رأس الملك الأبيض
کِش ملك .. مات. يا لعبقرية اللاعب الذي أنهى وجود کل قواتك تقريبًا .. ملك ووزير وأحصنه وطابيات وأفيال وعساكر، بحركة صغيرة، بحركتين، بثلاث على الأكثر، تجد ملك «الأبيض» قد اختنق في خانته تمامًا وانتهت اللعبة. أنت مثلي لا تتقن الشطرنج وأنا مثلك لا أُتقن السياسة، ولا أعرف التفاصيل، وليس عندي جهاز معلومات أو اطلاعات، ولهذا فنحن سنلتقي حتمًا عند هذا الجهل وبالجهد المشترك .. فنحن في سبيلنا إلى إعادة النظر في مشكلةٍ مثيرةٍ، مهمة وحيوية .. وأخطر قضايا العصر على الإطلاق بالنسبة لنا، ليس بالنسبة للعالم العربي فقط؛ وإنما حتى بالنسبة لأخص مشاكلنا الداخلية في كل بلد.
نحن في سبيلنا إلى رؤية القصة «اللبنانية الدامية» من وجهة نظر عربية وجديدة علينا تمامًا، وجهة نظر متفرجين بعیدین تمامًا عن الاندماج .. ليس لأن هذه النظرة هي الطريقة «العلمية» الوحيدة «لإدراك» حقيقة ما حدث، ولماذا حدث ما حدث، ولماذا يظل حادثًا ما يحدث؟ .. وسيظل، ولكن، لأننا أيضًا — وبصراحة — هكذا أصبحنا فعلًا، وبحكم الواقع، متفرجين .. وإلا، فقل لي بذمتك: ما هو دورك أو دوري أو دور أي مواطن، هنا أو هناك، في هذا الذي يحدث في لبنان؟ .. أنت لا تتحرك وأنا لا أتحرك .. هي تقرأ وتمصمص الشفاه .. وهو تولت أرقام القتلى المتوالية كل يوم تنويم إحساسه مغناطيسيًّا، بحيث يتلقاها كما يتلقاها النائم، أضغاث أحلام. هجوم جديد. مائتان وخمسون قتيلًا وكذا مائة جريحٍ. وكأنها أرواح ودماء مئات الدجاج وليس البشر .. المشكلة إذن خرجت من يدنا، بل هي أخيرًا لم تكن في يدنا .. وكان الزعيم اللبناني كمال جنبلاط لاذعًا تمامًا ومندوبُ إحدى مجلاتنا يسأله: ما رأيك كيف ستكون نهاية الحرب في لبنان؟ وماذا يترتب عليها من نتائج؟ كان خفيف الدم تمامًا وهو يقول: اسألوا الفلكيين في مصر .. ويقصد العبقري الفلكي أو التونسي الفلكي، لا أعرف .. إذن هذا هو أحد أطراف المعركة الرئيسية، هو الآخر مثلنا، خرج الأمر من يده.
بل حتى ولو توقفت الحرب في هذه اللحظة. الآن مثلًا — وهذا احتمالٌ مستبعد طبعًا — أنكون قد خرجنا من المستنقع اللبناني سالمين؟ أم نكون قد خرجنا بأكبر عدد من الضحايا شهدته ساحتنا منذ حروب التتار والحروب الصليبية. ومنَّا فينا، وبأيدينا خرجنا مثخنين بأبشع ما تزدحم به الصدور من جروح وضغائن، خرجنا بخسارات ضخام لا يمكن أن نتبين مدى ضخامتها وبشاعتها الآن وربما في المدى القريب.
الجرح اللبناني إذن مغور «الآن» في صدورنا، حتى لو توقفت الحرب .. ولأن الكارثة حدثت، والخديعة تمَّت، فلا يبقى الآن لمتفرج مثلي ومثلك ومثل الزعماء: كمال جنبلاط وياسر عرفات، مثل حافظ الأسد وبيار الجميل وسرکیس، مثل مواقف مصر والسعودية والكويت وليبيا والعراق والجزائر، مثل مواقف المائة والعشرين مليون عربي، إلا أن نعرف كيف خُدعنا وكيف أمكنهم أن يفعلوا ذلك بنا وأن نفعل ذلك بأنفسنا، لا لنتذكرها عبرة طوال التاريخ المقبل، وإنما لنتدبر الحادث لكل منا الآن، في كل بلدٍ عربيٍّ وليس على مستوى السلطة والقيادة في كل منها، وإنما حتى على المستوى الفردي الشخصي الذاتي، لي ولك ولها وله.
فما حدث خطير .. خطير .. خطير!
وما يحدث وما يمكن أن يحدث أخطر .. وأخطر .. وأخطر!
ولنتدبر ما حدث.
ولكي نتدبر نتعلم معًا لعبة الشطرنج.
