و.. وجهًا لوجه مع رجل الشارع
وليكن الرأي هذه المرة من الطرف الآخر للمشكلة؛ رجل الشارع واحد من المئات الواقفين في قيظ الظهيرة ينتظرون الأتوبيس، واحد من العشرات الواقفين في طابور الجمعية، واحد ممن تزدحم بهم المكاتب والغرف وعنابر المصانع. ولكن أيهم أختار؟ قد تجد المشكلة في الرجل ولكنك لن تجد لديه القدرة على التعبير عنها، أو قد تجد المقدرة على التعبير وحتى المبالغة فيه ولكنك ستجدها مشكلةً محدودة بشخصه أو بعمله. في محاولتي البحث عن رجل الشارع وما يُعانيه من مشاكل بدأتُ أُلاحظ الناس بدقةٍ أكثر، وبدأت أُدرك ليس فقط صعوبة الاختيار، وإنما حتی صعوبة الرؤية. فنحن نحيا وكأنما نحيا نلهث. الأزمة .. الإنسان المصري تحوَّل إلى كائنٍ غريبٍ حتى على نفسه. لم تعد أقواله أو تصرفاته مبنية على أساس عقليٍّ أو محسوب، إنما هو بقوة الدفع الغريزية يتصرف في حالة تحفزٍ مستمر، وردود فعله بالغة التوتر. والإنسان المصري هذا موجودٌ فينا كلنا، فيَّ أنا الذي أحاول أن أُعبِّر، وحالتنا حالة من الصعب معها حتی أن «نفكر»، مجرد أن «نفكر».
أن تتأمل وتعي وتحلل وتأخذ موقفًا ورأيًا، هذا كله ترف لا يملكه المواطن العادي ولا الكاتب. الكتابة نفسها في اللحظات الفاصلة — لحظات الحياة والموت — تصبح لا معنى لها بالمرة، ولا أثر لها بالمرة، والمشاكل كثيرةٌ كثيرة، وكل شيءٍ وكل شخصٍ وكل تصرف في حاجة إلى نقدٍ وتقييم وتقويم، ولكن المرعب هو: كيف وأنت في هذه الحالة تستطيع أن تتمالك نفسك و«تنفصل» عن المشاكل، وتحكم عليها حكمًا «موضوعيًّا»؟ أنت في قلب المشكلة. أنت وأنا وكلنا مرضی الأزمة؛ أزمة مادية جماعية خانقة، من المحتم أن يصحبها أزمةٌ روحيةٌ خطيرة. حتى الذاكرة أصبحت وقتية، والتصرف أصبح ابن لحظته .. فعل ورد فعل .. فعل ورد فعل .. مئات الملايين من ردود الأفعال التلقائية المتصادمة نتيجتها تأزم أكثر. لكأن الواحد منا يحيا اللحظة وهو في كل ثانيةٍ يريد أن يستغيث بأعلى صوته ويجأر ويقول للعالم: لا .. لم أعد أحتمل. هذا فوق طاقة البشر. حتى الموت أصبح مطلبًا صعبًا، من الترف التفكير فيه؛ بل الانتحار نفسه اختفى ولم نعد نقرأ عن أناس يُلقون أنفسهم من فوق البرج أو المجمع؛ ذلك أنه حتى الانتحار في حاجةٍ إلى قرارٍ وخطة. ولا وقت ولا «نفس» لرؤية قرار أو عمل خطة .. النكت نفسها اختفت، ولم نعد ننكِّت .. فالنكتة — ذلك التأمل الساخر — تحتاج أولًا إلى متأملٍ .. فإذا كان الكل — حتى المتأمل بطبعه — في أزمةٍ، فالنكتة تموت قبل أن تولد؛ بل المتعة نفسها غير موجودةٍ، وكأنْ لم يعد ثَمة شيء ممتع، كل الأشياء لها نفس الطعم ونفس المذاق، مذاق اللامذاق، فالتذوق والتمتع في حاجةٍ إلى جهاز عصبيٍّ سليم، وكائن سليم، ونفس مفتوحة .. ونحن لحظة بلحظة يحيا الإنسان يؤرقه الألم الطاغي والقلق الأعظم، ليس فقط من اللحظة التالية؛ ولكن: ماذا يحدث غدًا وبعد غدٍ، وأولادي … إلى آخره. لقد تزايدت المشاكل، كثرت، قلت حركة الإنسان، حُوصر من كل النواحي. لا مخرج. كلما حاول الخروج يغوص أكثر.
