اقتحام الحياة
أحسست أني أمتُّ إلى الرجل بصلةٍ ما .. أتكون نداء الدم؟ هذا الهادئ، المريح تمامًا، المُذهب عنك — حتى قبل أن يفحصك — كل ما يقلقك في هذا العالم، مصري، وإن بدت مصريته في إطار أوسع بكثير حتى من خريطة منطقتنا .. إذن هذا هو مجدي يعقوب، الذي سمعت عن نبوغه وأنا في مصر، وأنا في أمريكا، وأنا هنا في لندن.
كنت قد شبعت طبًّا وأطباء، واستقرَّ رأيي تمامًا أن آخذ الأمر ببساطةٍ، فما دام ليس هناك خطر آجل أو عاجل على قلبي أو صحتي، وما دامت شرايين القلب كلها في حالةٍ حسدني عليها طبيب الأشعة العظيم میسون سونز نفسه، وما دمت كما أنا، عائشًا، حيًّا، صاخبَ الحياة والضحكات كعادتي، فما الداعي إذن لإسلام رقبتي لعملية خطيرةٍ كعملية القلب، لا مسوغ لها الآن بالمرة .. وربما لن يكون لها — كما أكَّد لي جميع من قابلت من أطباء عالمين — داعٍ في المستقبل .. كان موعد عودتي إلى القاهرة قد تحدَّد، وحجزت، ولم يبق إلا شيء أخير أفعله، ذلك أني كنت وأنا في أمريكا قد أخذت موعدًا مع الدكتور مجدي يعقوب عن طريق سفيرنا الطبي في لندن صديقنا القديم الدكتور عبد الغفار خلَّاف، إن هو إلا رأي آخر أو أخير أُضيفه إلى حصيلتي من الآراء والتقارير، وسلامٌ عليكم سلام ورحمة الله.
ولكن — تقدرون فتضحك الأقدار — هذا صحيح.
فحصني مجدي يعقوب. فخور أنا به .. ذلك المصري النابغة الذي عرف ما يريد وعمل له، فأثناء دراسته، وهو في ثالثة طب، قدم لامتحان المرحلة الأولى في شهادة الزمالة في كلية الجراحين الملكية، ونجح فيها، وتلك، في الوسط الطبي والجامعي حادثة لا تقع كل يوم .. لم يقل لي كلمةً واحدة أو اشتكى من أحد، مع أني أعرف أنهم أفهموه منذ اليوم الأول لمزاولته الجراحة في إحدى كلياتنا الكبرى أن لا أمل له في مستقبل جراحي في مصر، ورفضوا تعيينه مدرسًا. وجاء إلى لندن كما يجيء عشرات ومئات — والآن أصبحوا آلافَ — الأطباء المصريين للدراسة أو العمل. هجرة إرادية أو إرغامية، المهم أنه كان — دونًا عن هذه المئات من الأطباء — يُسرُّ في نفسه على أمرٍ .. أن يصبح جراح القلب الأول في هذا البلد الذي ليس بلده، بل أن يصبح جراح القلب الأول في عالم ليس من السهل، حتى على النابغة فيه أن يحصل على وظيفةٍ، أي وظيفة محترمة تدرُّ دخلًا طيبًا. وبدأ العمل في لندن، في عروقه تجري جرثومة الكدح الدءوب الأعظم، الذي ينحدر إلينا من سلالات بعرقها ونضالها أقامت للعالم القديم والجديد وإلى الآن أكبر وأضخم رمز للحياة والموت معًا .. الأهرامات، والمعابد، والتماثيل، التي لا تعبر عن القوة والفن فقط؛ ولكنها وبفصاحة تخرس الألسن وتعبر عن روح شعب إن استهبل أو استعبط أو تمسكن يومًا فإنه يملك داخله طاقةً لا نهاية لها، ورغبة في إثبات الوجود لا حدود لوصفها .. بهذا الدأب مضت أصابعه غير الرفيعة — كما تعودنا دائمًا أن نعرف بها الجراح — تعمل، الأربع والعشرين ساعة، تعمل الأسبوع بأكمله، والعام بأكمله، بلا كللٍ. بجهد، جهد معجز جبَّار استطاع أن ينتزع من دهاة الطب والعلم في العالم (الإنجليز) اعترافهم بنبوغه، حتى إنهم منحوه الجنسية الإنجليزية .. وأطلقوا عليه «مستر یاكوب»، وأصبح مستر یاكوب بإنجازاته في جراحة القلب، بعدد حالاته التي يعرضها في المؤتمرات، بالبناء الهائل المخيف الذي راح يبنيه صخرة فوقها صخرة وإصرار فوق إصرار، يتحدى، ويَقبل الحالات الميئوس منها، وبالساعات يُجاهد فيها وبجوارها حتى يُنقذها. تتحول الحالات التي يُجمع فيها على اللاأمل من خلال أصابعه إلى أمل وحياة جديدة يستنقذ بها إنسانًا آخر من موتٍ محقق. أصبح بهذا كله مفخرة للإنجليز، وصرنا نحن، نحن الذين رفضنا تعيينه مدرس جراحة بسيط نستقدمه كما نستقدم كبار الخبراء العالميين وتستضيفه جامعاتنا، نفس جامعاتنا التي أنكرته ناشئًا، تستقبله عظيمًا وكبيرًا وخبرة عالمية لا تُقدر.
