لبنان هو البداية
وبعد ..
هذا هو لبنان قد قُسِّم أو هو في الطريق، ومع هذا لا تزال الدماء وبوعورة تسيل .. ها هم المسيحيون سيستقلون «بإسرائيل» المارونية الجديدة، وها هم المسلمون سيستقلون «بإسرائيل» السُّنية الشيعية الدرزية الجديدة .. فهل هذه هي النهاية؟ وهل ستكف الحرب مستقبلًا بين المارون والأرثوذكس، وبين اللبنانيين المسلمين والفلسطينيين، وبين السنة والشيعة والدروز؟ وهل إذا كفَّت الحرب في لبنان ستكف في مسقط أو عمان أو الصحراء أو السودان؟
أما آن الأوان أن نفيق قليلًا أو نرفع رءوسنا الممتلئة خدرًا وحربًا وطموحات وأحقادًا وأدرانًا ونتساءل: أليس هناك طريق آخر؟ إن لبنان قد يبدو النهاية، ولكن الحقيقة المُرَّة أنه ليس سوى البداية، والطريق أكثر وعورة مما قد يتصوره بعض حَسَني النية؛ بل لا أبالغ إذا قلت: إن المشكلة الفلسطينية برمتها، مشكلة اغتصاب قطعة من قلب الأمة العربية، والاستعداد للزحف على بقية الأجزاء أيضًا ليست سوى مقدمة متواضعة لما ستتمخض عنه الأيام.
- أولها: حقيقة ما تكشف لنا وللعالم كله الآن، أننا شعبٌ عربيٌّ كبير هذا صحيح، ولكننا فكريًّا أفقر الشعوب، ومع هذا فنحن نعيش فوق أغنى کنز اكتشفته البشرية في كل تاريخها القريب والبعيد .. نحن أفقر الناس نحيا فوق أغنى أرض، وليس القياس فقط بالقيمة النقدية لهذا الكنز؛ إنما القياس بأهمية هذا الكنز ليس للبشرية قاطبة؛ وإنما بالذات للنظام الغربي في العالم كله، وللصراع القائم بينه وبين النظام الشرقي، إذ هو كنز الطاقة التي تُحرك حضارة العصر الحديث بأكملها. وأنا لو كنت من أمريكا لما حفلت باستعمار العالم عسكريًّا أو بشنِّ حروب، يكفي أن أحتكر ثلاثة أشياء تجعل العالم كله يركع تحت أقدامي: القمح، أي الخبز، أملك سوقه وحق منعه أو إعطائه، والطاقة، أملك حق تخزينها أو توزيعها وتحديد سعرها واستهلاكها، والتكنولوجيا، وبالذات أسرارها العليا. إن من يملك هذه الأشياء الثلاثة يحكم العالم كله، وتأتيه أغنى دولة شيوعيةٍ أو معادية خاضعة أو متقربة، ومن بين هذه الثلاث تلعب الطاقة الدور الأول. فهي التي تزرع القمح وتُسيِّر التكنولوجيا وترسل فايكنج إلى المريخ. والطاقة يحيا فوقها العرب، ولكي يمكن الاستيلاء على الكنز والتحكم فيه لا بد أولًا من الاستيلاء على هؤلاء العرب.
- ثانيًا: ثبت أن الاستيلاء على هؤلاء العرب مسألةٌ أسهل بكثير
من اغتصاب فلسطين، أو تحويل إسرائيل إلى ثكنةٍ عسكرية
أمريكية تعتبر حاملة طائرات ودبابات أرضية، هي ومعها
الأسطول السادس البحري، كفيلان «بإخضاع» هذا الشعب
الراقد فوق أثمن كنز .. جربت السياسة الأمريكية منطق
القوة الغاشمة هذا خلال الخمسينيات والستينيات فكانت
النتيجة نوعًا من التماسك العربي الذي كاد يؤدي إلى
وحدةٍ عربيةٍ وعسكرية على الأقل — كانت في سبيلها لأن
تُصبح وحدة سياسية — وصحيح انتهت هذه السياسة بانتصار
٦٧ وهزيمة عبد الناصر رمز هذه القوة العربية الصاعدة،
ولكن الهزيمة لم تُفرق العرب، بل جمعهم مؤتمر الخرطوم،
وكاد التضامن العربي بعد الهزيمة يؤدي إلى
كارثةٍ.
من أجل هذا كان لا بد أن يُغير الغرب سياسته ويأتي بالكيسنجرية لتفتح ملفات المنطقة — قديمها وحديثها — وبالذات الملفات الإنجليزية وتتفحصها بعنايةٍ فائقة، وما أروع ما وجدت الكيسنجرية!
