نضال
أقام أسد الدين بجيشه في الجيزة مُدةً يلتمس أن تُواتِيه الظروف ليعبُر إلى البَر الشرقي لمُهاجَمة الفسطاط والقاهرة. وانضم جيش الفرنج إلى جيش شاور فغدا الجيشان قوة عظيمة لا قِبل لأسد الدين بها. وحفر الخنادق حوْل العاصمتَين وحُصِّنت الأسوار وأُقيمت الستائر والمَجانيق ووسائل الدفاع المختلفة.
وأدرك أسد الدين ما يعترضه من صعوبات، وأعوَزه المال يصرف منه مُرتَّبات الجند، وكانت المسافة بينه وبين نور الدين في الشام بعيدة، فجمع قُواده ليستشيرهم ويسألهم النصيحة، وانتهى به وبهم الرأي أن يُرسِل ابن أخيه صلاح الدين بجزء من الجيش إلى الإسكندرية، وأوصاه أن يستميل عرب البحيرة ليمدُّوه بالمُؤن، وأن يذهب أسد الدين ببقية الجيش إلى الصعيد يرتاد بلاده ويجمع خراجه والمُؤنة لجيشه.
انتهى المَسير بأسد الدين وجيشه إلى قوص عاصمة الصعيد فاتخذها مَقرًّا، واستطاع أثناء سيره وإقامته أن يسترضي الأهلِين، فانضم إلى جيشه عدد كبير من أهالي الصعيد، ومن أعراب الصحراء، وجُمعت له المُؤن الكثيرة، وجُبيت له الأموال الوفيرة.
أما مري، فقد أتى هذه المرة وفي نيته الاستيلاء نهائيًّا على مصر؛ ولهذا انتهز فرصة تحالُفه مع شاور، وبث رجاله وعيونه في الفسطاط وفي أنحاء الصعيد، يجوبون الأسواق والقُرى، يرسمون مَعالمها ويُصوِّرون مَداخلها ومَخارجها ومَساكنها، ويكتبون أسماء القُرى جميعًا، ومبلغ خراج كلٍّ منها. ثم اجتمع بشاور ليتفقا على الخُطة التي يجب اتباعها للقضاء على أسد الدين وجيشه، فاتفقا على أن يتركا جيش الصعيد قليلًا ويتجها إلى الإسكندرية لمُحاصَرتها؛ فإذا انتهَيا من القضاء على قوة صلاح الدين كان من اليسير عليهما أن يُجهِزا على جيش أسد الدين.
وقضى صلاح الدين ثلاثة شهور في الإسكندرية وهو مُحاصَر بها، تُحاصِره قُوى شاور ومري في البَر وسفن الفرنج في البحر، وقاسى الرجل في الدفاع عنها. وقدَّم له القاضي الرشيد بن الزبير مُتولِّي ديوانها كل مُساعَدة مُمكِنة، وجاد أهل الإسكندرية بكل غالٍ وعزيز لديهم، ودافعوا معه عن مدينتهم دفاع الأبطال وهم صامدون لا تلين لهم قناة، ولا تضعف لهم شوكة، ولكنه أيقن في النهاية أن ليس في استطاعته رغم هذه المُساعَدات أن يتغلب على هذه القُوى جميعًا، فأرسل يستنجد بعمه في الصعيد. وأدرك أسد الدين حرج المَوقف، فأسرع بالعودة حتى وصل إلى القاهرة، وبدأ يُحاصِرها.
