التفتيش الأول
لما حان الوقت الموعود لذهاب السر هندي بدمونت إلى الشويفات لزيارة الأمير أحمد، والتفتيش عن المغارة التي فيها رفات جده كونت بدمونت؛ خاطب الكولونل روز في ذلك، وطلب منه أن يسمح له بذهاب الترجمان معه؛ لئلا يجد الأمير أحمد غائبًا فيتعذر عليه التكلم مع أحد؛ لأنه لا يعرف كلمة من العربية، وقام في الصباح وركب جواده، وركب معه الترجمان أيضًا وقواس من قواسة القنصلاتو، وساروا نحو الشويفات، فوصلوها بعد ساعتين من الزمان، ولقوا الأمير أحمد في انتظارهم عند نهر الغدير، ومعه جماعة من الأمراء أبناء عمه والخدم والحشم، فرحبوا بالسر هنري وساروا أمامه، وكان الأمراء بالخيول المطهمة، وقد غطوا سروجها بصفائح الذهب الوهاج فوق لبد الشعر الأسود، وقلدوا أعناقها برصائف من الذهب لوسواسها نغم شجي تسمعه الأصائل وتطرب بد، فيزيد إعجابها وتهاديها، فتظنها ترقص رقصًا وهي تسير زميلًا.
حتى إذا بلغوا دار الأمير أحمد استأذنوا السر هنري في نصب الميدان إكرامًا له، وانقسموا قسمين، وجعلوا يكرون ويفرون ويتراشقون بالجريد فطرب لذلك طربًا شديدًا، وكانت الشمس قد تكبدت السماء واشتد الهجير فشكرهم على ما أبدوه له، وقال إنه طالما تمنى أن يرى ميدانًا مثل هذا يلعب فيه أمراء البلاد على صهوات الصافنات الجياد، ثم ترجل وترجلوا ودخلوا ديوانًا جلسوا فيه، واستراحوا هنيهة، وقدمت لهم الشربات والشبقات، ومد السماط وعليه فاخر الطعام، وأتى بعده بالحلويات، وكانوا ثمانية: الأمير أحمد، وخمسة من أبناء أعمامه، والسر هنري، والترجمان، وأكل السر هنري من كل الألوان، واستطابها على دسمها، وكان يكلم الأمير أحمد بالفرنسوية وهو يترجم لأبناء عمه.
واستراحوا بعد الطعام ساعة زمانية، ثم التفت السر هنري إلى الأمير أحمد وقال له: لا بدَّ لي من العودة إلى بيروت الليلة، وأرجو من فضلك أن ترسل معي واحدًا من أتباعك يريني ما حول بلدكم من المغاير. فقال الأمير أحمد: أنا أذهب في خدمتك، فهل تريد أن نذهب راكبين أو ماشيين؟ فقال السر هنري: بل أفضل أن نذهب ماشيين، إلا إذا وجدت في ذلك مشقة أو كان المكان بعيدًا جدًّا.
فضحك الأمير أحمد وقال: إني أجري النهار كله وراء الصيد، وأحب ما عليَّ أن أمشي معك، لا سيما وأننا مضطرون أن نصعد وننزل في أماكن لا تسير الخيل فيها. ثم قاما وودعا الحضور وسارا وحدهما قاصدين المغاير، التي كان الأمير أحمد يمر بها وهو يجري وراء الصيد، فنزلا أولًا إلى غربي القرية، ودارا إلى جنوبيها وشرقيها وهبطا في جهة كفر شيما، ومشى معهما ثلاثة من خدم الأمير، وكانا كلما وصلا إلى باب مغارة يراجع السر هنري ما قاله ولف خادم جده عن وصف المغارة والجهة التي تطل عليها، ويدخل الخدم المغارة ويخبرون عما رأوه فيها، واستمروا على هذه الحال نحو ثلاث ساعات إلى أن أجهدهم التعب، ومالت الشمس إلى المغيب ولم ير السر هنري مكانًا ينطبق على الوصف الذي عنده.
وبينما كان السر هنري والأمير أحمد يجوبان الشعاب والهضاب يفتشان عن المغارة التي دفن فيها الكونت بدمونت، كانت الأميرة هند خالة الأمير أحمد قد ذهبت هي وابنتها وابنة سلفها إلى نبع ماء في مكان بين كفر شيما والشويفات، وتغدين هناك، ثم تبعتهن أم يوسف، وأتى معها رجل قزم كثير الهزل والمزاح يسمى عنتر، وهو من أفكه الناس حديثًا، وأسرعهم خاطرًا، يقيم في دور الأمراء للهزل والتهريج، فلما وصل قال للأميرات: خافت أم يوسف أن تخطفها الجن إذا أتت وحدها، فأتت بي معها مع إني أكدت لها أن الجن تخاف منها، ولو لم يكن أبو يوسف أعمى القلب ما وقع هذه الوقعة، ولكن «لا فولة مسوسة إلا ولها كيال أعمى.»
فانتهرته أم يوسف وقالت: اسكت يا خبيث، وخلِّنا من لسانك ولا تذكر مسألة الجن، فإن الست سلمى لا تصدق بالجن ولا بالعفاريت.
فقالت الأميرة صفا: دعونا من سير الجن والعفاريت، فإني خفت في المرة الماضية، ولم أنم طول الليل.
فقال القزم: الحق في يد الست صفا، وأنا أخاف من الجن لئلا تخطفني، على فيقة يا ست هند أتاكم ضيوف من أولاد عمكم مَلَئُوا الدار.
