ألف باء تاء ثاء
آخر عهدي بقرَّائنا الأعزاء أنهم كانوا دائمًا يفهمونها وهي «طايرة» بحيث لا تصبح المقالة أو القصة حصة على الكاتب فيها أن يشرح لقارئه موضوع الدرس وملخَّصه، وفي النهاية يختمه بالحكمة المستفادة من الموضوع. وهكذا أجد نفسي مضطرًّا لأن أعود فأقول — وبمنتهى البساطة: إنه لم يكن بذهني أبدًا أن أقصَّ رواية عجيبة عن «مرضي» أو عن «عملیتي» الجراحية النادرة، مع أن هذا في العادة مادة محببة جدًّا إلى النفس لكل مريض. خاصة إذا مرَّت الأزمة. تصبح قصة مرضه وأقوال أطبائه ومفاجآت مستشفياته مادة خصبة حية يحلو له أن يتربَّع نفسيًّا بعد العشاء مع الأصدقاء أو أثناء الشاي ويحكي السيرة وكأنها واقعةٌ من وقائع الزِّير سالم. بل لم أقصد حتى أن أستعرض حالة فردية «ولو كانت حالتي هذه المرة» لأقتنص منها ذلك الجزء الذي يمسُّ الحالة الجماعية لنا، ويصبح للموضوع حينئذ فائدة عامة.
لا أيها السادة، لا مرض ولا يحزنون، ولا تستعيذوا بالله من السيرة وتقلبوا الصفحة إلى موضوع آخر أكثر أملًا وإنعاشًا للنفس. إنِّي في حقيقة وقرارة نفسي كنت أُريد — وعلى وجه التحديد — أن أتحدث عن ذلك الجانب المشرق في النفس. الجانب الأحيى وليس الجانب الأمرض، الجانب الأكفأ وليس الجانب الأعجز. كنت أريد — ولا أزال أريد — الحديث في صميم لحظتنا الحاضرة، في صميم المشكلة، في صميم ما تعانيه أنت الآن في هذه اللحظة وما أعانيه أنا. ليس لأننا كلنا — والعياذ بالله — مرضى .. وإنما لأننا كلنا — وبطريقة أو بأخرى — نمرُّ بأزمة. الأزمة هي الكلمة، اجعلها اقتصادية تكن، محبة تكن، فكرية أو زواجية، أو جنسية حتى تكن. وما المرض بكل هیلمانه وخطورته، بل ما الموت، بل الحياة نفسها سوى أزمة. لم نخترها نحن والعادة أن الإنسان ليس «غاوي» أزمات، أو هو الذي يختارها، إنما الحادث أننا إلى رقابنا فيها.
ولقد لامني كثيرون أني لم «أشرع قلمي» وأخوض في النقاش الهائل الدائر حول عبد الناصر، وثورة عبد الناصر، و۲۳ يوليو، والسد العالي، والاشتراكية أو اللااشتراكية، التعذيب في السجون، المعتقلات. لاموني وكأن المسألة قد انقلبت من معركة إلى معزًى أو مناسبة اجتماعية عليك أن تؤدي «الواجب» فيها وتجبر بخاطر أهل المتوفى، أو تنهال باللائمة على المرحوم وتعتبره السبب في كل ما جرى. وكنت إذا قيل هذا أو فوتِحتُ فيه أكاد أنفجر ضاحكًا؛ ذلك أنني كنت أتصور الوضع وكأنْ قد قامت فعلًا حريقة في مسرح البالون أو دار الأوبرا، وأن رجال المطافئ قد تركوا الاستعدادات العاجلة المطلوبة فورًا لإنهاء الحريق وراحوا فيما بينهم وبين أنفسهم وعلى صفحات الجرائد وبالساعات والأيام والسنين .. راحوا يتباحثون حول ما يمكن أن يكون السبب في الحريق، وهل هو بفعل فاعلٍ، أم أن الاستعمار العالمي كان منغاظًا تمامًا من مسرح البالون فقلب نظام الحكم في دار الأوبرا وأحالها إلى موقع عربات كارو. نقاش ونقاش وصفحات وصفحات وأطنان من الحبر الأسود والأحمر والأزرق تُدلق فوق جرائد وكتب ومجلات يتخاطفها رجال المطافئ ويجلسون على المقاهي يطالعونها بحماسٍ شديد لمعرفة الأسس الفكرية والعقائدية والنفسية التي تسببت في الحريق، والحريق والع ومتأجج — والحمد لله — أمامهم، يلتهم الأوبرا والبالون والمصانع، ويلتهم النفوس البشرية، ويلتهم التليفونات، ويلتهم المواد والمجاري وكل ما يمكن أن يلتهم على سطح أرضنا الطيبة.
