وقفة مع النفس هذه المرة
أجل في نهاية الأمر، الرجل ليس شوارب كثَّة أو صوتًا عاليًا غليظًا، والمرأة ليست مجرد أنثى غندورة تعبث بها الحياة كما شاءت. لا. لا. لا الرجل ولا المرأة خلق من أجل أن يكون جثةً طافيةً فوق سطح الحياة، يتولى التيار العام أو الموج أو الرياح أو الصدفة اتخاذ القرار لها بالوقوف أو النكوص أو الانحراف، الإنسان إرادة. الإنسان إنسان فقط حين يرید، أي في تلك اللحظات التي تتكون له الإرادة فيها. ليس مهمًّا ماذا أراد أو يريد، ماذا أحب أو لم يحب، وإنما المهم أولًا وقبل أي شيءٍ آخر أنه إنسان؛ لأنه — دونًا عن كافة الجماد والمخلوقات — كائن ذو إرادةٍ. أي له القدرة أن يريد الشيء أو الهدف، حتى إذا اختلف ذلك الشيء أو الهدف عمَّا جرى به العرف أو توافقت حوله الآراء، يريد ويحقق ما يريد.
وإذا كان الإنسان إرادة، فالإرادة أولًا قرار.
والقرار هذه المرة ليس عاديًّا أبدًا: أن تكون أو لا تكون. ليس في مسرحية، من شعر شيكسبير .. أو موقفًا في رواية أكتبها. ولكنه واقعٌ صلب بارد لا مبال، مثله مثل كافة الحقائق في الحياة.
قرار عليَّ أن أتخذه، أنا المملوءة خزانتي بأنصاف القرارات وأرباعها، وكادت حياتي تئول في النهاية إلى «صندرة» قرارات مُوقَفة التنفيذ، مجمدة، كُهنة، مهملة. أنا، وممن؟ من شعب حياته «وكالة بلح» لقرارات وقرارات، على المستوى العام وعلى أخص المستويات، كلها مكسرة أو مكهنة أو مهملة، أو صدئت تمامًا حتى فقدت فاعليتها وأصبح لا ثمن لها حتى في سوق خردة القرارات.
أجل، لحظة، أو موقف، تكشَّفت لي فيه أشياء كثيرة جدًّا. عن نفسي، وعن شعبي، وعن حياتنا، وعن المأساة الحقيقية في حياتنا: إننا شعب بلا قرار، نكاد نكون بلا قدرةٍ أصيلة على اتخاذ القرار. نترك الأمواج والأهواء والحيوات تعبث بنا كيف تشاء. تشیلنا الحياة وتحطنا. يتحدد مصيرنا. يتطربق أمام أعيننا المستقبل. أو يحفل بالورود والزهور. يتغير الواقع — واقعنا — أمام أعيننا تغيرًا جذريًّا أحيانًا. ونحن ننظر في شِبه بَلَه إلى الأشياء وهي تقع، وهي تحدث، وهي تتفاقم، وكأن مردةً أو جنًّا أو عفاريت أو أشياء مجهولة هي التي تحرك الواقع وتحركنا. ولسنا في هذه المهزلة كلها المسمَّاة بالحياة سوى متفرجين. ننتظر آه. نصبر آه. نأمل آه. نعذب آه. نشكو آه. نلطم آه. نصرخ آه. نفرح آه. ولكن أبدًا أبدًا لا نصنع نحن الفرح، ولا نصنع نحن الحزن، ولا نصنع نحن الحدث، وبالتالي لا نصنع أبدًا ذلك الشيء المهم، أهم شيء في حياتنا. لا نصنع حياتنا نفسها؛ وإنما هي دائمًا تُصنع «بضم التاء» لنا. تأتينا من أهلنا جائز، من طبقتنا جائز، من الظروف جائز، ولكنها تأتينا جاهزةً، فنقبلها وكأنها أمر القدر. عمرنا أبدًا لا نرفضها أو حتى نفكر في غيرها. كل ما نطمع فيه أن نحسِّنها بعض الشيء، أو نتعذب ونشكو بعض الشيء .. طلعت ضيقة شوية .. لأ .. واسعة حبتين .. لأ .. الخصر مرهرط شوية .. وهكذا أصبحنا أعظم أخصائيين عن كافة الشعوب في تقبل الحياة كما هي، و«تأييفها» — على رأي التعبير العسكري — والتواؤم معها.
