زيارة الوالي
جلس الكولونل روز في مكتبته، وتطلع من الشباك الشرقي المطل على حديقة المنزل، فوقع نظره على أشجار التفاح والخوخ «الدراقن» والرمان، وقد كادت أغصانها تتكسر من ثقل حملها، ورأى البستاني يجول بينها يتفقد ما يقع منها ويلتقطه، ورفع نظره إلى الجبل فرأى الظلال تمر عليه مر السحاب، فتذكر العام الماضي حينما كان الدخان مسردقًا عليه من احتراق بيوته، وشكر الله على انقضاء أيام الشدة.
وكان فؤاد باشا قد أرسل إليه في الصباح يقول إنه قادم لزيارته عصر ذلك النهار إذا كان مستعدًّا لاستقباله حينئذ، فجلس الآن في انتظاره وبعد هنيهة دخل السر هنري، وقال: حان الوقت. فالتفت الكولونل إلى ساعة كبيرة دقاقة قائمة في زاوية الغرفة، وقال: نعم يصل بعد عشر دقائق، وهو يمتاز على غيره من ولاة الأتراك بشدة تدقيقه في الوقت. ثم التفت إلى السر هنري وقال: على ماذا أجمع رأيك؟
فقال السر هنري: لا بد لي من الذهاب بنفسي، فقد أتاني كتاب من الأمير أحمد أرسلان أنه قائم مع الشيخ إسماعيل الأطرش لمعاونة الأمير عمر الفاعور على بني صخر، ولا أدري على من تدور الدائرة؛ فإن الأمير حسانًا أمير بني صخر فارس مغوار لا يصطلى له بنار، والأميرة سلمى في أسره تتجرع مرارة الذل، فإذا رأى أن لا قبل له بمحاربة العرب والدروز، رحل بقومه جنوبًا أو شرقًا، وزاد في إذلالها إلى أن ترضى به زوجًا لها أو تموت حسرة.
فقال الكولونل: وكيف تذهب بنفسك إذا كانت الحال على ما ذكرت؟! وأي فائدة من ذهابك؟!
فصمت السر هنري وفكر في الأمر هنيهة، ثم قال: أظن أن هذا هو الرأي الصواب؛ فنطلب من الوالي مائتي فارس وأنا أقوم بنفقاتهم.
فقال الكولونل: ولا أظن أنه يمانع إذا ذهب معك عشرة من الجنود البحارة لحمايتك.
ووصل فؤاد باشا في الميعاد وكان راكبًا جوادًا مطهمًا، وأمامه ووراءه كوكبة من الفرسان فلاقاه الكولونل إلى باب المنزل، وتصافحا وسلم على السر هنري مصافحة؛ لأنه كان قد رآه مرارًا في المخابرات السابقة، وجلس الثلاثة في غرفة الاستقبال يدخنون التبغ الجبيلي، ويتجاذبون أطراف الحديث باللغة الفرنسوية، فأبان فؤاد باشا أن مهمته قد انتهت ولا يبعد أن يعود من سورية قريبًا، وشكر للكولونل روز وللسر هنري ما أبدياه من المساعدة له هما وحكومتهما، واستطرد الكولونل روز الحديث إلى أحوال الدروز في جبل حوران وأحوال البدو المجاورين لهم، فرآه عارفًا بما بينهم من الضغائن، وبنشوب الحرب بين عرب الفضل وبني صخر، وبانحياز الدروز إلى عرب الفضل، وحاسبًا أن هذه الحرب ستضعف الفريقين، فيسهل كبح جماحهما والتسلط عليهما، فأخبره الكولونل أن في أسر بني صخر أناسًا يهم السر هنري إنقاذهم منهم، ويود أن يذهب إليهم بحامية من الجنود العثمانية.
فاستحسن فؤاد باشا ذلك، وعرض عليه خمسمائة فارس يرسلهم مع السر هنري، فشكره السر هنري على ذلك، وانتقلوا إلى الكلام على حكومة لبنان، وغرض فرنسا من رد ولايته إلى الأمراء الشهابيين، واعتراض اللورد دفرن على ذلك، فأبان فؤاد باشا أنه كان يفضل أن يقسم الجبل إلى قسمين يضاف قسم منهما إلى ولاية دمشق، وقسم إلى ولاية بيروت، فبيَّن له الكولونل أن الدول الأوروبية لا توافق على ذلك، فليس من الحكمة محاولته أما البقاع فلا بأس بضمه إلى ولاية دمشق؛ لأن أكثر سكانه من غير المسيحيين.
ولما انتهت الزيارة قام فؤاد باشا فوُدِّع بما قوبل به من الإكرام.