عطاء لا ينفد
بعد ربع قرنٍ من العطاء لم يعد يوسف إدريس في حاجةٍ إلى من يُقدمه للناس، لكن احتياجهم للاحتفاء به لم يتوقف يومًا!
ومنذ نشر قصصه الأولى .. على مشارف الخمسينيات — أدرك الذين يقرءون أن مغامرًا شجاعًا في عالم الجمال قد تخلَّق. وهكذا نبضت قصصه الأولى — التي كتبها في عشرينيات عمره — برائحة عالم فنيٍّ جديد، وتشكَّلت القصة العربية القصيرة — من خلال عطائه — لتصبح بساطة آسرة، ولتشعَّ عمقًا إنسانيًّا دافئًا، هو الحصاد الطبيعي للحنو الدافق للإنسان، والحب المشبوب له، ذلك الذي جعل مغامرة يوسف إدريس الجمالية مرحلة يبتدئ بها عصرًا جديدًا في الأدب العربي.
في مصر (١٩٢٧م)، ولد يوسف إدريس في واحدةٍ من قرى محافظة الشرقية، إحدى محافظات الوجه البحري، وشهدت طفولته فصولًا من تراجيديا الأزمة الاقتصادية العالمية، ومشاهد من النضال المصري العنيد والمستبسل ضد الاستعمار، ومن أجل الديمقراطية .. وسرعان ما أصبح واحدًا من العناصر التي صبَّت في مجرى هذا النضال في الأربعينيات وفي سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما كانت أمتنا العربية تُعاني مخاض الميلاد الجديد؛ بحثًا عن استقلالها ووحدتها، وصدًى للقوى التي كانت تريد أن تكرِّس أوضاع عالم ما قبل الحرب.
وأعطته دراسته للطب وعمله به لسنوات ليست بالقليلة، الفرصة لاكتشاف «قارته» الفنية الخاصة، واستطاع — بقدرته الفائقة على التقاط أصغر الجزئيات، وأكثرها دلالة — تخلیق عالم متكامل من الفرح الفني الآسر، يعتمد الإنسان البسيط — مطحونًا ومسحوقًا وضاحكًا وحزينًا — بطلًا.
ولولا أنه منذ البداية صاحب موهبةٍ يندر تكرارها، وصاحب مقدرة على الملاحة في البحار الصعبة؛ لكان قد صمت بعد مجموعاته الأولى، لكن يوسف إدريس عاش في وجدان نقَّاد الأدب كما عاش في وجدان القرَّاء؛ لأنه لم يتوقف يومًا عن الإبداع الجديد، ولم يكف عن المغامرة الفنية بكل أبعادها .. كما أنه لم يكف عن تجربة كل الأنواع الأدبية، فكتب المسرحية، والرواية، والرواية القصيرة، كما كتب المقال والخاطرة.
فصاحب «أرخص الليالي» (١٩٥٤م) هو الذي كتب بعدها ثماني مجموعات أخرى هي: «جمهورية فرحات» (١٩٥٥م)، «أليس كذلك؟» (١٩٥٨م)، «البطل» (١٩٥٦م)، «حادثة شرف» (١٩٥٦م)، «آخر الدنيا» (١٩٥٨م)، «لغة الآي آي» (١٩٦٧م)، «الندَّاهة» (١٩٦٩م)، «بيت من لحم» (١٩٧٣م)، فضلًا عن مجموعة أخرى تحت الطبع.
وكتب يوسف إدريس ثماني مسرحيات، مُثِّل بعضها على المسرح؛ بينما حُجِب الآخر لأسباب رقابيةٍ: «جمهورية فرحات» (١٩٥٨م)، «ملك القطن» (١٩٥٨م)، «اللحظة الحرجة» (١٩٦٠م)، «الفرافير» (١٩٦٥م)، «المهزلة الأرضية» (١٩٦٨م)، «المخططين» (١٩٦٩م)، «الجنس الثالث» (١٩٧١م)، فضلًا عن «شلة الغد» تحت الطبع.
وكتب يوسف إدريس خمس روايات هي: «الحرام» (١٩٥٨م)، «العيب» (١٩٦٢م)، «رجال وثيران» (١٩٦٢م)، «العسكري الأسود» (١٩٦٠م)، «البيضاء» (١٩٦٨م)، كما صدر له كتابان ضمنهما خواطره وانطباعاته هما: «بصراحة غير مطلقة» (١٩٦٩م)، و«اكتشاف قارة» (١٩٧١م).
وفي بداية العام ١٩٧٥م أُصيب يوسف إدريس بانزلاق غضروفيٍّ، ثم بتليفٍ من العلاج الخاطئ، أثَّر على قلبه، فسافر إلى أمريكا حيث أجرى عملية جراحيةً خطيرة، ومكث هناك ستة أشهر يُعالج من آثارها، وبدأت تجربته في مواجهة الموت تطرح نفسها في كتاباته، فبالإضافة إلى روايته الجديدة «افتح القلب» التي قال عنها في حديثٍ صحفيٍّ: إنها لو صدرت على النحو الذي يتخيله لكفَّ تمامًا عن الكتابة، إضافة إلى ذلك استأنف يوسف إدريس بعد عودته كتابة يومياته الأسبوعية، في جريدة الأهرام، فاستمر على امتداد عدة أسابيع يكتب عن تجربته في اكتشاف أمريكا وفي مواجهة الموت.
ثم ها هو يوسف إدريس في هذه السلسلة يواجه حياتنا المصرية والعربية بجرأةٍ واقتحام، داعيًا للتحرر والمواجهة، وكي نأخذ قرارنا بأن يعيش العالم المصري والعربي حياة غير تلك الحياة المؤلمة التي نحياها!