ذلك أننا — مثلنا مثل ماء النيل في بعض أجزاء النهر — نتوخى دائمًا أسهل الخطوط وأسلسها لنشق المجرى أو نحيا .. ذلك لأن معنى غير التقبل، معنى الرفض أحيانًا، معنى أن نقول: لا للظروف أو لتلك الحياة الجاهزة، معناه رهيب وخطير ومروع، معناه أننا سنرفض الجاهز لنقرر نحن واقعًا من صُنعِنا. وتلك هي الكارثة. فمعناها أننا نكون مسئولين مسئولية كاملة عن إقامة حياة أخرى كما يحلو لنا. حياة قد تنفع وقد تفشل، وسنلقي فيها كل صعوبات خلق الأشياء والتفكير لها والتدبير، وأرذل الأشياء جميعًا، اتخاذ قرارات عميقة حاسمة ننفذها ونتعب تمامًا في أخذها وتنفيذها .. أليس الأريح والأفضل أن نقبلها، ويا شيخ، بلاش وجع دماغ .. أنت لسه ح تعمل وتسوي، خدها كده وريح نفسك. وعلى إيه دوشة الدماغ دي.
وهذه بالضبط هي المشكلة «دوشة الدماغ». إذ نحن نسمي التفكير — ذلك الذي يتفرَّد به الإنسان، والذي اختصَّه به الله دونًا عن سائر الكائنات والأحياء — نسمِّيه «دوشة دماغ»، وكأن الدماغ خُلق لشيء آخر غير هذه «الدوشة» أو هذا «التفكير». ألا نقول لبعضنا البعض إذا رأينا إنسانًا منحرف المزاج قليلًا: أصل عنده شوية «فكر» .. التفكير إذن دوشة ومرض ووجع رأس. والحل .. اللاتفكير، الحل أن تكون سلطان زمانك. ذلك السلطان الصعلوك الذي يلملم فتافيت الأسياد ويزدردها، ويدلق في فمه قُلة ماء ويتكرع ويقول: أنا سلطان زماني.
سلطان زمانه هذا الذي في حياته ما تبوأ عرشًا، وإنما فوق رأس هذا السلطان زمانه أُقيمت العروش والأعراس، وركب الرومان واليونان والفرس والعرب والإنجليز، وكان ممكنًا أن يركب الروس والأمريكان وكلشنكان، فما أكثر ما ركب الطغاة سلطان زمانه، ذلك المركوب دائمًا معنًى ومجازًا «الملجم دائمًا» معنًی ومجازًا، الذي يعتبر أن البردعة الموضوعة على ظهره هي العرش، لا يهم أنه العرش بالمقلوب، ولا يهم أنه ليس عرشًا وإنما ربما «عریش» عربة كارو. ماذا يهمُّ؟ ومالي أنا ومال «وجع الرأس»، و«الدوشة» حيث تركبني الهموم والأفكار .. مالي أنا وما لهذا كله؟
هكذا راحت مشكلتي الشخصية كلما اجتررتها أو جذبتها أحسُّ بها كخيط الحاوي، تخرج بأشياء وأشياء، لأجد أنها ليست مشكلة الساعة أو العصر؛ وإنما هي طويلة طويلة، طولها ألف، ألفان، خمسة، ستة، سبعة، عشرة، آلاف ربما من الأعوام. أنا فردٌ، هذا صحيح؛ ولكن داخلي شعب بأكمله. داخلي تاریخ قديم قديم يمتد من الأزل إلى الآن. داخلي مفهومات وترسُّبات وقضايا مُسلَّم تمامًا بها، داخلي عصور جيولوجية صخور من الرواسب فوقها صخور، داخلي إنسان مشكلته أنه أقدم إنسان ظهر على سطح الأرض، عجوز، عجوز جدًّا، بلغ من الشيخوخة حد أن لم يعُد مهمًّا أبدًا أي شيء يحدث في الحياة أو للحياة.
