الثقة الفعل
لنتعاهد سویًّا عهد الله والوطن على أن نمضي في طريق التحرير إلى منتهاه حتى نسترد كل شبر من الأرض العربية، وحتى نرى شعب فلسطين الصامد وقد استعاد حقه وكيانه، ولنستمر في معركة البناء الداخلي لا يلهينا عنها شيء إلا أن تصبح الديمقراطية بنيانًا لا يمكن أن تهزه أعتى العواصف والأنواء .. وليكن رائدنا في هذا هو التمليك والتآخي والموضوعية والاحتكام إلى العقل وتجنب فرض الرأي.
هذه ليست آراء «كاتب»، ولكنها كلمات الرئيس أنور السادات عشية الإجماع على اختياره رئيسًا للجمهورية وقائدًا لمسيرتها لست سنوات حافلة قادمة .. والفرق بين كلمات الكاتب وكلمات الرئيس أن كلمات الكاتب تكون من قبيل التمني أو التبشير برأي أو إيضاح الرؤيا، ولكن كلمات الرئيس ليست أمانيَّ، إنها كلمات رجل يملك في يده سلطة أن يحيل الأماني إلى «فعل»، والأحلام إلى «قرارات»، والرأي إلى «عمل»، والأصل في حياة أي شعبٍ أو أمة أو ثورة هو العمل، هو الفعل، وما الحرية وما الممارسة الديمقراطية الحقيقية وما العقائد بكل تناقضاتها أو تشابهها إلا «وسائل إنتاج» بشري حقیقي وفعَّال ومؤثر، يغير في حياة الناس ويقضي على متاعب البشر، بل ما طلب العدالة في الحق والواجب، والعدالة في التوزيع، والعدالة، في الثواب والعقاب، ما هذا كله إلا وسائل لجعل الإنسان «إنسانًا» بحق، وما دام سيصبح إنسانًا فهو من تلقاء نفسه سيعمل وينتج ويبدع، ويحتل عالمه وعالم الآخرين إلى شيء جدير حقًّا ببني الإنسان.
إن أقصى ما يحلم به الكاتب وما يريده أي مواطنٍ مصري هو هذا بالضبط الذي قاله الرئيس السادات، الفرق أننا كلنا نستطيع «القول»؛ ولكنه هو هذه المرة الذي أوكلنا إليه «الفعل». إننا لم ننتخبه تكريمًا له فقط لما حققه من منجزات ضخام خلال فترة رئاسته الأولى، ولكننا هذه المرة ننتخبه لأننا في أمسِّ الحاجة إلى رئيس «يعمل» و«يفعل» و«يحقق»، فالمشاكل التي تراكمت، والقضايا المعلقة لا تزال. لم تعد تحتمل التأجيل ليوم واحد أو ربما لساعة واحدة، وليثق الرئيس أننا لن نركن إلى النعاس، كما لم نركن أبدًا إلى النعاس، لنتركه وحده يعمل ويفعل ويحقق، فنحن — وأي شعب في الدنيا — لا يختار الحاكم ليتباهی به، أو ليكون رمزًا، إنما يختاره ويُشدد في اختياره كوسيلة عظمى يُغيِّر بها الشعب من أحواله ويحقق بها ما يريد، وسيلة حاسمة باترة ليتحرك بها الشعب و«يفعل» و«ليعمل»، كل ما في الأمر أن بعض الحكام لا يتلقون الرسالة أو الثقة بمفهومها الصحيح، ولا يتحركون في اتجاه الشعب، فلا يتحرك الشعب لهم أو بهم، بل في أحيان يتحرك مباشرة ضدهم. فالحركة بدايتها ومنتهاها الشعب، هو خالقها ومالكها ومانحها لمن يختاره ولمن يستحق.
إني إذ أُهنئ رئيسنا السادات بهذه الثقة الغالية، لَأشفق على شعبنا مما يريده الرئيس منه، فالحق أن شعبنا قد أعطى ويعطي بكل ما يملك وما يستطيع. ولكني لا أشفق على الرئيس مما يريده شعبنا منه، فهذه الثقة وهذا الإجماع معناها أن بإمكانه أن يعطي أكثر بكثير مما أُعطى.
•••
رسالة عاجلة لك يا سيدتي.