كنت أكاد أنفجر ضاحكًا من الغيظ ومن غرابة الموقف، نناقش الموقف وكأننا — والحمد لله — وصلنا إلى برِّ السلامة وجلسنا مسترخين فوق رمال الشاطئ نتشمس ونتسامر بالحديث عن البحر المهول العميق، والمركب التي غرقت بنا أو كادت تغرق، والمغامرة العجيبة الغريبة التي لا تضارعها مغامرات أجعَص سندباد. وكأن السندباد قد عاد من الرحلة، وكأنه نازع الأهوال والأمواج وأكلة لحوم البشر وعاد معافًى سليمًا لا يشكو من مرض. والعجيب أنه ليس أول موقف مضحك من مواقف التاريخ المصري، أو الطريقة التي يُعالج بها الإنسان المصري حاضره وتاريخه، فلقد ظللنا بعد ثورة عرابي نُناقش أخطاء ثورة عرابي، وخيانة خنفس بك، بينما نفس الذين أفشلوا ثورة عرابي، وعشرات الخنافس الذين خانوا الشعب في خضم هذا النقاش الهائج الهائل يسرقون ما تبقى من ثورة الشعب المصري بعد عرابي، ويهدُّون الجدران والأساسات التي تقف بعد انهيار الأدوار العليا كي يجعلوها سَدَاح مَدَاح. كذلك الأمر حين قيل: إن ثورة ١٩ قد انتكست .. فقد ظل النقاش الساخن الفائر دائرًا حول سعد وعدلي، وأيهما كان على حقٍّ؛ بينما كان الإنجليز والسراي في نفس الوقت المشغولة فيه العقول والقلوب بالتحزب لعدلي أو لسعد .. كانوا يغتالون البقية الباقية من ثورة ۱۹، ويبلعون دستور ٢٣ الذي جاءت به الثورة، حتى ليصل الأمر في أوائل الثلاثينيات بمحمد محمود وإسماعيل صدقي أن يحكما مصر، مصر التي ثارت ثورةً رجَّت الإمبراطورية البريطانية في عنفوان قوتها، يحكمون ذلك الشعب الأسد الذي ثار بالحديد والنار ويحيلون العداء الذي كان من الواجب أن يستحكم بين المصريين والمحتلِّين إلى عداء بين الوفد وبقية أحزاب الأقلية.