•••
في لعبة الشطرنج يكون أهم أهدافك أن تُخفي «هدفك» عن عدوك، وقد لعبتها قواتنا المسلحة المصرية ببراعة في عبور ٦ أكتوبر، فلم تتصور إسرائيل للحظة أن هذه التمرينات الروتينية على عبور القنوات «الصناعية» والطبيعية يمكن أن تنقلب في ساعة صفر إلى عبور «حقیقي».
إخفاء الهدف — إذن — أمر مهم تمامًا. ليس فقط في لعبة الشطرنج، وإنما في لعبة السياسة والحرب والاغتيال. فنحن نحيا في عصر الغدر. انتهى تمامًا عصر «إعلان» الحرب واللقاءات الشهمة فوق أرض المعركة .. فالغدر أقوى الأسلحة، وبالغدر حاربتنا إسرائيل كل حروبها .. بل وعقدت أحيانًا هدناتها واتفاقاتها، ومنهم تعلمنا وسنتعلم أكثر. ذلك أن الغدر طريق لا نهاية له، فإخفاء النية ممكن أن يتخذ أشكالًا لا عدَّ لها ولا حصر.
والحق أني مثل غيري من ملايين المواطنين، لم أتصور أن هذه الاحتكاكات الأولى في لبنان ممكن أن تصل إلى قمة المأساة التي نقف فوقها أو تحتها اليوم .. ذلك أنها كانت تُشبه حركة العسكري أو البيدق الأولى. حركة بريئة لا يُقصد بها سوى التقدم خطوة. لا يمكن أن نتصور أن هذه الحركة ما هي إلا مقدمة لإفساح مجال «الوزير» الأسود کي ينقض. وحتى لو تابعت حركة الوزير فلن تفطن أبدًا إلى أن الهدف النهائي هو رقبة الملك «الأبيض» وكلمة: كش .. مات.
لن أقول الآن من هو الملك «الأبيض». ومن هو الوزير «الأسود» فنحن نحاول حل معضلة، أو ربما استخلاص قانون. وفي مجال العلوم يحدث هذا بتجريد الأشياء والموجودات من محتواها المادي والمعنوي وإحالتها إلى رموزٍ رياضية وحلها كمعادلات رياضية بحتة.
ونحن الآن قد جرَّدنا الرقعة من الجثث، ونظفناها من الدماء لنرى الأبيض من الأسود فيها، وأحلنا القوات إلى رموز شطرنجيةٍ، وإذا كنت سأذكر اسم هذا اللاعب أو ذاك، أو اسم تلك القوات أو تلك فأرجو أن نُجرد الأمر أيضًا من فكرة الاتهام ذي الوثائق والحيثيات، ذلك أننا الآن لا نحاكم، بل حتى لا نتقاتل، نحن كما أودُّ أن أذكر مرة أخرى، نراقب «اللعبة» .. وكيف «لعب» بنا (بضم اللام أو فتحها، أنت حر).
•••
بدأت النقلة الأولى .. تحركت القوات اليمينية حركة، رد اليسار اللبناني .. عسكري بعسكري .. أكل العسكري عسكريًّا .. انطلقت الأفلام المجيدة في الصحافة العربية تتحدث عن الصراع بين «اليمين» و«اليسار» في لبنان، باعتبار المشكلة مشكلة «طبقية».
(من المحتم عليَّ أن أُذكِّرك معي بأن الهدف الخفي كان — وربما لا يزال — خفيًّا، وهو: كش ملك .. مات .. للملك الأبيض.)
بدأنا إذن نتناول نحن، أقصد عباقرة المحللين والمنظرين والعارفين ببواطن الأمور، نتحدث عن الصراع بين اليمين واليسار في لبنان. عن اليمين الغني الذي يملك كل شيء، وعن اليسار المظلوم المهضوم الذي يُسيطر على جماهير واسعة من الشعب اللبناني.
وما دام الأمر هكذا، فالمقاومة الفلسطينية كانت حكيمةً جدًّا حين أعلنت بصراحة ووضوح في هذه الأيام — القليلة جدًّا — الأولى، أن هذه مشكلة لبنانية داخلية، وأنها — المقاومة — ستبقى بعيدًا عن ساحة الصراع الطبقي اللبناني.
ولكن لأن هذه لم تكن إلا الخطوة الأولى، فقد كان لا بد أن تعقبها الخطوة الثانية البسيطة جدًّا. وهي إضافة كلمة الماروني إلى اليمين والمسلم إلى اليسار، وهكذا صعد الصراع إذن إلى مرحلة أن أصبح بين اليمين الماروني واليسار المسلم.
