مطارح النظر
التنازع سنة الكون، به ارتقت أنواع الحيوان والنبات، وإليه مرجع التفاضل بين الشعوب والأمم، وهو شامل لأعمق عواطف النفس، كما أنه عام لما في الكون من العوالم.
كان السر هنري بدمونت مغرمًا بابنة خاله إفلين برادن، يراها عين الكمال ومجمع الجمال، وهي تدل عليه ولا ترى في قلبها ما يجذبها إليه؛ لأنها رأت منه سيرًا على غير الطريق السوي، مثل أكثر الشبان الذين يربون في نعمة وينغمسون في الملاهي، فإن أمه أرسلته إلى مدرسة أكسفرد، وقطعت له مائة جنيه في الشهر، فكان ينفقها وينفق فوقها، وهذا شأن أكثر الشبان في تلك المدرسة، وكان قليل الدرس ولكنه ذكي الفؤاد، فحصل ما يكفي لنيل الشهادة، وخرج من المدرسة ولا مطمع له في الدنيا إلا ابنة خاله فلا يرى غيرها، ولما رأى منها الدل والصدود رهن نفسه لمشيئتها، وانقطع عن الملاهي، وعكف على الدرس، وطلب المعالي، ولا غاية له إلا رضاها حتى حسدها عليه أترابها، أما هي فبقي الدلال شأنها والغنج ديدنها، وحدث ذات يوم أن ذكرت ألقاب الشرف وأنساب الشرفاء، فقال إن جده كان مع الملك ركارد ملك الإنكليز الملقب بقلب الأسد، وإنه كان فارسًا مغوارًا، وأنعم عليه الملك بلقب كونت قبل وفاته.
فتبسمت إفلين قائلة: أراك تصدق هذه الأقاصيص الموضوعة كأنها حقائق راهنة.
فقال لها: هذا ليس من الأقاصيص الموضوعة، بل هو خبر ثابت بالسند المتصل، وأنا أصدق ولف كما أصدِّق أصدَق الناس، والفارس الباسل لا يكذب ولا يختلق الأخبار، وقد ذكر ولف في الخبر الذي نقل عنه أنه وضع وثيقة لقب جدي على صدره لما دفنه، وهذا كلام من رأى بعينه ولمس بيده، نعم إن منحه هذا اللقب غير مذكور في سجل الألقاب، ولكن أي سجل يحفظ بالتدقيق والناس في دار الحرب، ولم تصفُ الأيام لقلب الأسد بعد رجوعه وخلاصه من الأسر حتى تطالبه عائلتنا بإثبات ذلك في سجلات الحكومة.
فبقيت إفلين على ريبها، وقالت له: إن أنت وجدت الوثيقة أثبتَّ الكونتية لك؛ لأنك الوارث الوحيد له الآن.
فقال: نعم، وسأفعل ذلك وأبذل دونه كل مرتخص وغال إن كان يرضيك.
وكانت تتكلم معه على سبيل المزاح، أما هو فأخذ الأمر بالجد، وجعل يفتش في كتب الأنساب والتواريخ، وعقد النية على الذهاب إلى سورية ليفتش عن الوثيقة فيها، وكان قد انتظم في وزارة الخارجية، فطلب أن يُنقل إلى بلاد الشام، فنقل أولًا إلى الأستانة ثم إلى مدينة بيروت وآماله معلقة باكتشاف الوثيقة وإرضاء ابنة خاله وهو لا يرى غيرها أمام عينيه، أما الآن فعاد من الشويفات على غير ما ذهب؛ فقد ذهب إليها وفي قلبه شخص واحد وأمام عينيه مطلب لا يرى سواه، وهو أن يعود بالوثيقة فترضى ابنة خاله عنه، وترتفع منزلته في عينيها، وعاد وقلبه يتنازعه شخص آخر، شخص الجمال والدلال؛ فتاة لم ير أجمل منها في بلاده ولا في غيرها، فتاة من نسل الأمراء الذين حاربوا فرسان الصليب ودحروهم في بلاد الشام، ولقد ربي مع ابنة خاله وشب معها وأحبها كما يحب الأخ أخته، ولكنه كان يشعر دائمًا أنها بعيدة عنه، وازداد البعد بتقدمهما في السن، فظن أنه لم يملأ عينيها لسيره في طرق لا ترضيها، فغير أسلوب معيشته وبذل جهده في مرضاتها، وكلما ظن أنه بلغ المراد رأى أنه لم يزل حيث كان بالنسبة إليها، لا هي تقصيه ولا هي تدنيه، لكنه لم يفشل ولا قطع الأمل، وقد تحمل مشقة السفر إلى بلاد الشام قربة منها وزلفى.
والآن شعر كأن آماله كلها كانت أماني، وإفلين لا تحبه إلا كما تحب الأخت أخاها، تهتم بأمره وترجو له الخير والفلاح، تحزن لحزنه وتفرح لفرحه، تتألم إذا أصابه مكروه، وتفتخر إذا فعل فعال الكرام، وتفتديه بنفسها إذا وقع في شدة، ولكنها لا تلقي اعتمادها عليه ولا تحسب إنه الرجل الذي يكفلها في السراء والضراء.
ثم قال في نفسه: ولكن من هذه الأميرة؟! ومن هم قومها؟ وما هي أخلاقهم وأطوارهم؟ ومن أي مذهب هم؟ وكيف ينظرون إليَّ؟! وقد لا أراها بعد الآن، وقد تكون مخطوبة أو متزوجة، وقد يكون أهلها أرفع مني حسبًا ونسبًا فلا يتنازلون لمصاهرة أناس مثلنا. كنت أستطيع أن أسأل الترجمان عنها، ولكنه يعد ذلك فضولًا مني، ولا يبعد أن تكون خطيبة للأمير أحمد وهي ابنة خالته، ولعلها احمرت لما رأته. لم تتكلم على مسمعي غير كلمة واحدة حينما عرَّفها بي، فقد قالت بالفرنسوية إنها تسر بمعرفتي، ما أمهر هؤلاء الفرنسويين في تعليم لغتهم ونشرها في الآفاق! هذا كله فعل الرهبنات، يطردونهم من بلادهم وينفقون عليهم في سائر البلدان لينشروا فيها لغتهم. لا بدَّ من إيضاح ذلك لنظارة الخارجية حتى تهتم حكومتنا بنشر لغتنا اهتمام الفرنسويين بنشر لغتهم.
سأكتب لأمي عن هذه الفتاة، وهي تقرأ كتابي لإفلين فتثور الغيرة في قلبها، ذلك القلب الطاهر، قوتل الرجال ما أقل وفاءهم! لا لا، لا أنساك يا إفلين أبدًا، إن افتكاري بهذه الأميرة السورية من قبيل الجنون الوقتي الذي يعتري الشاب، دقائق جديدة تكونت في دماغي كما يقول العلماء ارتسمت فيها أول صورة وقعت عليها، لكنها تزول سريعًا كما ارتسمت سريعًا.
خطرت هذه الخواطر على بال السر هنري، وناجى نفسه بها وهو ماسك القلم وعازم على الكتابة لأمه، ونظر إلى ساعة أمامه، وقال: حسبي من أحلام الصبا. وأنغض رأسه مسرعًا كأنه يجزر ذبابًا حط عليه، وغرضه نزع هذه الأفكار من باله، وشرع في الكتابة، فملأ صفحات كثيرة وصف فيها كل ما لقيه في ذهابه إلى الشويفات ورجوعه منها.