ولنصل إلى الآن، وإلى ألذِّ المواقف إضحاكًا. تصوروا، نحن بالكاد قد انتهينا من بناء السد العالي، بل ولم تعمل فيه إلا أربعة تُربينات فقط أي ثلث قوته العادية، وأنفقنا عليه من الجهد والعرق والمال ما — لا بد — ينوء حملُه بشعب صغير محدود الموارد مثلنا. نحن بالضبط مثل التاجر أو الموظف الصغير الذي قضى عمره يُحوِّش ويدبِّر لیبني عمارة من ثلاثة طوابق مثلًا، وها هو قد بناها وأصبحت أكبر رأسمال يمتلكه، وأسكن منها الطابق الأول وبدل أن يعتبر أنه أصبح أمام أمرٍ واقع فعلًا، ألا وهو ذلك البناء، وأن لا سبيل مطلقًا إلى استرجاع ما أنفق عليه وما بذله من جهد إلا إذا هدَّمه وباعه خُردة، بدل أن يدرك هذه الحقائق الواضحة التي لا تقبل الشك أو الجدل؛ بدلًا من هذا يجلس على الرصيف المقابل، لا ليناقش أنسب وأكسب الطرق للاستفادة بهذا البيت الرأسمالي، بدلًا من أن يفكر في إقامة كازينو علوي، أو إنشاء صناعة تعليب أسماك على ضفاف البحيرة، أو استعمال الثمانية تُربينات الكهربائية التي بعدُ لم تستعمل، بدلًا من هذا يجلس وحوله عائلته الكريمة، تاركًا البيت ينعي الوقت والجهد والمال الذي بُذل فيه ليناقش هل كان يصحُّ أو لا يصح إقامة البيت. طيب لنفرض أن إقامته كانت خطأ في خطأ .. ماذا نفعل؟ .. نهدمه؟ .. نطرحه في المزاد العالمي لتشتريه دولة أخرى تقيمه فوق نهر آخر؟ بل لنفرض أننا قاضينا المقاول الذي بناه أمام محكمة خاصة قاسية تمامًا، وحكمت عليه بأقصى الاحكام، ألا وهو الموت مثلًا، ألم ندرك بعد أن المقاول مات فعلًا، وأن هذه التركة لنا، وأن المحاسبة لا بد أن تكون أولًا محاسبة لأنفسنا؛ لأننا لا نستغل التركة — حتى بفرض وجود عيوبٍ فيها ومنها كما يجب؟ لا. نحن لا نفعل هذا أبدًا، وإلا تخلينا عن صفتنا القومية البارزة، سنظل نناقش: أكان يجب بناء السد، أو كان لا يجب؟ حتى ونحن، بلا نقاش، وقبل أن نستفيد الفائدة الكاملة من كهرباء السد نشرع فعلًا في إقامة سدٍّ آخر في منخفض القطارة لتوريد وتوليد كهرباء لنا، وكأننا استنفدنا القدرة على توليدها من السد العالي دون إنفاق مليمٍ واحد؛ بل أكثر من هذا — وبلا نقاش أيضًا، أو حتى محاولة للاستنارة — نُقيم محطات لتوليد الكهرباء بالطاقة النووية تتكلف ملايين الجنيهات، ودائمًا سنستورد وقودها النووي من بلاد أجنبية، وستكلفنا إدارتها وسيكلفنا الكيلووات الواحد منها أضعاف أضعاف ما يمكن أن يكلفه تولید الكيلووات الواحد من الطاقة المائية المتوفرة عندنا — والحمد لله — بكثرة، ومن الطاقة الشمسية التي تغمر الأفق. نفكر في إزالة الملوحة عن مياه البحر الأبيض، وبالطاقة النووية المكلفة وكأننا استنفدنا تمامًا المياه العذبة الطبيعية التي منَّ الله بها علينا من نيلنا الكبير، الذي تذهب مياهُه هدرًا وبمنتهى الإسراف إلى البحر المتوسط إياه؛ لكي تستحيل بتقصيرنا إلى مياه مِلحة، نُقيم لها المحطات لإزالة ملوحتها. ونفعل هذا كله بلا نقاش؛ بينما النقاش في هذه المرحلة هو المحتم والواجب؛ إذ ربما يتفق الأمر عن عمل مواسير أو ترَع بالأسْمَنت المسلح تفور في قلب الصحراء إلى سِيوة لو أردنا، وبتكاليف لا تكاد تعادل واحدًا على ألف من مشروع القطارة الذي قيل — والله أعلم: إننا سنستخدم في إنشائه القنابل الذرية.