تلك هي بالضبط المشكلة التي من أجلها بدأت ثورات الإنسان المصري في عصرنا الحديث، ولا تزال مشكلة أن تعيش كما يريدون أم كما نريد نحن، ولأن الشعب هو أولًا وأخيرًا فرد، ولأن الفرد هو أولًا وأخيرًا قرار، فثوراتنا كلها — وإن كانت ثورات جماعية شعبية — لها مليون ظرف تاریخي، ومليون وجه ونتیجة وتفسير؛ إلا أنها في أهم جوانبها راجعةٌ إلى تململ ذلك «الأنا» المستسلم للقدر وللحياة في قلب المصري، تململه من أجل أن يعود يحيا، ومن أجل أن يعود يرید، ومن أجل أن تصبح إرادته في النهاية واقعًا، واقع لأول مرة من صنعه هو، ومن كدِّه ومن عرقه، وبإرادته الحرة المطلقة، وفي النهاية بقراره.
•••
علمنا آباؤنا وأجدادنا، علمونا في المدارس والكتاتيب والجامعات، حفظنا جدول الضرب وجدول مندليف، وعلَّمونا جدولة الديون. كم علمونا وكم تعلمنا، ولكن أحدًا لم يأخذ باله أبدًا ومطلقًا من أهم الأشياء جميعها. أن يعلمونا أو نتعلم كيف نصبح رجالًا .. أو بمعنى أدق كيف يصبح لكل منا شخصية، وكيف يكون للإنسان منا رأيٌ، ثم في النهاية — وبناء على تلك الشخصية وهذا الرأي — يأخذ قرارًا.
أجل السؤال هو: كيف يتخذ الإنسان المصري منا قراره؟
بادئ ذي بدء وكما قلنا فإن معظمنا لا يكلف نفسه عناء اتخاذ أي قرارٍ. فحياته كلها ليست قرارات من صنعه وإرادته؛ وإنما هي سلسلة من الأفعال وردود الأفعال، أو هي بالأصح ردود أفعال لما يقوم به أو يأتي من الغير.
والفرق كبير جدًّا بين القرار ورد الفعل.
فالقرار هو الأصل، هو في الحقيقة الفعل، هو تحقيق الوجود بتحقیق الإرادة. عملية إيجابية يتخذها «الأنا» الأعلى في الإنسان ليحقق بها رغبته أو إرادةً أو خطةً من صُنعه هو وخلقه وابتكاره؛ بينما رد الفعل عملية سلبية تمامًا، في الغالب هدفها مجرد الدفاع الغريزي التلقائي عن النفس أو الموقف، القرار هو القدرة؛ بينما رد الفعل هو العجز عن القدرة، عجز عن المبادرة، عجز عن إيقاف الآخر أو الآخرين، موقف المدافعين بحيث تُرغمهم هم، ولست أنت، على القيام بردود الأفعال.
•••
وبصراحة نتكلم: من منا — نحن المصريين — يستطيع أن يزعم لنفسه أنه صنع أو يصنع حياته كما يُريدها هو وليس كما أُريدت له أو شاءتها الظروف والملابسات؟
كم في المائة، كم في الألف، بل كم في المليون من يستطيع، وبصراحة مطلقة بينه وبين نفسه، أن يزعم هذا؟
أنا لا أريد بسؤالي أن أُقلِّب المواجع أو أتحسَّر أو ألوم، بل حتى لا أُريد بهذا الحديث كله عن نفسي وعن عمليتي وعن قراري، لا أريد أن «أكتب» انطباعات، أو ذكريات، أو أسجل واقعًا من النادر أن يمرَّ به الإنسان العادي، فما بالك وأنا أول كاتب في العالم «يُجرِّب» المرور بعملية في القلب! كان هدفي الأكبر — ولا يزال — أن أُحيل هذه التجربة الشخصية المحددة إلى القضية العامة التي تهمُّ كل الناس، قضيتنا نحن كشعب احترنا في أنفسنا وحيَّرنا العالم كله معنا. بالضبط من نحن؟ وكيف نفكر؟ وكيف نعيش؟ وكيف نقرر؟ ما هو داؤنا الأكبر؟ وأين المكمن العظيم لقوتنا؟ تلك هي المشكلة التي كانت ولا تزال وستظل تلحُّ عليَّ: أن أكشف لأنفسنا سرَّنا أو بعضًا من هذا السر. أن أجعل ذلك الشاب أو الشيخ، وتلك الفتاة في البنطلون المحزَّق، أو في زي الأخوات المسلمات، أن أحاول مع هذا العالِم الديني الجليل الذي يُفتي للناس في أمر دينهم ودنياهم دون أن تختلج له ذرة تردد، مع هذا المثقف الجالس على القهوة أو على المكتب الذي «وضعوه» خلفه ينقُد، ويلذع، ويثور، ويُندِّد. مع منبر اليمين والوسط واليسار. مع المصفقين للإنتاج، الهاتفين بحياة الغرب، مع الثائرين يهتفون للشرق، مع المرأة المصرية الحائرة بين أن تُغامر مثل جارتها أو تتأدب، وسائق التاكسي الذي ينبت في رأسه فجأة أن يحيط العداد بالفوطة ويُضرب عن العمل، مع أهلنا وأحبابنا فلاحينا الذين يزرعون ويزرعون ولا زالوا يزرعون وسيظلون يزرعون إلى ما شاء الله.