فحصني وشاهد الفيلم السينمائي، وقال لي في النهاية مثلما قال كبار الأطباء الذين سبقوه: ليس هناك حاجة لعملية، وكما قالوا لك، فعلًا تستطيع الحياة كما تشاء، وربما لا يحدث لك بالمرة أي تعقيدات إلى نهاية العمر.
دون تحصيل حاصل آخر وأخير.
وارتديت ملابسي وغادرت المستشفى الأنيق الذي بناه الإنجليز خصيصًا لعلاج الأثرياء. وبالذات الأجانب، وبذات الذات العرب، حتى إن لافتاته مكتوبة بالإنجليزية والعربية.
ورحت في ليل لندن المبلل دائمًا إما بمطر سبق أو ذرات مطرٍ قادم. اللامع بالنور والضجات الصغيرة المبعثرة، رُحت أتمشَّى، وقد قررت أن أعود لفندقي سائرًا على القدمين .. أفكر. في ماذا؟ تلك هي المشكلة.
شيء ما كان يؤكد لي — رغم كل التقارير والآراء التي لا ذرة شك في صحتها وجديتها — أن في الموضوع ناحية غامضة لا تزال، ولكنها، هناك، رابضة وباستمرار تدق.
•••
فُوجئت — بل ماذا أقول؟ أأقول: إني أبدًا لم أُفاجأ؟ بمكالمة تليفونية في اليوم التالي من الدكتور مجدي يعقوب، لم تكن هناك تقارير أو معلومات مؤجلة، وأقول: إنه طلبني ليقول لي رأيه فيها، ما الموضوع إذن؟ إنه يريد أن يراني في الغد — الأحد — العطلة المقدسة عند الغرب قاطبة.
– اسمع .. سأكون صريحًا معك … لو كنت نوعًا آخر من البشر لاكتفيت مما قلته لك بالأمس، ولكني أكاد أعرفك وأجزم أنك لن تقبل الأمر أبدًا، لن تقبل أن يظل داخلك خلل ما، مهما بلغت تفاهته أو أهميته، سيظل القلق من هذا الشيء ألمًا يتأجج داخلك حتى يقضي هو، وليس المرض، عليك.
أية حكمةٍ أعطاها الله لهذا الإنسان حتى ينطق هكذا؟ ما كان داخلي ينوء بي وأحسه بعنفٍ وعمق؛ ولكن معناه وألفاظه لم تكن تطفو أبدًا إلى سطح عقلي لتتخذ شيئًا مبلورًا قابلًا للفهم هكذا.
وهنا، لا بد، وفوق آراء مجدي يعقوب في شخصي وشخصيتي، أن أقول كلمة عن نفسي، وأنا أكره تمامًا أن أتحدث عن نفسي، ولكن لأن أحدًا لم يفهم ما حدث إذا لم أتكلم فلا بد أن أقول: إني شخصيةٌ ليس من السهل فهمها .. ولكن هناك جانب منها أعلمه علم اليقين؛ ذلك أني أبدًا أبدًا لا أقبل المساومة أو النُّص نُّص، وبالذات حين يتعلق الأمر بصحتي أو بإنتاجي، إما الكل وإما لا شيء.
إما أن أكون أو لا أكون بالمرة .. حتى إن أمراضي كانت كلها سببها رغبتي الشديدة أن أظل سويًّا، وقد وضع مجدي يعقوب أصبعه بمهارة فائقة على «قلب» مشكلتي تمامًا، وفهمني تمامًا. ويا رب، ألهذا السبب طُفت العالم، لأني في نهاية المرحلة وعودتي مقررة في الغد، ويكون عليَّ أن أتخذ من جديد قرار العملية؟!