النقاش على حسب تقاليدنا القومية المعتادة سيكون — بإذن الله — بعد إقامة هذه المشروعات، وبعد أن نكون صرفنا عليها — نحن الفقراء — الجِلد والسَّقط، وبدلًا من أن نُناقش الآن وبمنتهى الهدوء أولئك المهندسين والمخططين الذين يتصدُّون لمشروعات القطارة وإزالة ملوحة البحر ونتجنب خسارة محققة جسيمة، أو يتكشف لنا الأمر عن مكسبٍ حقيقيٍّ، بدلًا من هذا ننتظر حتى يخططوا بسرعةٍ وعلى عجلٍ للمشروع، ويصبح أمرًا واقعًا ومالًا وجهدًا وعرقًا تحتويه الرمال وتبتلعه أمواج البحر، وهنا نجأر بالصراخ ونطالب برءوس هؤلاء المخططين والمهندسين بعد أن يكون معظمهم قد تاواهُ القبر أو انتهى أجله، أو أصبح في حالة لا تسمح بأي عقابٍ.
أليس الأفضل أن نُناقش الشيء «قبل» أن يُصبح خطأً أو صوابًا من أن نُعاقب مرتكب الخطأ «بعد» أن يكون العمل قد تمَّ؟
•••
ما علاقة كل هذا بالمرض والعملية؟
العلاقة أن المرض والعملية والظروف القاسية التي نكره الحديث عنها الآن وعن قولنا: إننا نمرُّ بها؛ ليست في شكلها المجرد سوى «أزمة».
والإنسان إذا مرَّ بأزمة، مفروضٌ أن لا يتوقف ليندب حظَّه العاثر ویبكي وينوح ويتساءل: لماذا هو — دونًا عن بقية الدنيا — قد أُصيب بتلك الأزمة؟ إنه قد يتوقف لبرهةٍ، هذا صحيح، ليعرف من أين أو كيف جاءته، ولكنه لا يعرف هذا ليحاكم جسده الذي تخاذل، أو يصبَّ جام غضبه على الميكروب أو الجلطة؛ وإنما ليستمد من معرفته هذه نورًا يهدیه السبيل للمقاومة الفورية الواجبة. مرة أخرى أقول: يعرف ليقاوم. وخلايا الجسد نفسها ببساطتها وتلقائيتها تعلمه تمامًا هذه الحقيقة. تتولى معاملها ومراكز المقاومة تحليل سم الميكروب، وتحديد فصيلته، ثم تتولى مصانعها المدفونة في أكبادنا ونخاع عظامنا؛ تتولى على الفور صناعة الأسلحة المضادة، تصنع الأسلحة وهي قد دخلت المعركة من أول لحظة، تحارب وهي تصنع، تحارب وهي تفكر وتحدد، تنظم مقاومة شاملة غير محدودةٍ في أول الأمر، ثم حين تتولى معاملها المحللة تَبيُّن العدو أكثر فأكثر تنتج له — وهي أيضًا تحارب وتقاوم — أسلحة أكثر دقة وأكثر تخصصًا وأكثر قدرة على التهام أسباب العلة ومقاومتها.
ولكن المسائل تتعقد كثيرًا، حين نُدرك رحلة مقاومة الجسد، وحرب الخلايا الطبيعية الفورية، ونصعد فوقًا إلى المرحلة الأعلى، حيث لا بد على الإنسان ككل وكإرادة أن يدخل المعركة. فهذا هو دخول الأسلحة الثقيلة، إذ إن أثقل سلاح يمتلكه الإنسان ليصدَّ به العدو أو يرحب بالصديق هو إرادةٌ، وأثقل قذيفة تطلقها الإرادة هي قذيفة القرار .. وهنا تأتي علتنا القومية .. فأسخف شيء لدينا هو إنتاج هذا النوع من الأسلحة المحلية، مع أنها السلاح الوحيد الفعَّال.
