فصل الخطاب
مر على الأمير أحمد أيام لم ير أشد منها إلى أن خرج من حدود الشام ودخل بلاد حوران، ولم يكد يصل إلى تلك البلاد حتى التقى بجماعة من دروز لبنان، فعرفوه وساروا به إلى الشيخ إسماعيل الأطرش، فرحب به وأكرم وفادته وأنزله في أفخر بيوته، وأقام جماعة من رجاله على خدمته، والتفَّ حوله كثيرون من دروز الجبل ومشايخهم الذين هربوا من لبنان، وكانت عيون الشيخ إسماعيل تتسقط الأخبار وتأتيه بها من كل ناحية، فلا يجري شيء في دمشق ولا في لبنان ولا في بيروت ولا في بلاد الجولان كلها؛ إلا ويأتيه خبره، وكان له أصدقاء في بيروت يرسلون إليه بما يبلغهم من أخبار الأستانة وأخبار البلدان الأوروبية، فيقف على أهم الأخبار السياسية، وقد بلغه كل ما حدث في مؤتمر بيروت، وما قرَّ عليه قرار أعضائه من اختيار والٍ مسيحي للجبل من غير طوائفه، فأخذ يتداول مع الأمير أحمد في طريقه لإرجاع دروز الجبل إلى بيوتهم، فقر رأيهما على أن الأمير أحمد يكتب إلى قنصل الإنكليز الجنرال في بيروت يطلب منه أن يوسط أمرهم عند ولاة الأمور، فكتب إليه وأخبره عن أحوال بلاد حوران وما جاورها.
ولما بلغ الأمير أحمد ما حل بخالته وأولادها، بعث رسلًا إلى الأمير حسان أميرِ بني صخر يتودد إليه ويخبره أن الأميرة هند خالته، ويطلب منه أن يطلق سبيلها وسبيل أولادها، وأرسل مع الرسل هدايا فاخرة من منسوجات دمشق وأسلحتها، وكان الأمير حسان غائبًا في بعض مغازيه، فانتظره الرسل إلى أن عاد، وقدموا إليه الهدايا وسلموه كتاب الأمير أحمد، فلم يحفل به ولا قبل الهدايا؛ لأن الأميرة هند وأولادها كانوا يسمعونه مر الكلام، فاضطر الرسل أن يعودوا فارغين، ثم أوعز إلى بعض أعوانه فاقتفوا أثرهم، وقتلوا واحدًا منهم وسلبوا ما معهم، فعادوا وأخبروا بما جرى لهم فأرغى الشيخ إسماعيل وأزبد، وكتب إلى الأمير عمر أمير عرب الفضل أنه ينجده بخمسمائة من فرسان حوران إذا قام لمحاربة بني صخر، ودارت المراسلة بينهما، ثم اجتمع الاثنان واجتمع الأمير أحمد معهما وقرروا خطة الهجوم.
وفي الوقت المعين خرج فرسان الدروز من حوران وواصلوا السير إلى أن بلغوا جبل عجلون، فالتقاهم الأمير عمر وأنزلهم على الرحب والسعة، وأولم لهم الولائم ثلاثة أيام حسب عادة الضيافة عند العرب، وقاموا في اليوم الرابع وساروا أربعة آلاف فارس، ومعهم الجمال تحمل الزاد والماء، وقصدوا البلقاء، وكانت أخبارهم قد وصلت إلى الأمير حسان، فجمع رجاله وأحلافه وخرج للقائهم في سهل فسيح يبعد عن الجبل الذي كان ممتنعًا فيه نصف مرحلة.