لكم كان يوم أحد قاسٍ حقًّا. أنا الذي أعرف في الطب وأصبحت ضليعًا في القلب بحكم ما حدث، قرأت كل ما كُتب، حتى ما لم يُنشر قرأته. أعرف تفاصيل التفاصيل، أُدرك موطن الخطر في كل خطوةٍ من خطوات العملية، يتولى ذلك الحالم الفنان الغزير الخيال تضخيم الحقائق، حتى ليبدو الفأر مخيفًا في حجم الفيل، أنا .. ألهذا، أنا المحب إلى حد الوله للحياة، المقدر أضعافًا مضاعفة لقيمتها. القادر في نفس الوقت على أن يُقامر بها كلها من أجل ألَّا يخسر جزءًا ولو يسيرًا منها، بل ليس منها، ربما من أجل ألا يخسر أحدٌ آخر بعض حياته، أو على أمل أن أُضيف لها وللدنيا شيئًا ولو طفيفًا يجعلها أكثر عدلًا وأكثر احتمالًا .. أنا الوحيد في كل هذه المعمعة، فكل المعارك ممكن أن تأخذ رأي الآخرين فيها، وتغير رأيك من أجل رأي آخر أحسن .. ولكني هنا وحيد تمامًا، إذا عشت فأنا الذي سأعيش، وإذا متُّ فأنا وحدي ولا شيء آخر غيري سيموت. صحيح، قد يحدث حزن كبُر أو صغُر، أسفٌ، خسارة، ألف خسارة، عزاء، أشياء أخرى كثيرة قد تحدث؛ ولكني أنا أكون قد انتهيت .. أنا ولا أحد غيري.
ما دامت المعركة معركة راكبٍ واحد، وسائق واحد، وقرار واحد، كله أنا، فلأكن وحدي تمامًا إذن، ولأرسل زوجتي — وقد اطمأنت تمامًا في رأيها على حالتي — ولأتخلف أنا بحجة قضاء يومين لمعرفة آخر التطورات المسرحية والأدبية في لندن، وأذهب معها إلى المطار، وأُقبِّلها قبلة الوداع إلى القاهرة، ولكنها أبدًا لم تلحظ أني، في جزء من الثانية كانت قبلة من أجل الوداع إلى الأبد.
•••
مصيبتنا في مصر أننا نحب الحياة، ونحب لها أن تطول، ونحن أول من ابتكر للعالم وعَدَاه بفكرة الخلود والحياة الأخرى. تشبثًا بها بنينا المقابر، وغورنا بها في قلب الجبل، وزودناها حتى بالطعام والشراب، حتى نكون جاهزين للحياة الأخرى المؤكدة، التي لا بد سنعود — وكما كنا تمامًا — إليها. كان المصريون القدماء مؤمنين إلى حدِّ اليقين المطلق أننا عائدون، وأن الموت لا يمكن أن يكون نهايتنا، ولو كانوا قد وضعوا احتمالًا ولو واحدًا في المليون أن الموت هو النهاية تمامًا ربما غيَّروا وجه تاريخهم، وبالتالي وجه تاريخ العالم. نحن هكذا ومن قديم الأزل تسبح في دمائنا عقيدة أن الموت — لأنه مروعٌ، ومخيفٌ، وغير محتمل فكرة تصديقه بالمرة — لا يجب أبدًا أن يكون النهاية. ربما الجنس البشري كله هكذا؛ ولكنها فينا مضاعفة آلاف المرَّات.
ولكن هذه العقيدة نفسها بقدر ما أراحتنا سيكولوجيًّا بقدر — في رأيي — ما قتلتنا عمليًّا، طول العمر والرغبة في تطويله إلى آخر المدى، التمسك بالحياة، أي حياةٍ، ولو حياة العبيد حتى، خيرٌ ألف مرة من فكرة النهاية النهائية بالموت. موضوع أترك للأنثروبولوجيين خوضه وتفنيده، فلم أكن في ذلك اليوم «أتفرج» على مصر وشعب مصر وعادات المصريين وتركیباتهم النفسية. كنت مصريًّا يواجه فكرة أن يموت أو لا يموت. مرعوبًا رعب الأول من الموت. خائفًا من فقدان الحياة خوفًا لا مثيل له؛ لأنه خوفٌ أوحد ليس مثله أي خوفٍ آخر. عائدًا من المطار في الأتوبيس ذي الدورين الأحمر، جالسًا في الدور الأعلى أُدخِّن، وأحس براحة عميقةٍ تجعلني شديد الضعف من نفسي. ذلك أني كنت قد اتخذت القرار. أن أعمل العملية وأخلص. ولكن المهم ليس العملية. المهم في كلمة «أخلص» هذه. فهو لم يكن قرارًا بإجراء عملية جراحية هدفها الشفاء النهائي إلى آخره، كان القرار في حقيقته، وكما كنت أراه، قرارًا بالموت.