لا أدري لماذا؟ .. أبسبب أننا تعودنا دائمًا استيرادها، أبسبب أننا رغم حديثنا الكثير عن أن الإرادة لا بد أن تكون إرادتنا، وأن القرار لا بد أن يكون مصريًّا أولًا وأخيرًا نغفل عن حقيقةٍ خطيرةٍ هي أننا يمكن بهذه الوسيلة أن نجعل اتخاذ القرار حقيقةً في أيدي غيرنا، بل ربما في أيدي أعدائنا؟ فحين يعرف أعداؤنا — حتى بفرض وجود عيوبٍ فيها ومنها — قراراتنا، هي في الواقع ردود أفعال لأفعالهم هم، ردود مصرية حقيقية .. نابعة منَّا .. هذا صحيح .. ولكن سببها وعلتها أنها موجهةٌ ضد «قرار» آخر اتخذه العدو أو اتخذه الصديق. وأن هذا العدو باستطاعته التحكم في قرارنا .. أي التحكم في ردود أفعالنا بالتحكم في قراره هو. وبهذا تكون النتيجة في النهاية أن العدو هو الذي يُقرر لنا .. ومثل هذا واضح تمامًا في حرب ٦٧ فقد بدأت المسألة بصرخة استغاثة مشبوهة من الحكم السوري في ذلك الوقت أن إسرائيل تحشد قواها لاجتياح سوريا، ولأن رد الفعل كان مدروسًا فقد كان معروفًا للإسرائيليين أن رد الفعل الطبيعي لمصر أنها ستقول: لو حدث عدوان على سوريا فسوف تتصدى مصر للدفاع عنها. وهنا تصرخ صحف مشبوهة أخرى في بيروت وتقول: كيف يا عبد الناصر، يا من تزعم أنك زعيم القومية العربية تستطيع الدفاع عن سوريا وأنت نفسك تستعمل القوات الدولية لتحميك من الإسرائيليين؟ فيكون رد الفعل الطبيعي — بعزة النفس المعروفة — أن يقول جمال عبد الناصر: لست في حاجة لهذه القوات للدفاع عنِّي، فلتنسحب هذه القوات. وبسرعة وبلا أي نقاشٍ، وكأن الأمر مؤامرة دولية، يصدر لقوات الأمم المتحدة الأمر الفوري بالانسحاب من سيناء، وبالذات من شرم الشيخ .. ورد الفعل معروف مقدمًا — كلعبة الشطرنج — ومدروس؛ فمعنى خلوِّ شرم الشيخ من القوات الدولية أن تتقدم القوات المصرية للحلول مكانها. خطوة مدروسة تمامًا، وحين يحدث هذا تنفجر میكروفونات الدعاية الإسرائيلية والغربية في كل مكان: الحقوا .. عبد الناصر سیخنق إسرائيل. لقد أطبق على زمَّارة رقبتها من شرم الشيخ .. إسرائيل تختنق. ثلاثة ملايين إسرائيلي مهددون بالإبادة .. إلخ .. أليس في هذا أروع إعداد مسرحي على مستوى الرأي العام كله للوقوف بجانب دفاع إسرائيل عن نفسها؟ أي الحرب، أي ما حدث فعلًا، وهو قيام إسرائيل جهارًا نهارًا بحرب غادرةٍ حطمت فيها الجيش المصري تحت الشعار الذي يبدو عادلًا تمامًا ومنطقيًّا تمامًا، ومحل عطف العالم كله، ألا وهو: الدفاع عن شعب نقبض نحن على زمَّارة رقبته. كل هذه القرارات كانت مصرية فعلًا، ولكن لأنها ردود أفعال لقرارات من صنعهم هم، ومن صميم إرادتهم كانت في الحقيقة قرارات عدُوَّة ونحن لا ندري .. قرارات ليست مصرية ولا عربية، في الحقيقة تكاد تكون قرارات إسرائيلية مضمونًا ووظيفةً وعلةً. وليس من أجل المقارنة؛ وإنما نحن لا زلنا في منطقة القرار .. كان أحد الجوانب العظمى في حرب ٦ أكتوبر أنها، وإن كانت في عمومها رد فعل للاحتلال الإسرائيلي لسيناء، وإنهاء لحالة اللاسلم واللاحرب؛ إلا أن القرار هنا كان فعلًا قرارًا ولم يكن رد فعل .. ولهذا أربك ليس فقط إسرائيل، أربك إسرائيل ومن هم أكبر منها: أمريكا وروسيا وأوروبا وكل العالم، بحيث أصبحت قراراتهم هم مجرد ردود فعل.
