وما أدراك ما القلق!
أستطيع أن أقول: إني كنت — زمان — أُعاني من مرض الاكتئاب .. ذلك لأن الخاصية المضحكة المأساوية للاكتئاب أن الشخص الذي يبدأ يُعاني منه، لا يحس ذلك، وإنما يغوص في حالته دون أن يدري.
والاكتئاب ليس هو «الزعل» كما هو شائعٌ ومعروفٌ عنه، ليس هو الميل للحزن والوحدة … إلخ. وإن كانت هذه بعض «أعراضه». الاكتئاب علميًّا هو نوع من أمراض «القلق» النفسي، ويحدث كرد فعلٍ لا واعٍ لمشاكل عقلية ونفسية، عقلانية وغير عقلانية .. وأنا حين كنت مصابًا بالاكتئاب كان الأطباء حين يذكرون هذا لي لا أجد لكلامهم معنًی أو صدًى في نفسي، فقد كنت «داخل» الحالة، ومن يكون داخلها لا يستطيع أن يعرف لحالته سببًا، بل هو لا يدرك أصلًا أنه غير طبیعيٍّ، كل ما في الأمر أنه بعد أن يُشفى يحس أنه فعلًا كان دائمًا متوتر الأعصاب، يزدرد — وكأنما رغمًا عنه — الطعام والشراب، ويتجرع الحياة اليومية بمرارةٍ، يقوم ولا رغبة لديه أن يقوم من نومه، فاتر الهمة تجاه كل شيء. الهدف، هدفه اليومي، وهدف حياته أصلًا غير واضح مطلقًا أمام عينيه، يتخبط، تارة تعتريه حالة من المرح الكئيب المبالغ فيه، وأحيانًا يبكي وكأنه حالًا فقد أبويه وأصبح طفلًا يتيمًا محاطًا بالظلام الكامل. أحيانًا أخرى تعتريه نوبة تمردٍ هائلة، وفعلًا، كالسجين المحاصر حين يُحاول الفرار، يتمرد، ويرتكب حماقات، ويشبع نفسه بكمية حقدٍ مفاجئة على شخص ما أو وضع ما، وكأنه هو السبب في كل متاعبه. حالات تمرد ومحاولات لإخراج الطاقة العدوانية الكامنة في كل البشر، والتي تتحول عند الأصحاء الأسوياء إلى طاقة إبداع مثلًا، أو قهرٍ عاقل للظروف المعوقة أو الأشخاص المعوقين، أو طموح زائد للوصول إلى مراتب أعلى، تخرج عنده على هيئة طاقةٍ طفوليةٍ محطمة، تخربش وتجرح وتبقر بطون الكراسي، وأحيانًا بطون الناس.
أعراض كثيرة كثيرة لا حصر لها، وتأخذ عند كل إنسان طابعًا خاصًّا به نتيجة ظروفه وتكوينه وشخصيته. ولكن دائمًا هناك علامات مشتركة لدى المصابين بالاكتئاب. خاصة ذلك الإحساس الباطني الممِضُّ الذي وصفه علماء النفس بقولهم: إن الشخص المكتئب يصبح هدفه اللاواعي وكأنه يريد أن ينكمش على نفسه ويتحول إلى جنين يعود من حيث أتى إلى رحم أمه. أو باختصار أدق، يريد العودة إلى العدم الذي خرج منه، الموت.
جرَّبت كل الأطباء، هنا وفي الخارج، وكل عقاقير الدنيا أخذتها، ولم أُشفَ .. ذلك لأن الحالة كانت أكبر منِّي، وكان الجزء الأكبر منها راجعًا إلى القلق العام على مصيرنا، فكأنه، القلق بلا حلٍّ سريع، يحدث في حياتي وأراه القلق بلا مخرج.
ولم أكن أعرف أن عقلي العميق جدًّا يعمل في اتجاه آخر، يريد الموت ويطلبه، حتى إني كثيرًا ما حلمت به، يأتي رقيقًا جميلًا كالحلم الهفهاف، أحس بروحي تنسحب من الجسد وكأنها قوس كمان تعزف بانسحابها ذیل لحن موسیقیٍّ ودیع جدًّا، محبب تمامًا، يرغب لك أن تنتظر النهاية، نهايته ونهايتك ونهاية الحالة كلها والحصار، بشغفٍ غير متعجل، ولكنه أيضًا يستعجل.