تصوروا .. رجل بكامل قواه العقلية وبمطلق إرادته يأخذ قرارَ أن يموت، هو ليس قرارَ مَروُوش ضاقت الحياة في عينيه فقرر أن ينتحر. لا، لم يكن قرار انتحار، ولكن كان قرارَ أنه لكي أعيش كما أريد، وإذا كان عليَّ أن أفعل لأحصل على هذا أن أمرَّ في نفق الموت، فسأمُر، قد أخرج من النفق سليمًا؛ ولكن ليس هذا هو المهم، المهم أنك قررت أن تدخل النفق، قرار أساسه الأول أنك لن تخرج منه، مثل قرارك وقد حاصرك الأعداء فوق سطح العمارة أن تقفز من العمارة عبر الشارع لعمارة أخرى، وهو أمرٌ يبدو للمشاهد من الخارج أنه شبه مستحيل، وأن تلك القفزة شيء لا يمكن أن يُقدم عليه عاقل .. فما بالك ولم يكن هناك أي أعداء يُحاصرونني، ولم أكن مضطرًّا أبدًا للقفزة؟ لو عرف الواقف في الشارع هذا لخبط كفًّا بكفٍّ وأقسم أنه إنما يُشاهد شخصًا خارجًا لتوه من سراية المجانين.
ولكن. هذا هو بالضبط، ما يُميتنا أحياء أيها الأعزاء المصريون، هذا العقل الشديد الذي نأخذ به الأشياء وننظر به إلى الأشياء هو الذي يُخيفنا من الأشياء فيجعلنا لا نفعل شيئًا بالمرة، لأن كل فعل، أي فعل، يحمل في طيَّاته بالضرورة نسبة من المغامرة، والتعقل الشديد ضد أي مغامرةٍ؛ ولهذا، ولكوننا متعقِّلين أشدَّاء لا نُقدم على أي فعلٍ — أو بالأصح هذه هي القاعدة — لا نقدم على الفعل إلا مضطرين ومكروبين ومهمومين، وبانسحاق شديد، ولا بد أن يكون هربًا من احتمالٍ آخر أكثر مغامرة وأكثر بالتالي خطورة.
إن الخوف الشديد من الموت يستتبعه بالضرورة خوفٌ شديد من الحياة، وحرص شديد على ألا نموت، هذا الحرص الشديد يستتبعه بالضرورة تجنب أي نسبةٍ من المغامرة، أو بمعنى أكثر وضوحًا أي نسبة من الفعل، ولهذا نحن نُفضل الفرجة على من «يفعلون» وكأننا نستعيض بهذه الفرجة عن الفعل نفسه. والنتيجة أننا نحرم أنفسنا من أعظم اللذائذ جميعًا: لذة الفعل؛ لأنها لذة الحياة الحقيقية، ونُوهم أنفسنا أن لذة الفرجة أسلم وأضمن. نحن بهذا نفعل تمامًا كما لو كانت الحياة حكومة، وكما لو كنا نحن الأحياء موظفين لديها ونخاف أن نُفصل منها، والنتيجة أن نركع تمامًا لها، ونكف تمامًا — كأي موظفين مثاليين — عن أي حركةٍ؛ مخافة أن نخرج على قوانين التوظف ونرقد. نحن موظفون لدى الحياة، وبالتالي لدى الأحياء في الدنيا قاطبة؛ ولكننا — وصدقوني — لسنا أحياء بالمرة، وليست هذه حياة. فالحي لم يخلق ليتفرج على الحياة .. لقد خلقه الله وسوَّاه ليحياها، أتعرفون، معنى أن يحياها؟ أبسط المعنى ألا يخاف منها، وهذا معناه — واسمعوا من فضلكم — ألا نخاف الموت؛ لأننا من فرط خوفنا من الموت نحيا في موت أو نموت حياة .. لا أعني بهذا أن نستهتر بأعمارنا ونروح نبعزقها هنا وهناك؛ ولكن ما أعنيه بالضبط هو أننا — لكي نكون بني آدميين بحق وحقیق — يجب أن نحيا، وأن نحيا معناه أن نفعل، وأن نفعل معناه أن نُريد، وأن نُريد معناه أن نختار، وأن نختار معناه أن نقرر، لا بد وحتمًا سيكون في القرار — أي قرار — قدرٌ من المخاطرة، ولكن تجنب القرارات خوفًا من المخاطرة سيؤدي بنا حتمًا إلى تجنب الحياة كلها. تجنب روح الحياة وقلبها ونبضها والإحساس الحقيقي بها. نحن جميعًا — وبالذات الآن — نُعاني من اكتئاب موجع يأخذه كل منا مأخذًا شخصيًّا محضًا ويعتقد أن سببه الفلوس والأولاد والمواصلات … إلخ .. ولكن اكتئابنا الجماعي سببه الحقيقي أننا توقفنا أن نحيا؛ لأننا توقفنا أن نفعل؛ لأننا توقفنا أن نُقرر، والغريب أن هذا الاكتئاب والتوقف يؤدي بنا في النهاية إلى عمليات «انتحارية»، أو انبثاقات بركانية، غضبة عصبية، لا علاقة لها بالغضب الحي الجميل، أو الرضاء الحقيقي، أو الإحساس بالاكتفاء نتيجة تحقيق الذات عن طريق تحقيق الإرادة. أرِد ما تريد، وعلى مهلٍ شديد قرر، ولكن لا بد في النهاية أن تُقرر، وحتمًا لا بد أن يستحيل قرارك إلى فعل، وحينذاك فقط تذوق لذة الحياة.