ونام الفريقان تلك الليلة في السهل يفصل بينهما غدير صغير وخرائب مدينة قديمة، نام الخليُّون وأما الشجيُّون فأحيوا الليل بين أحلام مرعبة وهواجس مزعجة، الأمير حسان متطير من تلك الواقعة؛ لأن غرابًا مر عن يساره حَالَمَا خرج من مضربه، وزجره فلم يزدجر، والشاعر الذي غناه بالأمس ابتدأ نشيده بقوله: «يا دار غيَّرك البلى»، واليوم الذي اضطر أن يخرج فيه يوم الثلاثاء، وهو من نحوسه، وقال في نفسه: إن دارت الدائرة على رجالي، عدت إلى المضارب وقتلت سلمى وأمها وأخويها، ولو عيرني العرب أبد الدهر؛ لأنهم سبب هذه البلية. ثم أغمض جفنيه، وكانت يده على مقبض سيفه فارتخت أصابعها ووقعت، فحلم أن جواده عثر به في حومة الوغى فسقط عنه ونهض مذعورًا، ثم عادت به الهواجس إلى فيافي الخيال، ففكر بالأميرة سلمى كما رآها آخر مرة تحلب النياق والدمع قد قرح جفنيها، فأدارت وجهها عنه خجلًا منه أو غيظًا، فشمت بها كما يفعل اللئام إذا رأوا الضعيف ذليلًا بين أيديهم، وفكر بأخويها وقد صارت ثيابهما أخلاقًا فلم تأخذه شفقة عليهما ولا رثى لحال أمهما، بل احتدم غيظًا على زوجته؛ لأنه كان يعلم أنها ترسل إليهم من طعامها.
وبات الأمير عمر لا يفكر إلا بأخذ الثأر وكشف العار، وتخطر بباله الأميرة سلمى فيردد في نفسه قول من قال:
وكاد فؤاد الأمير أحمد يطير فرحًا؛ لأن التقادير يسرت له أن ينقذ خالته وأولادها من الأسر، وقال في نفسه: إن ذلك لا بد وأن يلين قلب سلمى، ويزيل منه كل أثر من حب ذلك الرجل الإنكليزي الذي تخلى عنها وقت الشدة، مع أنه من أقدر الناس على نجاتها، كيف لا، وأساطيل الإنكليز مالئة البحر وكلمة واحدة منه للوالي تقيم البلاد وتقعدها؟! ولا بد لي من أن أبين ذلك لسلمى إن كانت تجهله.
أما الشيخ إسماعيل فلم يكن يفكر إلا بتحالف رجاله مع عرب الفضل، حاسبًا أن ذلك يعزز مقامه لدى الدولة، ويمنعها من تشديد الوطأة في طلب المتأخر من الأموال الأميرية، وكان قد بلغه أنها اكتفت بقصاص نفر قليل من رجال الجبل وعفت عن الباقين، فلم يبق له هم إلا أن تعفيه من الأموال الأميرية، وود أن تنتهي هذه الواقعة بأسرع ما يكون؛ حتى يعود رجاله إلى حصد زروعهم.
ولم يكد ذنب السرحان يعلو فوق الأفق حتى ماج المعسكران، وعلا صهيل الجياد وهدير الجمال واشتدت الضوضاء، وجعل الفريقان يتأهبان للهجوم، فانقسم كل فريق إلى أقسام، وكان كشافة الأمير عمر والشيخ إسماعيل قد طافوا في البقاع التي حولهم وعادوا فأخبروا بما رأوا، فنقَّح القائدان خطة الهجوم.
أما الأمير حسان فإن رجاله كانوا يعرفون كل شعبة من تلك الشعب وكل بقعة ومنهل، فاستدعى مشايخهم، وكرر عليهم بيان الخطة التي يقابلون بها عدوهم وموضع الكمين الذي أقامه لهم، ولم تكد الشمس تبزغ من وراء الأفق حتى اصطف الجيشان، وابتدأ إطلاق البنادق وأخذوا في الكر والفر والالتحام والانفصال، وعلا العثير فسد منافس الفضاء، وصاح الأبطال واصطدم الشجعان، وتثلمت البيض الصفاح، وتكسرت عوالي الرماح، وحلقت العقبان والقشاعم، ووقفت الضباع في أوجارها تستروح رائحة الملاحم، وقام ملاك النقمة على رابية متهلل الجبين وهو يقول: لا تطهَّر المآثم إلا بالدماء ما دامت القلوب مباءةً للشحناء.