إذن المشكلة التي بدأت «طبقية» أو أُوحِي إلينا أول الأمر أن المشكلة طبقية، سرعان ما تحولت إلى مشكلةٍ طائفيةٍ، لماذا؟ لكي يُستدعى إلى ساحة المعركة كل التراث الطائفي الذي يلتهب من زمن تحت الرماد .. كل النعرات والصراعات والصغائر الطائفية اللعينة الكامنة منذ مئات السنين والتي — للأسف — لم تتولَّ فكرة وطنية حقيقية إذابتها وإزالتها من الوجود، تدفقت مرة واحدة إلى الساحة وبغزارةٍ متزايدة.
وبدا كأن الحرب أصبحت تمامًا بين، ليس المارونيين والسُّنة والدروز؛ وإنما بين المسيحيين أجمعين وبين المسلمين أجمعين.
وهكذا، كما توسعت رقعة الاستقطاب العالمي. فأي مسلمٍ بطبيعة الحال لا بد أن ينصر المسلم، وأي مسیحي بطبيعة الحال لا بد أن ينصر بقلبه المسيحي، وأصبحت صحف وإذاعات وتليفزيونات العالم، ونحن من بينه، نتحدث عن الحرب الصليبية الجديدة بين المسيحيين والمسلمين. كل ما في الأمر أنها حربٌ صليبية عربية هذه المرة، زيتها في دقيقها، وشهداؤها هم القاتلون والقتلى معًا.
هنا كان لا بد أن تأتي الحركة من جانب المقاومة.
(وأيضًا لا تنسَ معي أن الهدف النهائي هو اغتيال الملك الأبيض) .. فإذا أبقت المقاومة على موقفها «المحايد» من هذا الصراع بين اليسار «ولو كان مسلمًا» وبين اليمين «ولو كان مسيحيَّا». لو وقفت على الحياد بين التقدم والتأخر، وبين التحرر والتبعية، إذن لفقدت صفتها كمقاومة، وقيمتها كقوةٍ ثوريةٍ عاتية ليس في لبنان وحده؛ بل وفي المنطقة العربية كلها.
إذن لا بد أن تأخذ المقاومة موقفًا.
لا بد أن تتحرك قطعة الشطرنج. فالهدف الخفي الأول — إذ دائمًا هناك الهدف الأخفى والأعظم — هو إخراج المقاومة من جيوبها وخنادقها واستحكاماتها إلى الساحة المكشوفة .. الهدف .. جر رجلها .. مجرد الرجل، وستتوالى الحوادث والأحداث وتصعيد المواقف، وسيتولى اللاعب العبقري، مهمة التحريك. وفي الوقت المناسب، وخلق الظروف التي لا يمكن معها إلا أن تتحرك كما يريد هو حتى ولو لم ترد أنت.
(بربکم راجعوا هذه الجملة مرة أخرى، وخصوصًا أنتم يا سادتنا الساسة.)
•••
وجود الناس في أرض الناس، حتى لو كانوا أهلًا وأشقاء، دائمًا أمر، وإن احتُمل لفترة، فهو أمر مستثقل. ووجود الفلسطينيين في لبنان ليس مسألة طارئة أو تاريخية يرجع ربما إلى سنوات ثورة ٣٦ وقبل ٤٨ بكثير. وجاءت الحروب المتعاقبة بآلاف جدد من المهاجرين، ثم كان من المحتم أن يُصبح الوجود «مُسلحًا» ليدافع عن نفسه لقصور الجيش اللبناني الرسمي عن حماية حتى اللبنانيين في الجنوب أنفسهم. وهكذا نشأت التنظيمات المسلحة وعلى رأسها «فتح»، والجبهة الشعبية، بل و«تعرَّب» التسليح وخُلقت منظمات وتنظيمات وعشرات «الجبهات» المتحدة والوطنية والثورية والفوقية والتحتية.
أقول هذا كمقدمة لا بد منها لكي أقول: إن جرَّ ساق المقاومة الفلسطينية كان معناه دفق كمياتٍ وافرةٍ من مخزون الحزازات التي قامت بالنسبة للوجود الفلسطيني على أرض لبنان. آلاف الحزازات الصغيرة والكبيرة يضاف — وملتهبًا — إلى الحزازات الطائفية والعرقية والعشائرية والمارونية والسنية والأرثوذكسية والدرزية والشيعية والعلوية والكاثوليكية والغربية والشرقية والعربية والعراقية والسورية والبعثية والشيوعية والقومية والشعبية والفتحية والصاعقية والنضالية والأيلولية الأسودية … إلى آخر قائمة لا تنتهي، ويبدو أنها لن تنتهي أبدًا.
وإنني — في أسًى هائل — لا أملك إلا أن أعجب بعبقرية اللاعب؛ فقد «ضحَّى» كما يقولون في الشطرنج، في هذه الحركة: جر ساق المقاومة، بثلاثة أرباع الرقعة.