حتى لو كان ذلك القرار قرارًا بالموت، أو يحمل في طيَّاته خطر الموت الأكبر، فالموت هنا سيعني دون أن تدري الحياة بأرحب وأعمق وأحب صورها؛ لأنه سيكون قرارًا عظيمًا، أخذه إنسان حيٌّ عظيم وتحمَّل مخاطرته العظيمة، وما أحلى طعم الحياة بعده.
•••
جمعت ملابس قليلة جدًّا في حقيبتي بينما تركت معظم أشيائي باسم زوجتي — في حالة حدوث شيء — بأمانات البالاس كورت، وودَّعت «رضا»، ذلك الشاب المصري النبيل الذي يعمل مديرًا للفندق، وقلت لشوارع لندن وتاكسيَّاتها التي تُشبه عربات موتی سوداء مقطومة، وقلت للدنيا: وأيه يعني؟ باي باي. موتًا فلنمت .. الموت قادمٌ قادم .. أردت أم لم أرد، فإذا كنت قد أخذته أنا وبإرادتي، وكنفق رهيبٍ محتم أن أنفذ منه إلى الحياة الحقة إن نفذت. فبإرادتي أنا آخذ القرار فإذا متُّ فعلی الأقل سيكون لي شرف أنِّي أنا الذي واجهت الموت ولم أظل خائفًا منه حتى يطعنني غيلة. الحياة للشجاع وللشجاعة، والجبن هو الموت وإن تنكر في كافة الأشكال. لقد أخذتَ الدنيا بيدك، واغتصبتَ وجودك من براثن المستحيلات. والدنيا هكذا، كالحب، كالحرب، حتى كالنكتة، لا تُؤخذ إلا اقتحامًا.
ولأول مرة أحسُّ في حياتي أني أصبحت حرًّا، وأني أستحق الحرية فعلًا، وأنني أصبحت نبيلًا، وأني أستحق هذا النبل، وأني — لأول مرة في حياتي — أحسُّ أني إنسان فعلًا، وأني فخورٌ بأني إنسان .. فخور بأني أمتُّ إلى الخالق الأعلى. فخور أني أبو أولادي وزوج زوجتي. فخور أني مصريٌّ وشرقاوي وابن بلدي. فخور أني أنا، ذلك الشعور الذي لم يراودني في حياتي مطلقًا.
– وإلى مستشفى هارلي كلینیك یا مستر.
– ستذهب وتعود یا سیدي؟
– لا يا سيدي، ذهاب فقط!
•••
والمفاجأة المذهلة أن أصابع مجدي يعقوب الذهبية كانت ساحرةً كما يقول الإنجليز فعلًا، وأني بعد يومين بالضبط كنت أصعد سلالم المستشفى وأهبط بأوامر من ممرضتي الحسناء، أتحسس الشاش المعقم وأسأل زوجتي: أحقيقة أجروا العملية؟ .. وتؤكد ودموع الفرح تلمع في عينيها، وتروي لي ساعات انتظارها، وفرحتها بوجه مجدي يعقوب وهو خارج من غرفة العمليات وبنعومة بالغة وبلا فرحة أو انفعال شديد يقول لها: الحمد لله. كله تمام.
•••
الله .. أعبدك!
مجدي يعقوب .. أشكرك!
يوسف إدريس .. أحييك!