•••
مع هؤلاء جميعًا، أحاول، صادقًا ومخلصًا وبكل ذرةٍ من كیاني ووجودي، بمشكلتي الخاصة، بقضيتي العامة، بالكتابة نفسها، بكل ما يمكن للقلم أن يحفره، بكل طاقتي وقدرتي وقدرات كل الناس على أقصى مستوًى للتفكير أن نصل. أحاول ولو مرة في حياتي، أن أقف، ونقف جميعًا، وقفة، لا مع الصديق هذه المرة، ولا مع العدو، لا مع روسيا ولا مع أمريكا، لا مع هذا أو ذاك، وإنما وقفة، يا عالم، مرة، مع أنفسنا، وقفة مع النفس مرة لأجل خاطر نبينا محمد رسولنا العظيم، لأجل خالقنا الأعظم، نقف مرة ونتدبر: ما هي المشكلة؟ ولماذا يحدث ما حدث إذا حدث؟ وهل المسألة حظٌّ أم فتاكة أم قلة حيلة، أم أن للمسألة وجهًا آخر، لم نره أبدًا؟ لا أحد أراه لنا، وربما نحن لا نُريد أن نراه، وجهًا آخر هو وجهنا نحن.
لننظر في المرآة:
لن نخاف أو نتوجس، فنحن بعد لم نعد أطفالًا، الحرب حاربنا، التاريخ صنعناه، آمون خلقناه وعبدناه، وكم من آمون خلقناه وعبدناه ثم أمتناه وبكينا عليه، كل شيءٍ فعلناه، وكل شيء نفعله ومستعدين أن نفعله. انفتاح مستعدين، اشتراكية مستعدين، نظام مستعدين. فوضى مستعدين، تمام، كله تمام يا افندم. وكم ضيعتنا كلمة «تمام یا افندم»! يسار دُر: ندور، يمين در: ندور، وسط در: ندور، فوق در: ندور، تحت در: ندور. شقلبة تشقلبنا، جدعنة تجدعنَّا، مرمطة تمرمطنا، ثورة ثُرنا، تصحيح صححنا، شدُّ أحزمةٍ شدَّينا، غنا غنينا، رقص رقصنا، تضحية بلا ذرة تردد ضحَّينا، نكسة انتكسنا، سمُّوها هزيمة انهزمنا، جاء ٦ أكتوبر يُنقذنا فأنقذنا.
كل شيءٍ فعلناه وكل شيء مستعدون أن نفعله.
إلَّا شيئًا واحدًا أخاف خوف الموت أننا لن نقدر على فعله. ذلك أن نواجه أنفسا بقى.
نغسل أصباغ البهلوانات والمهرجين .. نخلع ثياب الأبطال أو الشحَّاذين .. نرمي العكاكيز .. نتخلص من العاهات المصنوعة والحقيقية .. من أغطية زجاجات الكاكولة ونياشين البطولة الحقيقية اللامعة المزركشة .. نُزين اللحى المصنوعة .. نتوقف لحظة عن الزعيق الأجوف الذي نحاول أن نخوِّف به الآخرين فلا يخاف منه سوانا. نصمت، يتوقف الصخب المروع المالئ حياتنا، في ثبات الرجال نقف «أقول نقف» وفرقٌ كبير بينها وبين أن نتوقَّف. فالحادث فعلًا أننا متوقفون، والمطلوب أن نكفَّ عن التوقف، ونقف في ثياب الرجال وشجاعتهم، نقف .. ونصنع ألف باء الفعل الجدير بأي بني بشر: نواجه أنفسنا.