فقالت: قبحك الله على هذه البشارة، نحن نهرب من الناس والناس تلحقنا.
فقال: إذا أردت أن تتخلصي منهم، فلا أسهل من ذلك؛ ديِّني الفقير منهم فلا تعودي ترين وجهه، واطلبي من الغني أن يدينك فلا يعود يرى وجهك!
فقالت: أصبت، وإن كان فراق البدوي بعبا، فلا كان البدوي ولا كانت العبا.
وقبل أن تتم كلامها وصل الأمير أحمد والسر هنري والرجال الثلاثة الذين معهم، فاضطربت الأميرات لما رأين رجلًا بثياب إفرنجية، ولكن لم يطل اضطرابهن؛ لأن الأمير أحمد كان قد أخبرهن أنه لقي في بيروت عند القنصل شابًّا إنكليزيًّا من عائلة شريفة، وأنه وعده بزيارة الشويفات بعد أيام قليلة، فلما رأينه أدركن حالًا أنه هو الشاب الذي أخبرهن عنه، وتقدم الأمير أحمد وعرفهن به.
فنظرت إليه الأميرات معجبات من جمال طلعته، واعتدال قامته، ونظر هو إليهن فرأى الجمال الشرقي الذي قرأ عنه في حكاية ألف ليلة وليلة وكتب الروايات والرحلات، وكان يظن أنه من قبيل الشعر والمبالغات.
ودعتهما الأميرة هند للجلوس معهن وشرب القهوة، وقدمت لها السكاير، وسألت السر هنري عن كيف رأى البلاد، وعما إذا كان معه أحد من أهله، وطلبت إليه أن يزورهم ويضيفهم تلك الليلة، وكان الأمير أحمد يترجم بينها وبينه، فأجابها السر هنري أنه آسف؛ لأنه ثقَّل عليهن بمجيئه إليهن في تلك الساعة، ولكنه سرَّ جدًّا برؤية الأميرات الشهابيات، وأنه كان يحسب أنهن يتحجبن مثل سائر نساء الجبل، فإذا هن مثل الأميرات في بلاده؛ لا يحرمن مخلوقات الله من نظرهن، كما لا تحرم الشمس النبات من باهر أشعتها.
فسرَّت الأميرة هند بهذا التشبيه، ونظرت صفا وسلمى إليه باسمتين ثم أطرقتا حياء، أما القزم فكان يتأخر إلى الوراء رويدًا رويدًا وهو يزور بعينيه ويقلب شفتيه، والتفت إليه الأمير أحمد وقال له: مالي أراك تهرب منا يا عنتر؟!
فقال: متى حضرت الملائكة هربت الشياطين. فقال الأمير: إذن كان يجب أن تهرب قبل مجيئنا.
فقال عنتر: كنت عازمًا على الهرب، ولكن أم يوسف مسكتني؛ لأنه لا يطيب لها عيش في البعد عني.
فقالت أم يوسف: اسكت يا لعين، وخلنا من شرك فأنت في كل عرس لك قرص.
والتفت السر هنري إلى الأمير أحمد كأنه يستفهم منه عما يقوله القزم، فترجمه له فضحك وهو يقول في نفسه: هذا مجلس من مجالس الأمراء حقيقة، وهذا من الأقزام الذين لا يخلو منهم مجلس أنس من مجالس الملوك.
وكان الخدم قد غلوا القهوة وأرادوا تقديمها للسر هنري قبل غيره، فأبى إلا أن تقدم إلى الأميرات أولًا. فقالت له الأميرة هند: إذن العادة عندكم مثل العادة عندنا تقديم الأميرات على الأمراء. وترجم له الأمير أحمد ذلك، وقال له: إن هذه هي العادة عندنا أيضًا، ولكنها خاصة بالأميرات، وأما سائر الناس فرجالهم مقدمون على النساء في كل شيء. فعجب السر هنري من ذلك، وقال: إذن لم يفضل أميرات الشرف إلا لأن حقهن في التفضيل أثبت من أن ينكر.
وكان مجلسه مواجهًا لمجلس الأميرة سلمى، فلم يسعه إلا النظر إليها مرة بعد أخرى، فصبغ الحياءُ وجنتيها وزادها جمالًا على جمال، ولحظ حرج موقفها، وشعر من نفسه أنه في موقف تذوب فيه المهج، فنهض واستأذن في الانصراف، فنهض السيدات إجلالًا له، فودعهن مصافحة، وعاد أدراجه هو والأمير أحمد وهو مبلبل الأفكار، وخاف أن يظهر أمره، فجعل يحاول جمع أفكاره المشتتة وهو ينظر إلى ما حوله فيرى صورًا تمر أمام عينيه ولا يفقه لها معنى، إلى أن وقعت عينه على نبات صغير الورق له ثمر أحمر كحبوب المرجان، فوقف وقال للأمير أحمد: انظر، هذا نبات الفوَّة الذي يستعمل في الصباغة، وهذه أول مرة رأيته نابتًا.
وكان عارفًا بعلم النبات مغرمًا بجمع الحشائش، فأخذ يصف بعض ما يراه منها لكي يخفي ما به من تبلبل الأفكار.
ولجَّ عليه الأمير أحمد لكي يبيت عنده تلك الليلة، وأرسلت أمه تلجُّ أيضًا، فاعتذر بأنه لا بدَّ من عودته حالًا لكي يكتب مكاتيبه لقيام سفينة البريد في الصباح، لكنه وعد بالعودة في الأسبوع التالي لاستئناف البحث عن المغارة.