- ثالثها: وجدت السياسة الأمريكو غربية الجديدة أنْ لا وجود لشيء كبير اسمه أمة العرب طالما صدرت باسمه الصيحات من صوت العرب، إنما وجدت منطقة موبوءة بالقطرية والعشائرية والقبلية والتناحر الديني والطائفي والعرفي، وجدت عشرات ومئات وآلاف من الحزازات الكبيرة والصغيرة أجَّجَتها كلها حتى بلغت درجة الجحيم، صرخة الثورة السوداء المتفجرة من باطن الأرض، وبعكس ما فعله الإسلام حين هبط من السماء يوجه العرب ويبني حضارة عربية عظمی، ها هو البترول يفعل ما يفعله الشيطان، ويتفجر من باطن الأرض ليشتت ويفرق ويخلق دُوَلًا في أشدِّ الثراء وثراؤها في أيدي قِلة، ودولًا في أشد الفقر وفقرها ملك للكثرة، وليضيف إلى الصراع الطائفي والعشائري والقطري والفئوي صراعًا طبقيًّا ليس فقط بين الطبقات في البلد الواحد، ولكن بين الطبقات من دول المنطقة، صراع طبقي بين الدول والشعوب وبين الشعب الواحد، بل حتى بين أفراد القبيلة أو القرية الواحدة.
- رابعها: ما ضرورة الترسانات المسلحة إذن والأساطيل الأرضية والعائمة إذا كانت النار موقدةً وتحت الرماد، وإذا كان عود الكبريت الواحد كفيلًا بإشعال حرب يُقتل فيها من العرب أضعاف ما يمكن أن تقتله إسرائيل أو غير إسرائيل؟ «العرب» بأنفسهم عندهم الحل، وخلافاتهم وحزازاتهم كفيلةٌ بنضح الكنز تمامًا قبل أن يفرغوا هم من خلافاتهم التي امتدت من أيام الجاهلية إلى عصرنا الحاضر.
- خامسها: وحتى لا تحدث الكارثة ويبقى مال العرب في أيدي العرب وفي بلاد العرب فلنصوِّر لهم أن بإمكانهم أن «يشتروا» الغرب، أي يصبحوا من أغنياء الدول الرأسمالية الثابتة غير المهددة بخلافات وحروب ومصادرات وتأمیمات بلادٍ عربية غير مستقرةٍ .. صحيح أنه مجرد شراء «نظري» مقابل أوراق نقد مودعة في بنوكنا نتحكم نحن في قيمتها، بل حتى في قيمة رصيدها من الذهب (خسِر العرب حوالي خمسمائة مليون دولار نتيجة التخفيض الأخير في سعر الذهب)؛ ولكن المال لا يزال مالنا، والمؤسسات — رغم شرائها — مؤسساتنا، والمهم أن تبقى النقود بعيدة تمامًا عن «الأرض» العربية، وعن «المؤسسات» العربية، وعن كل ما يُساهم في جعل بلاد العرب للعرب، حتى لو أصبحت وقفًا على الأغنياء العرب.
- سادسها: إن تجربة لبنان أثبتت أن عداء العربي للعربي لا يزال أقوى من عدائه لأعداء العرب، فلنستثمر هذه التجربة، ولأبعد مدًى، ولتنتشر عدواها من الغرب إلى الشرق، ومن الشمال إلى الجنوب، وإنما حذارِ من حريق كبيرٍ يجتاح المنطقة كلها، فلتكن الجرعات منتقاة بعناية وبدقة، وليكن كل حریقٍ موقوتًا بحيث لا يحترق الكنز، وإنما ينشغل «أهل» الكنز، بكل حريقٍ ينشأ ويختلفون، ويتبادلون التهم، وينعقدون وينفَضُّون، ويدبُّ فيهم اليأس من عروبتهم نفسها، ويلتفتون إلى الخلاص الفردي، كل غنيٍّ يفكر بالهجرة بأمواله إلى الخارج، كل تكنوقراطي يفكر في العمل في بلد «متحضر» فليُستنزف المال والذكاء والبترول، ولنُبقِ لهم الصحراء والحزازات والفقر يتناحرون حولها.
وبعد؟!
یا مفكري العالم العربي.
يا شبابه.
یا عقلاءه — إن كان قد تبقى عاقل.
ولا أقول أبدًا يا حكوماته.
أرجوكم!
اعقدوا مؤتمرًا — وفورًا — لنتدارك الجهنم التي نحياها والجهنم الأكبر التي تُجهَّز لنا.