ الدروز وليس للدولة كلمة نافذة فيها.
فسار الأمير أحمد معهما ماشيًا على قدميه بزي فلاح من فلاحي تلك البلاد الذين يذهبون إلى حوران للتعيش فيها، ولم يأخذ عبده معه لئلا يعرف به، بل أمره بالعودة إلى الشويفات ليخبر أمه بسلامته، وبأنه صار في بلاد الأمان، وقد كان معتادًا المشي مسافات طويلة يخرج إلى الصيد في الصباح فلا يعود إلا بعد الظهر، وقد يقضي النهار كله ماشيًا على قدميه؛ يصعد في التلال وينزل إلى الأودية، ولا يشكو تعبًا؛ لا لأنه لا يتعب من المشي، بل لأن خفة روحه كانت تنسيه التعب، أما الآن فكان الهم قد أنهك قواه، واشتد لومه لنفسه؛ لأنه ما فعل حسب مشورة أمه، وانتقل إلى بيروت، وانقطع عن مجاراة قومه، لا سيما وأنه كان يعتقد أنهم مخطئون في عملهم، وكانت صورة ابنة خالته الأميرة سلمى لا تزال أمام عينيه، وقد انقطعت أخبارها عنه بعد أن رحل بها أبوها عن حاصبيا ووصله نعيه، ولكنه لم يصله من مصدر يوثق به ولا كتبت إليه خالته في هذا الشأن، ورأى المستقبل كله مظلمًا أمام عينيه، فجلس على عين ماء في ظل صخر وغسل يديه ووجهه وكان التعب قد أخذ منه كل مأخذ، فاتكأ على الصخر وران سلطان الكرى على جفنيه، وحلم أنه وصل إلى بلاد حوران، فأحله شيخها على الرحب والسعة، وصار يركب مع قومه، ويغزو العرب المجاورين لهم، فوقع في أيديهم أسيرًا ووضعوا القيود في يديه ورجليه وضيقوا خناقه، ورأى الأميرة سلمى وهو على تلك الحالة، فإذا هي مع الجواري تحلب البقر وعليها ثياب أسمال، وسيدتها تشتمها وتضربها، فهب لكي ينقذها منها، ونسي قيوده وسلاسله فوقع وأصاب جبينه الصخر فشدخه، فنهض من نومه والدم ينزف من جبهته، فقال: هو حلم ولكن ما أقبحه! وعاد يغسل جبينه إلى أن انقطع الدم.