ذلك انطباعي الأول وأنا أحاول معرفة رأي ما كان يُسمَّى في الماضي «رجل الشارع»، عرفت رأي رئيس الوزراء. والآن أُريد أن أعرف الرأي الآخر. المشكلة كيف؟ من تختاره ليتحدث ويفضفض ليعبر عن الكون العام الذي نحيا فيه كلنا، وعن رأيه في قوانينه ولوائحه وأخطائه، لكل كونه الخاص الغارق فيه حتى أذنيه، مهما رفع البصر لا يرى أبعد من مشاغله الوقتية الحادة. وتعتقد أن الزمن لا بد هو الآخر متوترٌ، وأن لا وقت لأي شيءٍ، ولكن الكارثة أن الزمن ممتدٌّ وطويل طويل.
•••
كيف اخترق الحاجز الصوتي والبصري الكائن بينك وبين أي إنسان حولك. معًا نحيا، هذا صحيح، ومعًا نعاني، في الأتوبيسات نتكدَّس، في المجمعات نختنق، لكي ننتزع لقمة عيش أخيرة لا بد أن «نقاتل». قتالًا حقيقيًّا رهيبًا، عذره أنه قتال ضد اللاشيء. فلا عدو واضح تضربه كما حدث في العبور وتنتهي. ليت مشاكلنا كانت كلها خط بارليف وعبور القناة! فلو كانت مبلورةً هكذا ومحددة لانتهينا منها من زمن بعيد. إن حل المشكلة يكمن فقط في إدراكك لها. بمجرد وضع يدك على المشكلة فهذا يعني حلها. ولكن ما نعاني منه الآن أشياء لا نستطيع بالضبط أن نضع أيدينا عليها. هل المشكلة أن المياه ملوثةٌ، أو أن بعض المسئولين اختلسوا أموال التبرعات واعتمروا بها؟ طيب .. فرضًا أن الماء لم يكن ملوثًا، وأن أحدًا لم يحج اختلاسًا، فهل كنا سنستريح وتنتهي الأزمة؟ .. أبدًا؛ إن هي إلا أعراض كلها. وتستطيع أن تعد ليس فقط اختلاسًا هنا أو هناك، أو سرقة أو رشوة أو «قرع» و«كوسة». لا تؤاخذني في استعمال الكلمات فقد أصبحت عادية ودارجة ومن قواميس المرحلة. تستطيع أن تعد آلاف الآلاف من «الأعراض». أما المرض نفسه فما هو؟ ماذا يُشقينا؟ فلنقل — أو بالتأكيد هذا هو الشيء الأول الملموس: إن المشكلة ماديةٌ محضة. وجود الشخص منا على قيد الحياة أصبح يتطلب منه نقودًا لا يكفي دخله لإيجادها. المضحك أن هناك دولًا أخرى تُعاني من «التضخم»، أي أن هناك فيها نقودًا كثيرة وبضائع قليلة. نحن نُعاني من عكس أزمة التضخم تمامًا؛ بل حتى من أزمة الأزمة. فلا توجد نقود، وحتى لا توجد بضائع. والمشكلة أننا نحيا، ولا بد أن نظل نحيا؛ ولهذا دائمًا نحن نسأل أنفسنا في كل دقيقة: ما العمل؟ ومن أين نحصل على النقود؟ مجالات الإنتاج وبيع العمل تختنق؛ ذلك لأن الأزمة أربكت تمامًا جهاز الإنتاج .. عمالةٌ زائدة كثيرة جدًّا، أكثر بكثير مما تتطلبه عملية الإنتاج، ونتيجة كثرتها أن ينخفض الإنتاج أكثر وأكثر. أي مكتب حكومي تجده مكتظًّا إلى حافته بالموظفين. ماذا يفعلون؟ لا شيء. أفندي محترم معه بكالوريوس أو لیسانس معيَّن ويقبض ماهية وعمله أن لا يعمل. ومعنى هذا، ونظرًا لتدخله في عملية الإنتاج لجسمه وشخصه ووجوده، يتعطَّل الإنتاج أكثر. بمعنى أن المكاتب مكتظةٌ ولا إنتاج. لكي يتحرك إنتاجنا إذن ويعطينا نقودًا تكفينا يستلزم الأمر عقولًا وأعصابًا وإنسانًا سليمًا على الأقل «يفكر» فيما يجب عمله. ولكننا في هذا الازدحام الأجوف لا نستطيع أن نفكر أو ندبر. نحلم. أجل نحلم أن تهبط علينا الفلوس من السماء. أو من دول النفط. كيف ستهبط؟ وهل الحل أن توجد ليلة قدرٍ لكل واحد، أو صرف ثلاثين جنيهًا؟ صُرفت وصرفناها. وبقي كل شيءٍ على ما كان عليه، والموقف ينحدر إلى أسوأ. لا يعيش الناس بالإحسان أو بالقروض. الناس تعيش بعرقها وكدِّها. ولكن العرق والكد وحده لا يعود بالنقود. لا بد من وجود نظام إنتاجٍ وعمل تستثمر فيه عرقك ليعود عليك بالنفع وبالنقود. المأساة أن أسس الإنتاج؛ من مصانع أو جامعات أو دكاكين أقل بكثير من أن تستوعب طاقة ملاييننا الكثيرة على العمل والإنتاج. الخبرة موجودةٌ، والقدرة موجودة. موجودة بكثرةٍ زائدة عن الحدِّ. تتكدس وتتكدس ويتزاحم الناس داخل الأتوبيس وداخل البيوت وفوقها وداخل الفصول وداخل الورش. زحام. زحام كثير، وعجلة. عجلة عصبية زائدة فارغة الصبر. الكل متعجلٌ. ليصنع ماذا؟ لا أحد يعرف. نشبه موتور عربة كبيرة يعوي بالصوت والضجيج والصراخ والكلاكسات، ولكن العربة نفسها لا تتحرك، إننا جميعًا — وأقولها صادقًا — مسئولين وغير مسئولين، حاكمين ومحكومين لا نقدِّر ولا نُدرك بالضبط الواقع الغريب الذي نحياه. إن المطلوب أكثر بكثير من قدرة أجهزة تخطيطنا الحكومية وحتی الأهلية. أكبر بكثير من طاقة رجلٍ أو عشرة أو مائة أو عدة آلاف على التفكير. أكبر من ذكاء أيٍّ منَّا بمفرده، ومقدرة أي منَّا بمفرده .. وهذه هي الحقيقة .. إن المشاكل التي تُعاني منها هي نفسها المشاكل التي أُعاني أنا منها، قد تختلف بعض الشيء في التفاصيل؛ ولكنها جذريًّا نفس المشاكل. حلولها إذن ليست فرديةً بأن تهبط على أيٍّ منا ثروةٌ من السماء تُنقذه وتنقذ أولاده، أو أن يهاجر إلى بلادٍ أخرى فيها العمل وفيها الكسب والنقود، فهذه كلها قد تحلُّ مشكلة واحدة أو عائلة أو حتى بعض العوائل والقرى والمدن على أقصى تقدير، ولكنها — أبدًا — لا تحل مشكلة «أمة». أمة بأكملها تخوض مشكلةً رهيبة تتبدى أمامها ربما لأول مرة في تاريخها الطويل: تكون أو لا تكون. لا نسأل السؤال واقفين أو متأملين، ولكنا نسأله ونحن نلهث، وسياط غير مرئيةٍ تُلهب ظهورنا ونحن نندفع بسرعةٍ مخيفة، وكتلة جماهيرية رهيبة. نندفع، وحتى لا نعرف إلى أين. في أوضاع كهذه يصبح الحديث عن المضايقات الشخصية أو الخاصة تافهًا إلى أبعد حدود التفاهة؛ بل يصبح الحديث عن مشكلةٍ واحدة بذاتها لا معنى له بالمرَّة. فهل المشكلة غلاء الأحذية؟ إن أسعارها صحيح قد أصبحت تدعو للتذمر والدهشة. ولكن المنظر العام أغرب ألف مرةٍ.
•••
ماذا أهدفُ بكتابة هذا؟ أليس يُربك أكثر أن تقول للمرتبك أصلًا: إنك مرتبكٌ. وماذا يُفيد قولك المخنوق بالأزمة: إن لديك أزمةً. هو يعرف وأنا أعرف وكلنا نعرف. هو يئنُّ وأنا أئن وكلنا نئنُّ. الأحمال ثقيلةٌ ولكنها بلغت من الثقل حد استحالة الشعور بثقلها. أكتب لماذا، ولِمَن، وهل؛ لأكشف عن فسادٍ هنا أو هناك، وأنا أعرف وأنت تعرف وكلنا يعرف عن الفساد أكثر بكثير مما كُتب أو يُكتب أو يمكن كتابته. الروح في الحلقوم وكأننا في يوم يفرُّ المرء من أخيه وأمه وأبيه. فعلًا. في قسم الدقي رأيت رجلًا يحمل طفلًا رضيعًا على يديه وحوله ثلاثة أطفال آخرون ويبكي أمام المأمور ويقول: امرأتي هربت. تركت الأطفال وهربت. أي قوةٍ دافعةٍ رهيبة تجعل الأم تترك وليدها وتهرب؟ لا بد أن ما يعاني منه البعض ويعتقد أنه أبشع الأشياء، يوجد أبشع منه بكثير.