والحكمة في هذا أن الذي ينتصر هو الذي يصنع القرار المنتصر.
لا ينتظر أن يَرِد له القرار جاهزًا. لا ينتظر الآخرين ليقرروا، يضع هو القرار، وإذا كنا اليوم في أزمةٍ، فالخروج منها ليس بانفتاح سحريٍّ دائمًا نتصوره كخزائن سليمان ستفتح لنا، وليست فقط بمعونةٍ عربيةٍ. وليس فقط بالقروض. إنما هذه أدوية مصنوعة خارجية تُساعد الجسم على مقاومة المرض. ولكن حتى المضادات الحيوية في أقصى أدوارها لا تشفي في حدِّ ذاتها، لا تشفي إلا جسدًا يُقاوم بنفسه أولًا. وبأدواته وأسلحتها التي أنتجتها معامله ونخاعه مهما بلغت من ضآلتها. وأولًا وأخيرًا بقراره. قرار ذلك الجسد أن يقاوم الأزمة.
وهذه تدخل حالتي وحالتك في الموضوع، فهو صحيح لا يمكن إلا أن يكون قرارًا جماعيًّا من صنع أمة ودولة وحكومة ورئيس وشعب، ولكن حتى هذا كله لا يصلح ما لم يُتخذ القرار أولًا على مستوى الفرد، على مستواك وعلى مستواي. وليس في أمور كُبرى؛ كالانفتاح، أو مشروع القطارة، أو مجتمع الكفاية والعدل الذي نُريد صنعه، وإنما هو يبدأ، إذا بدأ، على أول وأسرع وأبسط مستوى في هذه اللحظة بالذات. لحظة انتهائك من قراءة الجريدة. ماذا سوف تفعل؟ ثق أنك مهما تكُن قد قررت أن تفعل فالفعل لا بد أن يكون له في النهاية هدف، والهدف لا بد أن يكون مرتبطًا بخطة، خطة يوم جمعتك هذا، وخطة هذا اليوم — لا بد، أردت أم لم تُرد — أن تكون مرتبطةً بخطة الأسبوع القادم كله، والشهر القادم، ولا بد في النهاية أن تكون مرتبطة أو متشابكة بخطة أخيك أو جارك أو رئيسك أو مرءوسك أو زبونك .. وكل الخطط — لا بد شئت أم أبيت — أن تكون مرتبطةً بقرار، ليس رد فعل فلم تفعل إلى الآن سوى ردود أفعال؛ إنما قرار، أي فعلٍ، تبدأ أنت أو أنا وتُحدد به بشكل قاطع ماذا تريد، وعلى الدنيا كلها بعد هذا أن تخضع أو لا تخضع لما تريد.
وفي المرة القادمة سأُحدثك عن مواطن مصري مثلي ومثلك أخذ قرارًا صحيحًا، لم يكن قرارًا عاديًّا، ولكنه قرار كأي قرارٍ، قرر أن يصبح أعظم جراح قلب في عالمنا المعاصر.
فكيف فعل؟ وهل وصل؟ وكيف وصل؟ وهل المسألة بهذه الاستحالة، أم أن الاستحالة الحقيقية التي اكتشفتها هي أولًا وأساسًا: أن تأخذ القرار؟