وهكذا كان لا بد أن تؤدي بي هذه الرغبة الدفينة إلى أن أواجه الموت الحقيقي ذات مرة، ليس مرة واحدة فقط، إنما عدة مرات، قد أكتبها وتكون قصة، وقد لا أفعل أبدًا، ففارق كبير بين أن تراه حلمًا يُهيئه لك عقل عميق أحمق، وبين أن تواجهه واقعًا مخيفًا، أبشع ما فيه أنه صامت، لا صخب فيه ولا ضجة، كالمؤامرات، الحياة تخمد، تحس بها تنطفئ، ذبالة عقلك تدرك هذا، ومرعوب أنت إلى النخاع ولا تملك شيئًا، من شدة رعبك تنسى حتى من أنت، وما النهاية، وتصبح النهاية والموت والرغبات الدفينة أشياء تكرهها إلى درجة تخاف معها أن تموت من شدة ما يضج به جسدك من کره.
وكأنما كانت تلك المواجهة محكمة لا يعلمها إلا هو، فقد قربه منِّي تمامًا ليرعبني إلى درجة أن أرتدَّ مُحبًّا إلى الحياة بأقوى وأعظم ما أستطيع. كانت حرارة اللقاء كفيلةً بإذابة أي صلبٍ وأي ماس وأي اكتئاب، كفيلة بإشفاء أي قلقٍ واختلاعه من جذوره.
وهكذا ولدت من جديد، بلا قلق أو اكتئاب.
ولكنه علاجٌ رهيب، لا أراه الله لأحد، فأي مرضٍ في العالم أفضل منه، بالطبع أفضل من الموت، ولكم الحق أن تهزُّوا أكتافكم فأنتم لم تروه، واحذروا، فأبشع ما فيه هو الغدر، غدر يأتي، وغدر يروح، وحتى لا يعطينا الوقت لتبين ملامحه.
ولكن ..
ما هذا الحديث الكئيب عن الموت والقلق والاكتئاب؟
سببه في الواقع أني بدأت أفزع من ظاهرة الاكتئاب الجماعي المصابة بها قطاعات كبيرة من طبقاتنا المتوسطة والعاملة.
وأيضًا لا يزال السؤال الذي طرحته ذات مرةٍ عن إمكانية وجود هذا النوع من المرض الجماعي مُعلقًا في انتظار إجابات الدكاترة علماء النفس وعلماء الاجتماع. ولكن ما أعرفه بدقة أن تسعة من عشرة من العلماء الذين ألقاهم في قاهرتنا الحبيبة، السائرين على أقدامهم أو فوق دراجات أو شاحنات أو عربات، البائعين والبائعات الشارين والشاریات، معظمهم يعانون من حالة قلقٍ داخليٍّ، إذا كان البعض يدركونه بوعي فالأغلبية العظمى لا تعيه، تُعاني من أعراض فقط دون أن تدرك لها سببًا، تُعاني سواء أرادت أو لم ترد، بل حتى تُعاني رغم محاولاتها المستميتة ألَّا تعاني.
وللقلق في حياتنا قصة.
كنا نحيا في ظل أوضاع قد بدأت إلى حد ما تستقر منذ أوائل الستينيات إلى هزيمة ٦٧. على المستوى الشخصي كانت معظم الفئات قد اطمأنت إلى أنها غير مهددةٍ — في القريب العاجل على الأقل — بكوارث من أمثال الفصل أو فقدان الدخل الاقتصادي. صحيح أن الدخول قليلة، ولكن هناك الارتكان الدائم إلى الدولة، وقد تحدد النشاط الخاص إلى حدٍّ كبير، وأصبحنا كلنا عمالًا وفلاحين ومثقفين وموظفين بطريقة أو بأخرى، نقبض آخر الشهر أو آخر الموسم أو أواخر العام، بينما الدولة تمر بكل مراحل تطور تجربة الملكية العامة، من بيروقراطية إلى حكومية إلى تواكلية، إلى آخر هذه الأمراض.
وفجأة هُزمنا هزيمةً منكرة مدبرة عام ١٩٦٧م.
وفي يوم وليلة تبدَّى لنا ما كنا نرتكن إليه ليس دولة كبيرة سترعانا وتحمينا، ولكن، وكأنما كنا نرتكن إلى حائط مائل سقط جيشه تمامًا في ساعات، وحياته كلها أصبحت مهددة بالسقوط.
من هنا فجزء كبير من فجيعتنا فالهزيمة وأصابتنا وكأننا جميعًا بحالة الإحباط والاكتئاب بعدها، ليس سببه فقط الخدش الكبير الذي حدث لنا کأمة، وإنما سببه الأعمق في الحقيقة راجع إلى أننا كلنا بدأت عقولنا الواعية والباطنة والأبطن «تقلق»، أي تنظر إلى المستقبل بعين متوجسةٍ غير مطمئنةٍ، بحيث لم يعد أحد منا متأكدًا، ليس فقط من وضعه في المستقبل، وإنما حتى إلى وضعه آنذاك، وهكذا بدأت لدينا — كمجتمع — حالة الاكتئاب الجماعي بحيث في داخلنا مضى يتراكم العلقم، سنة وحقبة إثر حقبة.