حتى أحكامنا لم أعد أثق بها كثيرًا، فهي ليست صادرةً عن روية أو تفكير؛ إنما هي على الدوام أحكام «انفعالية»، بنت اللحظة، أي ردود فعل وليست أبدًا نتيجة موازنة ثم اتخاذ موقف. الحوادث المؤسفة ليست إلا التصرف الجماعي لما يتصرفه أيٌّ منا بمفرده أو يقوله بمفرده. هي نفسها الولد أو الرجل الممسك بمسمارٍ يحكُّ به بياض المنزل أو دوكو العربة ويخربشه. هي نفسها ألفاظ البذاءة تسمعها على الهواء من جماهير الكرة، فقط على السطح تطفو التصرفات وتتصور أنها «ظاهرة». لا أعرف ماذا أصبح يعجبنا وماذا أصبح لا يعجبنا. أحكام محمومةٌ كتخاريف الجوعان أو الصائم أو الضائق ذرعًا بكل شيءٍ وأي شيء.
•••
أكتب إذن؛ لأحاول أن أرى، ولأحاول أن نرى جميعًا ماذا يحدث لنا. فقط نراه. فنحن نحيا لا نرى، ولا نريد أن نرى؛ لأننا نعرف أن ما سوف نراه سيقبض أنفسنا، وأنفسنا ليست في حاجةٍ لاكتئاب أكثر. هي مشبعةٌ به ولا داعي لأي مزيدٍ. ذلك لأننا في العادة نرى وحدنا، وننظر بعيوننا الخاصة إلى وضع كل منا الخاص ووضع الآخرين منه. ربما لو رأينا كلنا معًا، ربما وضحت الرؤية لنا كلنا، فالرؤية هي النور، والظلام هو أن نغلق أعيننا. والرؤية الجماعية هي الوسيلة الأولى والوحيدة، ليس فقط لحل المشاكل وإنما حتى لمواصلة الحياة.
لا أعرف ما الحل، ولكن الواضح والمحتم أننا في حاجةٍ إلى شجاعةٍ كبرى وإلى مصارحة أنفسنا مصارحة تامة. لم تعد المسألة مسألة شعبٍ وحكومة، والحكومة من هي؟ إنها نحن أيضًا؛ موظفون ومتعاملون، لم تعد المشكلة مشكلة وزارة أو وزير، المشكلة هي نحن جميعًا .. نحن المشكلة .. هل تبلغ بالشجاعة حد أن نعترف — نحن الشعب المصري — أننا نواجه أزمة وجود حقیقيٍّ، وفي كل مجال. وأن لا حل لهذه الأزمة إلا باشتراكنا جميعًا في رؤيتها وإدراكها وبالتالي حلِّها. لم نكن في حاجة إلى مؤتمرٍ شعبي حقیقي. مؤتمر لا يحفل بالخطباء والمتحذلقين، وإنما اجتماع يضمنا معًا، أو يضم ممثلينا وكل قدراتنا العقلية، وكل خبرائنا وعلمائنا، نتدارس فيه بلا ضغائن ضد بعضنا البعض ولا لَكزات أو ضربات فنحن ننهش ونخربش أنفسنا وكأنما قد أصبحنا نكره بعضنا البعض إلى درجةٍ مخيفة، وكأن كلًّا منَّا هو السبب في أزمة الآخر، في حين لو عرفنا أن كلًّا منا مأزوم هو الآخر ويُعاني من نفس الأوضاع، وأننا بدلًا من إلقاء التُّهم والضربات بالأقدام والقبضات وإضاعة وقت كثير في مهاتراتٍ جانبية. نركز همنا كله في مشكلة وجودنا نفسه، وجودنا ككل، ونحدد بالضبط ماذا نُعاني منه وكيف نعالجه، أيضًا ككل، فكما قلت: المشكلة ليست خاصة بأي منا على حدة، فالذي دخله عشرون جنيهًا مثلًا يتصور أن كل مشاكله ستُحل لو صار دخله مائة جنيه، ولكن المضحك أن الأعباء تزيد بزيادة الدخل؛ بحيث لو صار دخله مائة جنيه فستظل أعباؤه أكثر بكثير. صحيح أن مواجهة العدو عسكریًّا تكلفنا الكثير؛ ولكن جهاز الحكومة نفسه وأجهزة القطاع العام نفسها، بل وحتی القطاع الخاص؛ غير قادرٍ على إعطاء إنتاج يكفينا ويكفي احتياجاتنا. المضحك أن ما نعانيه كأفراد تُعاني منه الدولة نفسها. فالدولة المصرية كالفرد المصري في حالة تأزمٍ وتعطل إنتاج. لو سأل كل منا نفسه هذا السؤال: هل أنا فعلًا أعمل بطاقتي كلها، أو أعطي للعمل طاقتي كلها؟ فمن المحتم أن يكون الجواب: لا؛ لأن في داخل كل منا طاقات كثيرة معطلةٌ وغير مستفاد بها، ولا يوجد الجهاز الذي يستخرجها ويضمها إلى الطاقات الأخرى ويحيلها إلى نقود وبضائع.