إن قضية إجراء حوار مع المرأة المصرية والعربية بشكل عام — أقصد حوارًا بينها وبين الرجل — مسألة أصبحت ملحَّة وضرورية وحتمية لوجودهما معًا. إن المرأة تتحدث والرجل أيضًا يتحدث؛ ولكن كليهما لا يقول سوى «مونولوج» .. أي يتحدث إلى نفسه، فالمطلوب أن يتحول إلى «دیالوج» أو حوار.
ولكني الآن لا أريد أن أبدأه .. فالجدار العظيم الكائن بين الرجل والمرأة جدارٌ لا بد کي يهدم، أو على الأقل نستحدث فيه بعض الثقوب والمنافذ وحتى الشقوق .. فإن الأمر يستلزم استعدادًا أكبر بكثير.
هذه مجرد رسالة عاجلة.
وهي موجَّهة بالذات إلى سيدات نادي سبورتنج بمصر الجديدة، ونادي الشمس بمصر الجديدة أيضًا، وحبذا لو تلقتها أيضًا سيدات نادي الجزيرة والصيد والقاهرة … إلى آخر قائمة النوادي.
وبالذات إلى السيدات اللاتي يملكن «وقتًا» يضيع الكثير منه في ثرثرة مكررة حول الموائد وأشغال التريكو والكانَفَاه، وذلك الحديث الظريف الذي يسمونه «النميمة» .. أولئك اللائي يملكن ترف الشَّغَّالات يقمن بأعمال البيت، والطباخين يطبخون، أولئك اللائي مللن الملل نفسه، ويشتكين من الأرق والأعصاب، ويلجأنَ إلى الحبوب المنومة، هؤلاء اللائي أقول: لا يعملن، ولكن يختلقن لأنفسهن أعمالًا هامشية تمامًا لا يمكن أن تكون ذات أثرٍ في حياة الناس أو حتى حياتهن هن أنفسهن.
أنا هنا لا ألوم ولا أُعاتب، وإنما أحاول أن أُخاطب الضمائر التي أعتقد أنها من الداخل غير راضية أبدًا، ومكتئبة.
سيداتي .. يا من يملكن هذا الوقت وتلك القدرة .. هناك عملٌ عظيم ونبيل وجدير حقًّا بأي إنسانةٍ أو إنسان يحيا في عصرنا هذا.
ذلك أننا في عصر يمجُّ أن يكون الإنسان فيه عالة على مجتمعه أو حتى عائلته، يمج البطالة حتى لو كانت صاحبتها جميلة ورشيقة ومن عائلة، يمج أن يعيش الإنسان بلا «دور» هام يؤديه في ذلك المجتمع.
أقول: إني لدي عمل، لكن .. ذلك هو مستشفياتنا .. في كل حيٍّ من أحيائكن هناك مستشفى أو أكثر. وإذا كانت شوارعنا وبيوتنا قد أصبحت تعجُّ بالقذارة .. فمستشفياتنا العامة أصبحت مسألة النظافة فيها شيئًا نسِيه الخلق تمامًا ولم يعودوا يذكرونه. إن المريض الذي يلجأ إلى المستشفى العام هو بالدرجة الأولى مريضٌ فقير، ولأن النظافة مسألة اقتصادية أساسًا فهو يحيل المستشفى الذي قد يكون غنيًّا بأجهزته وأطبائه واستعداداته إلى مكان، کمنزله، كشارعه، قذر.
وإذا كانت القذارة في الشوارع مسألةً ضررها لا يظهر في الحال، فالقذارة في مستشفياتنا شيء خطير للغاية؛ لأنها تعني الموت بالعدوى والميكروب .. وصحيح هناك أجهزة وموظفون وعمال وعاملات متروك لهم أمر النظافة في تلك الأمكنة الحساسة، ولكنهم جميعًا «موظفون» لدى الدولة، والنظافة الحقة «رسالة» في حاجةٍ إلى من يتبنَّاها تبني المبشرين، فهي — مثلها مثل رعاية المرضى والتمريض — عمل «مقدس»، ومن هنا جاءت فكرة «الترهين» في خدمة المرضى وإدخال الراهبات مجال التمريض، ذلك أن رعاية أي مريضٍ أو مساعدته ربما أهم بكثير من علاجه على أيدي الأطباء المحترفين؛ لا بد أن تنبع من قلب مؤمن حقًّا بما يفعله، ومستعد أن يُضحي من أجل أن يحس بوجوده الحقيقي، وأن يكون له في الحياة رسالة .. وأن يأوي إلى فراشه في نهاية اليوم وهو — أو بالأصح وهي — قد أحسَّت بدفء الحياة يتسرب إلى روحها لأنها ساعدت إنسانًا آخر أن يُشفَى أو يعيش .. ليت ذلك النداء الإنساني العميق المركب في كل منا يدعونا أن نمدَّ يد المساعدة لكل من يستغيث بنا أن نساعده.