وقد حاول جمال عبد الناصر نفسه الخروج من هذه الحالة ليبدأ مرحلة مقاومة انتهت إلى ما سُمِّي آنذاك بحرب الاستنزاف، ورغم البطولات الفردية العظيمة التي بُذلت في تلك الحرب، إلا أن نتيجتها كانت عكسية تمامًا؛ فالتخريب المتعمد لمدن القناة، وتهجير مئات الآلاف، وضرب المصانع والمدارس والكباري والمنشآت كان وكأنما يُفعل على الدولة ليؤكد لنا أن قلقنا الرهيب في محله، بل لا بد بمرور الأيام أن یزداد.
وفعلًا كان قلقنا بمرور الأيام يزداد.
خاصة بعد ما حدث للمقاومة، رمز الأمل، في الأردن.
ومات عبد الناصر الخالد من شدة اكتئابه.
وكان حزننا التاريخي عليه الذي لم يحدث له مثيل، ليس حزنَ شعب فقد زعيمًا، ولكنه حزن مكتئبين يودِّعون آخر أملهم في الخروج والحياة، والانتصار على الهزيمة، والقضاء على القلق، وأن نعود أصحاء.
وهكذا حين جاء اليوم الموعود، أفرغنا علقمنا الممعن المتراكم سُمًّا زعافًا في جسد العدو وتحصيناته وقواته.
ذلك أن أحد طرق الخروج من القلق ومن الاكتئاب أن تحدد عدوك وسبب قلقك وتسحقه.
وقد فعلنا لأيام.
شفينا فيها جميعًا وعُدنا أطفالَ الحياة، نضحك، ونتكاتف، ونتخادم، عادت الشهامة، والبطولة والتضحية، عُدنا أصحاء.
ولكن كان من المحتم ألا يدوم هذا.
وكان من المحتم أن تُكَتِّفنا القوتان الأعظم من جديد، تكتف حركتنا تجاه العدو.
ولكنا لم نيأس، قلنا نعالج أساسًا سبب نكسة عام ٦٧، نعالج الدولة، والعلاقة بين الثورة والمواطن، باعتبار أن سبب النكسة أن هذه العلاقة كانت علاقةً قهرية أكثر منها علاقة ثورية، وكانت علاقة كبتٍ أكثر منها علاقة انطلاق وتحرر.
ثم إن الأزمة الاقتصادية، خاصة بعد الحرب، ازدادت تفاقمًا.
وعاد القلق على المستقبل من جديد.
ولكن هذه المرة لم يأخذ شكل القلق الجماعي السوي الذي كان السبب في نصر أكتوبر، إنما أخذ شكل الخلاص الفردي.
والحقيقة أن الطبقات المتوسطة والكادحة هي التي تُعاني أكثر من عبء أي أزمة اقتصادية. ذلك أن السباق الطبقي الرهيب يتحول إلى عملية دفاعٍ رهيبة هي الأخرى عن النفس، فالكادحون يفكرون دائمًا ويحلمون أنهم يومًا ما سيصلون إلى مستوى الدخل المتوسط المكفول، أو من يدري، ربما الأغنى، والمتوسطون يلهبهم دائمًا سوطان: سوط الطموح إلى أن يكونوا أغنى ويطمئنوا على مستقبلهم تمامًا، وسوط الخوف المرعب أن ينحدروا مرة أخرى إلى طبقات الكادحين، ويصبح الموظف عاملًا، والعامل متعطلًا، والبقال صبيًّا في محل بقالة.
هنا يعود القلق زاحفًا ورهيبًا، فهو لم يعد قلقًا فقط على المستقبل، أصبح معظمه قلقًا على الحاضر. وكيف لا وأنا لا أركب تاكسيًّا إلا ونادرًا ما أجد سائقًا، سائقًا فعلًا، وإنما أجده مدرِّسًا، أو معيدًا في جامعة، أو أحيانًا حتى ضابط شرطة. كيف لا وها هو ذا لكي يظل محتفظًا بالمستوى المتوسط الذي هو فيه يعمل، وفعلًا عاملًا، والأزمة تزداد، وينشق الناس، وكأنه يوم القيامة، والخلاص بأي ثمنٍ؛ بشقة مفروشة، بما هو أفدح، ولتسقط أي قيمة، فماذا بعد أن أسقط أنا من الطابق الثاني حيث أقطن إلى بدروم الحياة وقاعها. ولينجُ بجلده من سرق أو اختلس أو حلب أو نهب أو باع أو سمسر، لينجُ بمستواه الاقتصادي فقط إذ يكون قد فقد كل قيمة وكل ما يجعله محترمًا، حتى في نظر نفسه، أثناء عملية «الخلاص» تلك.