استطاعت القوات الفلسطينية، اللبنانية التقدمية أن «تكتسح» في أسابيع قليلة وتستولى على ما يقرب من ٨٠ في المائة من مساحة لبنان، وبدا كما لو كان لبنان موشكًا على الوصول إلى رحلة «الديمقراطية الشعبية» بقيادة كمال جنبلاط وياسر عرفات. أقول: «بد»؛ لأن هذا هو المهم. فقد كان من المهم تمامًا أن تنجرَّ ساق أكبر إلى ساحة الرقعة .. ساق سوريا «التقدمية» وإلى جانب من؟ إلى جانب اليمين و«ضد» القوات التقدمية المتحالفة.
أليس — بذمتكم — لاعبًا عبقريًّا ذلك الذي اخترن السلاح «الشيوعي» الروسي ليضرب به القوات «التقدمية» في لبنان، وروسيا جالسة كالدب الكبير الحائر ماذا يفعل؟ بينما الآخر «يلعب» وأي لعب يلعب.
ولكن هذه كانت مجرد حركة، ولا تنسَ معي في النهاية أن الهدف هو رأس الملك الأبيض.
•••
ألفان من الجنود والمعدات، ثم أربعة، ثم خمسة، الساق تغوص، الساحة العربية تصطخب وتجأر وتثور وتفور. الدنيا كلها قامت ولم تقعد، الحرب التي بدأت «طبقية» لبنانية محضة تصبح بعد قليل حربًا طبقية طائفية إسلامية مارونية، ثم حربًا مسيحية يمينية ضد تحالف إسلامي تقدمي، ثم حربًا إسلامية علوية مارونية سورية كتائبية ميليشية جميلية شمعونية فرنجية ضد قوات تقدمية بعثية شيوعية درزية شيعية سنية فلسطينية لبنانية ليبية عراقية جزائرية مغربية سودانية … إلخ.
الهدف اغتيال المقاومة الفلسطينية.
وكل ما سبق وحدث إنما هو الانقلاب. صحيح أُريقت دماء وولدت جراحات لا تندمل، ولكن، لا اليمين الليبي بكل فئاته ولا أي قوةٍ أخرى داخل لبنان أو حتی خارجه كان باستطاعتها أن تقوم بهذا العمل القذر.
كان لا يمكن أن يحدث هذا إلا على يد جيش حديث مدرب، وعربي، وهذا هو المهم تمامًا، ليس مهمًا أن يكون الخنجر من واشنطن أو موسكو، إنما المهم أن تكون اليد «عربية». لتكون الجريمة كاملةً، بحيث لا يمكن أن يترك الفاعل الحقيقي أثرًا، وبحيث من الممكن، ليس فقط أن تُباد المقاومة في لبنان، وإنما أن يختفي أثر الوجود الفلسطيني في العالم العربي، ويُباد، بأيدٍ عربية أيضًا، بحيث أن ما يحدث في لبنان يتكرر وبأشكال أخرى في بلاد عربية أخرى، بل وعلى مستوى عربي عام، الحساسيات اللازمة موجودة ومتوفرة بكثرة، المناخ موجود، الصراعات الرهيبة قائمةٌ وموجودة، التفاوت الطبقي والصراع الطائفي والعرقي والعشائري بخير كثير والحمد لله.
والآن الملك الأبيض فوق جبل لبنان، وحده، في خانة الْيَك الأخيرة. والوزير، وإن كان أبيض، إلا أن ما سمَّيناه الوزير الأسود يقول، دون أن يقول، فهو لا يقول، إنه فقط «يحرك»، بلا كلام، والشطرنج أبدًا ليس في حاجة لكلام، يقول كش .. مات.
يقولها بخنجر «روسي» وبيد «عربية» وأمام الملأ كله.
وكأنما هو ضامن أن أحدًا لم يعد يستطيع شيئًا.
•••
أكان غلاة المتخيلين يتصورون هذا؟
أكان أحدًا في عام ١٩٧٤م أو ١٩٧٥م، أو حتى أوائل ١٩٧٦م يتصور أن المقاومة ستُغتال في لبنان؟
هذا الإخفاء الخطير للهدف.
کیف «لُعب» بنا، كلنا؟
وكيف لا يزال «يلعب» بنا؟
إن اللاعب على وجهه قناع، لا أستطيع أن أتبيَّن تمامًا من هو. هل، هل تستطيع أنت؟
تبدأ الألعاب كلها في لعبة الشطرنج بنقلة.
وفي «شطرنجنا» العربي كما رأينا، يبدو أن الموضة أصبحت أن النقلة الأولى هي إطلاق صرخة: الذئب الذئب! اليسار اليسار! اليمين اليمين!
أم أني جاهلٌ في السياسة مثل جهلك في لعبة الشطرنج؟