تقريظ
وَرَد لنا هذا التقريظُ من المجيد البارع والأديب بلا منازع، شاعر العصر ومنشئ أبناء الدهر، المتحلِّي بفرائد الأدب، المنتقى من أطيب الحسب، من لا تزال غيوث مكارمه تهمي عزتلو سليم بك رحمي، قال حفظه الله:
التاريخ هو العماد الأقوى لارتقاء الأمم وتقدُّم الممالك، به تُدرِك الألبابُ مزايا الفضائلِ فتتنافس في السبق إليها، وبِهُداه تعتصمُ من غيِّ الخطأ فَتَرقَى ذُرى الكمالات، وبنورِ كواكبِه تستضيءُ الأكوان فيَهتدِي كلٌّ إلى السبل الواضحة، وتَحفظ الأجيالُ لأبنائها والأبناء لآبائها جميل الذكر ورفيع القدر، ويمهِّد بما اسْتكْنَت صدورُه، وطوت سطورُه، لمن استمدَّ بأنوار عرفانه، وشموس حقايقه أسبابَ الفوز بما تحنُّ النفوس الشريفة لإحرازه، وتهِيم الألباب المطهَّرة لإدراكه، فهو بهذا السرِّ الجليل مرآة يرى فيها الناظرون صورَ الأعمال وحقائق الأحوال، فيَتَهَيَّمُون بمحاسن ما تُبديه، ويتباعدون عمَّا يشين مجد الفتى ويُزْرِيه؛ ولذا كان المُجِدُّون في كشف غوامضه أحرصَ الناس على إعلاء منار المعارف، وأقومَهم عزمًا في تعميم مزايا التهذيب، وتقريب ما عساه أن تحيد عنه الألباب القاصرة والهمم الفاترة.
نعم، إن رجال هذا الفن الشريف قد تدفعهم الغايات لما تَنطَمِس دونَه أقمارُه النيِّرَةُ، فيحبط مسعاهم ولا تحسُن عُقباهم. ولكن يَقَظة المتأخِّرين وفِطْنَة الخبيرين لم تجعل لتلك الأغراض على مصنَّفَاتهم سرادق، فكانتْ بين هاتيك التآليف كالبدر بين الكواكب، والضياء الوهَّاج يمحُو الغياهب، فأزالت ما كان اعْتَرى وجهَ التاريخِ من الغُمَم، وأزاحت عن رياضِه الزاهرةِ جنحَ الظُّلَم، وبذا ارتقى نَيْرُه الأعلى، وعَمَّ الوجودَ نفعُه الأجلى، فتسابقت الأمم لاجتناءِ ثماره، واستنشاقِ عبيرِ أزهاره. ولم تكتفِ أمة بالاطِّلاع على أنبائها، وسِيَر أمرائها، بل صار الكلُّ حريصًا على سَعَة الاطلاع، وازدياد الثمرة، وتَعميم الانتفاع، فعَلِمَت آلُ المشَارقِ شئونَ مَنْ بالمغارب، ولاحَ للمستبصرين في أعمال الجميعِ كلُّ ساطعٍ وغارب، وحينئذٍ أصبح العلم بتلك المكنونات لجميع المخلوقات من آكَدِ المندوباتِ، وأَوْجَب الضروريات.
وليس بين أولئك المطلوب مَنْ يمنعه عن إظهارِ الحقائقِ حجاب؛ رغبةً في تبرئتهم مما نُسِب لسابقيهم، وليكون فضلُ تصنيفهم قدوةً للاحقيهم؛ إذ كان من سلفوا يجعلون المصنَّفات وصلةً للغايات؛ فمنهم من كان يسلُك الخرافات؛ لجهل قومه، أو لسوء فهمه، فَضَلَّ وأَضَلَّ، واستضعف واعتلَّ؛ ومنهم من خشي السطوة، وحاذر من المعاملة بالقسوة، فنوَّهَ ولم يتفَوَّه، وأَوْهَم وأَيْهَم، وورَّى ووَارَى، وأَضْمَرَ وتطيَّرَ، فجاءت خطوطُ يَرَاعهم ناطقةً بانعكاس طباعِهم؛ ومنهم من سلكَ بين ذلك قوامًا، ونالَ بالاحتيالِ للتخلص من الأذى مرامًا، فتداولت الأيدي ما سطَّره، ووَعَت الأسماعَ ما أظهرَه، وقدَّمَه وأخَّرَه، ونمَّقَه وحبَّرَه. ولكلٍّ في هذه الأحوال مِنهاج ومنوال.
أما مؤرخو هذا العصر، فقد برَّأَتْهم التجارب من هذا الوزر، وأيقنوا أن التواريخ ليست إلا بمثابة شاهد عدلٍ بأعمال من قبل، وأن للمطَّلِعين حقَّ الحكم والاحتكام في صدق ما تُسَطِّرُه الأقلام، وتجُول في ميادينه الأفهام، فإن طابقت المقدمة النتيجة، وتضَوَّعَت بشذاها رياضُهم الأريجة، ساغ لديهم جناها، وحمدت سرائره سراها.
وقد رأيت من أجلِّ المصنفات الوسيمة والكتب التاريخية ذات المنافع العميمة، المصنفَ الرائق الذي تدفَّقَ من ينابيعِ بيَانه الحقائق، الكتابَ المسمَّى «لب التاريخ العام» الذي أتى — بفضل منشئه — شاهدًا، ويعلو مكانته في دولة العرفان مؤيدًا. كيف لا، وقد حاز من براعة العبارة ولُطْف الإشارة وانْتِسَاق الأوضاع ما تَأْلَفُه الأسماع، وتصبو الأرواح لاجتنائه، وتهيمُ ألباب العارفين لحسن تنميقه وازدهائه؛ لاشتمال أساليبه البيِّنَة المفعمة بالإجادة، والإبداع في صحَّة الترجمة.
تقريظ آخر
ورد إليَّ هذا التقريظُ والتأريخ من صديقي الفاضل، الأديب الشاعر المنطبق حضرة الشيخ أحمد مفتاح، فتلقَّيْتُه بيد الشكر، وها هو يتلو بين يديكم سورة البلاغة، قال رعاه الله:
أَدَرْتُ طرفي في رياضِ هذا المؤلف البديع، فألفيتُه روضًا تلوَّنَتْ أزهارُه، وتنوَّعَت بدائعُه المُزْدهرة، واحتوى على نبذة من التاريخ وهي في الحقيقة مجموعة، كيف لا، ومؤلِّفُه الشاب النجيب والجهبذ المهذب المتضلِّعُ من فنون الأدب: «أحمد أفندي حسن» ما زال يهدينا من حدائق فكره ما تَبْتهِج له نفوسنا، وتسكنُ إليه أفئدتنا، وتروي به غلل الظمأ، كما عهدناه من قريحته المجيدة، وشمائله الحميدة. فلله هذا السفر من كتابٍ يحق أن تتناولَه أيدي الفكر، قابضةً عليه بأصابع الاجتهاد، وعاضَّة عليه بِنَواجذ الطَّلَب.
أحمد مفتاح