إنِّي أبتسم وأنا أقرأ كثيرًا من أسماء المرشحين في الانتخابات وشعاراتهم، وكأن كثيرًا منهم لا يخوضها انتخابات سياسية يريد أن يمثل بها مواطنين أو اتجاهات؛ وإنما وكأنه يخوضها انتخابات اقتصادية يريد أن يجمع بها أصوات الناخبين؛ ليتاجر بها بعد هذا تحسينًا لمركزه الاقتصادي هو أولًا، أو مركزه السياسي تمهيدًا لتحسين مركزه الاقتصادي وهلم جرًّا.
نعم هناك أزمة اقتصادية.
ولكن هذه المواجهة الفردية المطلقة، هذا السباق الرهيب أن تصعد فوق أكتاف الغير، أن تركل، أن تسبَّ حتى وتتشاجر وتدوس، هذا الرعب الجنوني أن يُرفع الكرسي الخيزران من تحتك وتسقط کادحًا من جديد وراء كل ما نلمحه في شارعنا من مظاهر التمرد والفوضى والقذارة، وراء كل ما هو سائد على أفواهنا من كلمات متداولة، ومسرحيات وأفلام منحطة تهدم كل قيمةٍ وتخدر المواجع الشرفية والكرامية، ففي سباق كهذا أنت محتاجٌ أن تتبلد تمامًا ولا يذكرك أحد بمبدأ أو بقيمة، بالتعاطف أو الحنان أو إنكار الذات، بالتضحية أو العيب، في حاجة أن تنسى تمامًا أنك إنسان، فأنت تريد أن تكون مجرد متسابق لاهث لا يعطله عن الصعود طيفٌ أو مبدأ من كرامة.
أعتقد أن ذلك الحل الفردي لن يصلح أبدًا.
في بلد نامٍ کبلدنا وفي ظروف كظروفنا، وفي نظام للتعليم يُحيل كل عام مئات الآلاف إلى أصحاب مؤهلات متوسطين، أي يأخذ من الكادحين ويصب في طبقة متوسطة مختنقة بالازدحام والتباغض، في ظل موارد محدودة، وقدرة على الاستدانة ستظل دائمًا محدودة، في ظل أحلام لن يتحقق ٩٩٪ منها، إذ من سيغتني سيكون واحدًا من الألف ربما، والباقون إما كما هم وإما إلى «انحدار». في ظل كل هذا وما هو أكثر، القلق الفردي أو الحل الفردي لا يمكن أن يؤدي إلا إلى حياة کالهلاك.
نعم هناك أزمة …
ليست فقط أزمة اقتصادية، ولكن ما هو أهم .. إنها أزمة قلق اقتصاديٍّ رهيب يجتاح معظم أفراد مجتمعنا.
حتى الأطفال، بدأت العدوى تتسرب إليهم وتسأل الولد أو البنت من هؤلاء .. ماذا تُريد أن تفعل — وهو يدوبك خمس سنوات — يقول: أريد أن أكون مهندسًا أو طبيبًا.
مع أن الأطفال دائمًا يفكرون أن يروا بلاد العجائب أو يعزفوا الموسيقى أو يرقصوا أو يغنوا.
ولكن حتى غناء أطفالنا، أتى عليه القلق الاقتصادي.
أناس حولنا في بلادنا العربية يُعانون من قلق ازدياد الثروة المفاجئ فيلجئون كالضائعين إلى الغرائز.
ونحن نلجأ إلى الغرائز أيضًا، ليست غرائز الجنس أو الملذات، ولكنها الغرائز الأقل، غرائز الدفاع عن الوجود ذاته، إن ذلك الوجود يهدده القلق الاقتصادي الرهيب.
ألا تريدون أن نفتش معًا عن مخرج أو حلٍّ؟ ذلك أن الاستسلام إلى حالة ذلك النوع من القلق أولًا لن يحل أزمتنا الاقتصادية ولا النفسية، بالعكس، سيؤدي إلى المزيد منها والمزيد، وإذا كان السباق ضروريًّا فالنتيجة سقوطٌ جماعي.
فأهم رأس مال عندنا هو الإنسان.
ولا بد أولًا من إنقاذه.