وعلت الشمس واشتد الهجير والحرب سجال والفريقان ككفتي ميزان تعبث بهما الرياح، وهربت الأصلال من وقع سنابك الخيل، وتعذر عليها الانسياب على الرمضاء، فغارت في نوافق اليرابيع، وبينما الجياد تكاد تسبح في عرقها، هبت ريح صرصر فجففت أبدانها ويبست جلودها، ولم تكد الشمس تميل عن الهاجرة حتى ظهر الوهن في رجال الأمير حسان، فصارا يتقدمون خطوة ويتأخرون خطوتين كمد البحر إذا ابتدأ جزره، وعرب الفضل والحوارنة يضربون في وجوههم وفي أقفيتهم إلى أن أوصلوهم إلى محلتهم وأبعدوهم عنها، فعلت جلبة النساء والأولاد، وكان الأمير أحمد أسرع الجميع إلى محلة بني صخر يحمي ظهره مائة فارس من فرسان حوران، فجعل يفتش عن خالته وأولادها، حتى وصل إلى المضرب الذي كانوا محروسين فيه.
ولم يكد يصل إليهم حتى علت الصيحات وراءه، وهب رجال الأمير حسان في وجهه؛ لأن الكمين ثار من مكمنه في تلك اللحظة، واندفع وراء عرب الفضل والحوارنة، فصاروا بين جيشين: جيش الأمير حسان المتظاهر بالانكسار أمامهم، والكمين الذي كمن لهم؛ فارتبكوا في أمرهم ولم يروا إلا الصبر في ذلك المأزق الحرج، فانقسموا فريقين: فريقًا وقف في وجه الكمين، وفريقًا في وجه الأمير حسان ورجاله، ويالها من ساعة تكسرت فيها البيض الصفاح، وبيعت الأرواح بيع السماح، وتطايرت الجماجم عن الأبدان، وانتشرت الجثث على الصحصحان! وبينما القوم يجرعون الموت الزؤام، ويحسبون أن لا مناص لهم من شرب كأس الحمام، وقد زرَّت الربى عليهم جيوبها وأدارت المنون عليهم خطوبها؛ علا الغبار من الشمال فظنوه إعصارًا، وماج السهل بالفرسان فخالوه تيارًا، وقال كل لسان: الدولةَ الدولةَ، جنود النظام ببيارقها، وفرسان الحكومة ببنادقها. فحار الفريقان في مَن المعنيُّ بهذه الغارة! ورأوا فرصة للكف عن القتال، فكفوا إلى أن تنجلي واقعة الحال.
ولم يكن إلا دقائق قليلة، حتى وصلت الفرسان وقد عقد لواؤها لسليم باشا من أمراء الجيش العثماني، ومعه السر هنري بدمونت ونفر من الجنود البحارة، فوقعت مهابة الحكومة على الخصمين، فانفصلا ووقفا منتظرين الأوامر، ولما تم انفصالهما نادى سليمُ باشا الأميرَ عمر والأميرَ أحمد والشيخَ إسماعيل، فاقتربوا منه وترجلوا في حضرته، فأمرهم بالركوب ثانية، ثم نادى الأمير حسانًا، فلم يكن مجيب، وأخذ رجاله يفتشون عنه، فوجوده ملقى بين صخرين جريحًا، استدلوا عليه من جواده الواقف أمامه، فإنه أصيب برصاصة في صدره فصرعته، ولكنها لم تخطف أنفاسه، فحملوه إلى أمام سليم باشا مغمى عليه لكثرة ما نزف من دمه، وبادر الطبيب إلى قطع النزف ومواساة الجرح، وعادوا به إلى مضربه، فأسلم الروح وهم في الطريق، وأحضر سليم باشا ابن عم الأمير عباس فنصبه أميرًا على قبيلته.