وكان الوقت قد طال بالفرنج وهم يُحاصِرون الإسكندرية دون طائل، فبدءُوا يتذمَّرون. ووصلتهم أخبار وصول أسد الدين إلى القاهرة وحصاره لها؛ فخافوا أن يستولي عليها، ثم يأتيهم من الجنوب فيُصبِحون في مَأزِق حرِج، تحصرهم قوة صلاح الدين من الشمال وقوة أسد الدين من الجنوب. فرغبوا إلى شاور أن يضع حدًّا للحرب، وأن يعقد صلحًا مع أسد الدين، ولكن شاور كان يرى أن الفرصة مُواتِية، وأن أسد الدين خطرٌ عليه وعلى حياته، فلا بد أن يُنزِل به وبجيشه هزيمة نكراء تُودي به أو تردعه فلا يعود يُفكِّر في مصر. فظل يُماطِل الفرنج ويُراوِغهم ويمُدهم بالمال كسبًا للوقت، ولكن المَلل كان قد بلغ بهم منتهاه، كما كان الخوف على بلادهم من نور الدين يملك عليهم أفئدتهم ويقض مضاجعهم، فلا يحسُّون طعم الراحة في إقامتهم في مصر. فاضطر شاور أن يُذعِن، وسارت الرسل بين المُعسكَرَين تعرض شروط الصلح وتتناولها بالتعديل والتبديل، حتى اتفق الفريقان أن يرحلا عن مصر، على أن يُقدِّم شاور لأسد الدين جميع ما غرِمه في هذه الحملة وثلاثين ألف دينار أخرى، وأن يُقدِّم مَلك الفرنج لصلاح الدين السفن لتحمل الضعفاء من جنده عبْر البحر إلى الشام.
أما الفرنج فتركوا حامية منهم في القاهرة وحرسًا على أبوابها، وقبِل شاور أن يدفع لهم جزية سنوية قدرها مائة ألف دينار.
ولم ينسَ أسد الدين صديقه أبا الحسن فعلَّق تنفيذ شروط الصلح وخروجه من مصر على الإفراج عنه. فلما أُطلِق سراحه وأُرسِل إليه، رحَّب به وطيَّب خاطره، وعرض عليه أن يصحبه إلى الشام فوافَق.
وبهذا خرج الجيشان مرة أخرى من مصر وفي نفس قائدَيهما أمور كثيرة تجول وتصول. أما مَلك الفرنج، فقد زاد علمًا بمصر بما آتاه به رجاله الذين بثَّهم في أنحاء البلاد وأطرافها، من معلومات جعلته يُفكِّر في مصر ويُطيل التفكير؛ فهو لم يخرج اليوم إلا ليُخرِج أسد الدين معه، ثم يعود إلى مصر وهي خالية من أية قوة تُعارِضه؛ ولهذا أبقى حاميته وحرسه بالقاهرة لتمُده بالأخبار ولتُمهِّد له سبيل العودة القريبة.
أما أسد الدين فلمْ يكُن يتوقَّع أن يسبقه الفرنج إلى مصر، وأن يلقى منهم هذه المُقاوَمة؛ لأنه كتم خبر حملته كتمانًا شديدًا. ولهذا سار إلى مصر في عدد قليل — في ألفَي جندي — ولقد لقي هذه المرة من أعدائه مُقاوَمة عنيفة، غير أنه لقي من عطف المصريين ومَعونتهم في الصعيد والإسكندرية ما أفعَم نفسه سرورًا، وما زاده أملًا في الاستيلاء على مصر.
لقد تنقَّل في المرة السالفة بين الفسطاط والحوف الشرقي، ولكنه ذرعَ مصر في هذه المرة وجابها جنوبًا وشمالًا، ورأى من جمالها وخيراتها ما لم يرَ من قبل، وأحس ما يُعانيه المصريون أكثر مما أحس؛ فخرج وهو أشد إيمانًا بوجوب فتحها وإزاحة شاور عن مُلكها، فإنه لا يُمكِن أن يغفر له الاستعانة بالفرنج ضده، ولا يُمكِن أن يغفر له قتله رسوله ورفضه ما عرض عليه من تعاوُن ضد أعداء الإسلام، ولكنه لم يتمكن من إقناع نور الدين بضرورة المَسير إلى مصر هذه المرة إلا بعد رأي وتعب. تُرى أيرضى مرة أخرى أن يُزوِّده بجيش جديد بعد أن عاد إليه في المرتين، وقد ضحَّى مالًا ورجالًا، ومصر كما هي لشاور يعبث فيها فسادًا؟
كان أسد الدين يُفكِّر في هذا كله وهو على جواده يتقدم جيشه العائد إلى الشام، ولكنه آمَن والإيمان لا يعرف المُستحيل. سيسعى جهدَه وعلى الله التوفيق.