وأنا أكتب هذه الكلمات أحس بعشرات الأفواه من المرضى تستغيث استغاثات مكتومة، تتوجع إلى الله طالبة العون والمساعدة، ولا من مغيث .. لقد قرأت مرة أن إحدى الجمعيات قررت أن تتولى عضواتها الإشراف على نظافة مطار القاهرة الجوي حتی نستقبل السياح والقادمين بوجه لامعٍ نظيف. وهذا عملٌ جميلٌ لا شك ونية طيبة، ولكن العمل الأعظم والأجمل، والنية الأصدق والأنبل، لا أن نُري العالم وجهنا الخارجي الأول لامعًا نظيفًا، ولكن أن ننظف مستشفى حيِّنا وأن نساعد مريضًا، وأن نعمل ذلك العمل الذي قد لا يكون له بريق تنظيف المطار، ولكن له عند الله وعند الخلق أثمن وأعمق الوقع.
تذكرت هذا كله حين زرت في الأسبوع الماضي قسم الرعاية المركزة لمرضى القلب الجديد بمستشفى الدمرداش، ذلك الذي أنشأه ويرعاه طبيبنا الكبير الدكتور حمدي السيد، بالتبرعات وانتزاع الأظافر جمع ثَمن بنائه وشراء أجهزته، وبحسمٍ شديد هو وفريق الأطباء الذين يعملون معه: الأستاذ الدكتور محمد الفقي، والأستاذ الدكتور عبد الخالق ثروت، والدكتور مغازي طنطاوي، وأطباء القلب الكبار: الأستاذ الدكتور محمد عطية، وحمدي الدمرداش، وجلال مختار زیادي … والكثيرون الذين يضيق المجال عن نشر أسمائهم جميعًا، وبالذات حكيمات القسم وممرضاته. هؤلاء الجنود المجهولون للرأي العام بنوا في قلب المستشفى «الحكومي» واحة رائعة نظيفة يلقى فيها أفقر المرضي ربما نفس العناية التي كنت ألقاها في مستشفى هارلي ستریت، أعظم مستشفيات لندن.
ولكن الصدمة البشعة تجيء حين نغادر هذه الواحة الخاصة وننتقل إلى العيادة الخارجية بنفس المستشفى وبكل مستشفى، حين ننتقل إلى الأقسام الداخلية، إلى حيث تحل الوظيفة محل الرسالة وتغيب عين «الراهبة» المرأة الواهبة نفسها تمامًا لتلتقط الخطأ أنَّى وُجد الخطأ، والقَذر أنَّى وُجدت القذارة .. هذه مهمةٌ لا يمكن أن يقوم بها إلا متطوع أو متطوعة .. ومن أجل هذا العمل وحده.
سيدتي في النوادي المذكورة وفي كل حيٍّ من أحياء القاهرة وكل مدينة من مدننا .. يا من تملكين بعض الوقت، لماذا لا تلتقين مع جاراتك وصديقاتك وتُكوِنَّ — وفي الحال — نواة لجمعيات: صديقات المستشفيات. تأخذن الأمر مأخذ الجد، وتعملن شيئًا من أجل مريض قد تتوقف حياته على يد حانيةٍ عن إيمان تساعده، ومتطوعات جادات بقروش قليلة ممكن أن يُحِلن مستشفياتنا إلى أماكن، لا أقول: يصبح العلاج فيها مثاليًّا، ولكن على الأقل تصبح أماكن رعاية نظيفة لا يموت الناس فيها قذارة أو إهمالًا.
سيداتي: أكتب هذه الكلمات في الليلة العظيمة — ليلة القدر — وعشمي أن تكون أبواب السماء مفتَّحة لكلماتي، ورجائي وأن تهبط من السماء على قلب كل منكن شعاعةُ نور تفتح لها الطريق أمام عمل إنساني هائل ينتظرها.