•••
إن لدينا قدرةً على الرؤية المحدودة، هذا صحيح، فهناك تفكيرٌ فيما يُسمى بالثورة الإدارية، و«تطوير» القطاع العام، و«تطوير» الاتحاد الاشتراكي، و«تطوير» الذوق والثقافة. ولكن هذه كلها نظراتٌ جزئية إلى مشكلتنا، تصلح إذا كان المجتمع فعلًا سائرًا ويتحرك إلى الأمام ويلزمه بعض «الإصلاح»، ولكن ماذا يكون الوضع إذا كان المجتمع لا يتحرك، أو يتحرك ببطءٍ شديد جدًّا يشبه السكون، أو ربما يتحرك إلى الخلف ونحن لا ندري، ولكن الواضح أن كل يوم يمرُّ ندرك أنه كان أحسن .. لم يعد يصلح إذن في علاج مشاكلنا أن نعتبرها مجرد مشكلة في الإنتاج، أو في الإدارة، أو في نهب بعض المال العام. ما فائدة أن ينصلح حال «الكهرباء» على حدة، أو البنزين على حدة، إذا كان الموتور ككل لا يعمل أصلًا، أو أنه يعمل ولكن العربة لا تتحرك. إن المشكلة كما قلت مشكلة وجود، مشكلة أن نوجد ونتحرك فعلًا وتعود علينا حركتنا بالعمل والإنتاج والدخول.
•••
نتصور أن «الحكومة» قادرةٌ على الإصلاح. وتكثر الشكوى. ويحدث انفصالٌ غريب بين الكلمة والفعل. فنحن نجأر بالشكوى من شيء، والجرائد تنشر، والناس تتكلم، ولكن لا يحدث شيء يُصلح ما نشكو منه؛ ذلك لأننا نتصور أن أحدًا آخر هو المسئول عن الإصلاح، إن الحكومة نفسها لا تستطيع أن تحلَّ المشاكل؛ ولكنها هي نفسها أصبحت — نظرًا لتدخلها في حياة كل منا — مشكلة من مشاكلنا. والحكومة ليست شيئًا معنويًّا أو جهازًا غريبًا قابعًا على أرضنا، إن الحكومة هي موظفون، أي مواطنون أيضًا غير قادرين على حل مشاكلهم الخاصة.
ونتصور أن المشكلة هي أن بعض الناس يسرقون أو يختلسون أو ينهبون أو يمالئون، وصحيح أن هذه كلها جرائم خطيرة لا بد من عقاب مُرتكبيها؛ ولكنها أيضًا ليست «الأصل»، إنها عرَض من أعراض الأزمة، فالأزمة يستتبعها دائمًا أزمة ضمائر ونفوس، وصغارات نفوس، وتصرفات وقحة ومخجلة، وحتى ألفاظ بذيئة وسلوك أكثر بذاءة، هذه كلها توابع وليست أصلًا للأزمة، هذه كلها عروض من جملة الأعراض، ولكنها ليست الداء الدفين.