•••
لا أقول إذن: نقف جميعًا، بل أقول: ليقف كل منا، عاريًا تمامًا من كل شيء إلا من نفسه، من صدق نفسه، أمام مرآة، وهي ليست مرآة غريبة عليه؛ لأنها مرآة نفسه هو، وعلى مدى وقدر صدقه مع نفسه يكون لمعانها أو ضبابها، وضميره وحده هو الحكم.
ولكن هذا الطلب، وبهذه الصيغة، أن يقف كلٌّ منا أمام مرآة نفسه الحقيقية وقفة مع نفسه، هذا الطلب، وبهذه الصورة فيه أيضًا، ذلك التعميم الذي دائمًا نهواه ونحبه؛ لأنه التعميم الذي به نهرب من الواقع ومن أنفسنا كما تعودنا أن نهرب. ولقد ظللنا نهرب إلى أن انتهى الأمر بنا حيث لا مهرب.
لكي يصبح الأمر تخصيصًا إذن محددًا وواضحًا لا لبس فيه. أقول: فلأقف أنا، قبل أن تقف أنت. فلأقف أمامك. وأمام نفسي وأمام الملأ. فلأقف في تلك الغرفة الخاصة، أمام تلك المرآة الخاصة، عاريًا تمامًا في ذلك الحمام الروحي، لأعرف من أنا. بالضبط: ماذا أفعل الآن؟ ومن أنا؟
وإذا لم أكن أنا، فمن أنا؟ إذا لم أكن ذلك المهرج ولا هذا البطل، إذا لم أكن ذلك القرار صاحب الكلمات الضخمة، ولا ذلك الفعل الذي غيَّر وجه الدنيا، فمن أنا؟ وماذا أفعل الآن؟ وماذا أنوي أن أفعل؟
•••
قد يبدو للبعض أنها مسألةٌ سهلة جدًّا. ما أسهل أن يتعرى الإنسان أو الإنسانة (خاصة هذه الأيام)! وما أسهل أن يقف أمام المرآة! وما أسهل أن يُجيب وكأنما إجابته مسجلة على كاسيت لا ينقصه إلا إدارتها!
أمَّا الصعب تمامًا، أما الخطير تمامًا فهو أن يحدث هذا كله بصدق؛ لأنه يحدث — وربما لأول مرة — بينك وبين نفسك، دون تدخل مطلقًا من أحد، وباختيارك أنت وبإرادتك.
إما أن أعيش الحياة كاملة ومطلقة وبكل ما أريده من حرية.
أمام الحائط الأخرس المرآة واجهت نفسي.
وكان عليَّ أن أتَّخذ قرارًا.
وإما أن أعيشها عاجزًا ومرعوبًا ومكتفيًا بفتات أسيادها.
ولكي أتخذ القرار كان على أن أعرف من أنا، ومن أنتم، وبالضبط من نحن.
ولكي أعرف كان عليَّ أن أكون شجاعًا تمامًا.
والشجاعة ليست صفة.
وليست قصرًا على أحد.
وكلنا نستطيع — لو أردنا — أن نكون، أو على الأقل نواجه ما نريد، حين نريد، بشجاعة.
وأقصى درجات الشجاعة في رأيي ليست أن تقف مع الصديق أو مع العدو أو تواجههما .. الشجاعة الأكبر أن تقول: أنا جبان .. أو أنا خائفٌ، أو أنا لا أستطيع، أو أنا قادر.
هو في رأيي الإكسير السحري للشجاعة.
بل هو الإكسير السحري للحياة.
فلقد اكتشفت أن الحياة كلها هي في ملخصها لحظة قرارٍ شجاع .. ومن يهرب منها ومن يؤجِّلها ومن يؤْثر السلامة أي إشاحة النظر عنها هو الذي يموت. أو هو الميت وإن ظل يُحتسب في عداد الأحياء .. حيًّا .. واسمحوا لي أن أُطلعكم على داخلي الذي لا يختلف كثيرًا عن داخلكم؛ لأريكم كيف أخذت قرارًا، أعتبر الآن، وبعد أن مضى كل شيء — والحمد لله — بسلام، أنه كان أشجع قرار اتخذته في حياتي.
فقد كان قرارًا أن أعيش.
ليس تلقائيًّا هذه المرة، وإنما أُولد على يد نفسي، وبإرادة الله خالقي وبحياة — بعد خلقه الأكبر — من صنعي أنا.
ولكن تلك قصة أخرى.