لنتصور أن كائنًا من المريخ مثلًا، حافل بالموهبة والقدرة على الإنتاج هبط القاهرة ليعمل وينتج. كائنًا نظيفًا لا يُعاني من أزمةٍ سابقة وليس محملًا بأثقال مسئولية والتزامات. لنتصور أنه بدأ يزاول وجوده ذلك، ويحاول أن يعمل ويتحرك. أن يتكلم في التليفون مشكلة. أن يركب الأتوبيس مشكلة. أن يأكل مشكلة. أن يغسل يديه مشكلة. أن يذهب إلى سينما مشكلة. أن يدخل المصلحة أو المؤسسة مشكلة. أن يحاول منع الغير من التدخل في عمله مشكلة. أن يحارب كي يظل فقط محتفظًا «بحقه» في أن يعمل مشكلة. لا بد ستجده ولما يكد يمضي يوم على وجوده معنا إلا وقد استحال إلى كائنٍ عصبيٍّ جدًّا، مكتئب جدًّا، مغيظ جدًّا، حاقد جدًّا، «كفران» بكل القيم والتقاليد والمُثُل، ناقم على كل شيء. فهل ممكن لإنسان في حالة كهذه أن «يفرغ» عقله للعمل العقلي أو اليدوي أو حتى لفلاحة الأرض؟
أجل. لقد بدأت مشكلتي حين حاولت أن أُجري حوارًا مع ما يُسمى برجل الشارع؛ لأعرف بالضبط ماذا يُعاني، وكيف وبأي طريقة يحيا؛ ولكننا رأينا أننا كلنا غرقى، وفي هذا ليس هناك فرق بين من يستغيث من الشارع أو من الشرفة، فالطوفان واحد لا يرحم، والآلام واحدة والشعور واحد ومشترك.
•••
إنها الدائرة المفرغة المروعة، الأزمة توجد، تُصيب الناس بأزمة، الناس المتأزمون تقل قدرتهم على العمل والإنتاج، وهذا بدوره يؤدي إلى أزمة أكثر، تؤزم الناس أكثر وهكذا … هكذا تستحيل الدائرة الرهيبة المفرغة إلى أزمة «وجود»، والكارثة أن لا أحد يستطيع إخراجنا من هذه الدائرة المفرغة إلا نحن .. نحن المريض ولا بد والمريض في عزِّ مرضه أن يكون الطبيب ويعالج نفسه، كمن تطلب من مكسور الساق أن يجري، وهذا هو العمل البطولي العملاق الذي يتحدانا ويواجهنا، والمسألة لا هزل فيها؛ إما أن نقوم به أو نموت، سنموت إذا لم نخرج من الأزمة، سنموت حتى لو ظللنا أحياء، وأبشع أنواع الموتى هم الموتى حياةً.
•••
فهل نترك أنفسنا نغرق، أو نستغيث ونحن في عالمٍ لا ينقذ فيه أحدٌ أحدًا. لا الاستغاثة؛ مجرد الصرخات على صفحات الجرائد والاحتجاجات تُجدي، ولا الأنين والتأوُّه يُجدي، ولا التعبير بالكتابة أو بالمسرحية يُجدي، ففي كل هذه الأعمال نحن نفترض أن هناك آخرين في أيديهم الحل والربط والقدرة على إنقاذنا. ربما لو أدركنا عن يقين، وأعود وأكرر عن يقين، أن ليس هناك غيرنا ينقذنا، وأن لا مُعين لنا ولا أي معونةٍ أو قروض أو حتى استقدام خبراء أجانب ولو حتى خبراء في حل الأزمات والسرقات، لا شيء من هذا يُجدي، فكما نحن المشكلة، فنحن أيضًا الحل؛ بل لا حل إلا بأيدينا ومنا، ولأجل هذا فأوضاعنا أصبحت تُحتم — وأكرر مرة أخرى تُحتم — أن نقف لأجلها وقفة، وقفة مع النفس هذه المرة .. وأن ندير — حالًا وفورًا — مؤتمرًا «نفكر» فيه، مؤتمرًا لا «نعبر» عن المشاكل فيه ونصرخ، وإنما «نفكر» فيه بصوتٍ عالٍ يسمعه الناس أجمعون. نفكر فيه وندرك إلى أين وصلنا، وما هي المشكلة، والحل سيكون هذا، سيكون أن «نفكر»، وأن نعرف، وندرك «المشكلة» .. المشكلة التي تعوق سيرنا وتوقفنا وتقتلنا ببطءٍ شديدٍ، ولكنها تقتلنا.
أجل .. مؤتمر لنعرف رأي رجل الشارع، رأينا، فرأينا هو المشكلة وهو الحل.