مري يعود
اتخذ أسد الدين أبا الحسن جليسًا له وسميرًا؛ فكان يصحبه معه كلما انتقل من مكان إلى مكان، وكان يخلو إليه كلما خلا بنفسه بعد غزاة أو نضال ضد الفرنج، وكان يرتاح دائمًا إلى وجوده ويأنس إلى حديثه وأخباره. وكان أبو الحسن ينتهز كل فرصة فيُسهِب في وصف مصر وغناها وما يُعانيه أهلها من ظلم شاور وعسفه، ويُحرِّض أسد الدين على المَسير ثالثةً لمُلكها، وإنقاذها وإنقاذ أهلها. وأسد الدين يزداد كل يوم اقتناعًا بما يقول أبو الحسن، فيخلو بنور الدين ويُعيد عليه الرجاء مرات ومرات أن يمُده بجيش ثالث، ويعِده ألا يعود هذه المرة إلا بعد فتحها. ونور الدين لا يقتنع بقول أسد الدين ويُحاوِل أن يثني عزمه عن التفكير فيها، فيهَبه حمص وأعمالها زيادة عما تحت يده من «إقطاعات». وشاور قد بثَّ العيون في الشام تنقُل إليه أخبار أسد الدين وأفكاره، وكان يُرسِل إلى نور الدين الهدايا والرسائل يعِده بمال يدفعه مُسانَهةً؛ حتى لا يُوافِق أسد الدين على رغبته.
أما ملك الفرنج فكان لا يَني عن التفكير في مصر؛ فأخذ يزيد في جيشه وعُدَده. والرسائل ترِد إليه تباعًا من جنده في مصر تُحرِّضه على العودة؛ فجمع في صفر سنة ٥٦٤ قُواده وأمراء جيشه وكبار رجال الاسبتارية ليستشيرهم في الرأي، فاختلفوا بين مُحبِّذ ومُعارِض، ورأى أن يعرض عليهم مَزايا المشروع ومَضارَّه، ويُبيِّن لهم ما قد يعترض سبيلهم من عقبات؛ ليتأكَّد من اقتناعهم بفكرته وولائهم له إذا عمل على تنفيذها. فقال: «أيها الأمراء، الرأي عندي بعد أن سمعت أقوالكم ألا نقصد مصر؛ فهي طُعمة لنا، وأموالها تُساق إلينا نتقوَّى بها على نور الدين. وإن نحن قصدناها لنملكها، فإن صاحبها وعساكره وعامة بلاده وفلاحيها لا يُسلِّمونها إلينا، ويُقاتِلوننا دونها، ويحملهم الخوف منا على تسليمها لنور الدين. ولئن أخذها نور الدين وصار له فيها مثل أسد الدين، فهو هلاك الفرنج وإجلاؤهم من أرض الشام.»
وما كاد ينتهي من حديثه حتى علتْ أصوات القُواد والأمراء تُعارِضه في شدة. وقال كبير الاسبتارية: أيها المَلك، إننا لا نعبأ بمن في مصر من جنود، وسيكون لنا النصر عليهم. أما ما يرِد إليك من مال مصر فهو قليل من كثير، ولَأن تحوز الكثير خير من أن تحوز القليل. وإن أنت لم تسِر لمُلك مصر، فوالله لنسيرن نحن إليها قبل أن يقصدها أسد الدين مرة أخرى.
وأخذ كل أمير يتكلم بدوره، فيُؤيِّد هذا الرأي في حماسة وقوة. ففرح مري وقال: والله لأنتم الرجال! فقد سرَّني هذا الشعور، وهذه الغيرة في سبيل المسيحية. سأسير بكم قريبًا، وسنملك مصر باسم المسيح وقوته، ونُفني هؤلاء (الكفاء) ونُبيدهم.
وخرج مري بجيشه الجديد في عَدد وفير وعُدة وسلاح. ووصلت العيون إلى شاور تُعلِمه بخبر هذه الحملة الجديدة، فاضطرب ولم يكَد يُصدِّق، وجمع أمراءه وقُواده، وأطلعهم على ما وصل إليه، وطلب منهم الرأي فيما يفعلون. ولكنهم وَجَموا هذه المرة وسكتوا وطال سكوتهم؛ إذ كان كلٌّ منهم يُفكِّر، ولا يستطيع الكلام.
كان كل أمير يُفكِّر في هذه الويلات التي يجلبها شاور عليهم وعلى مصر. إنهم يعتقدون أن أي جيش خارجي لا بد أن ينتصر عليهم؛ فقد أفنت المُنازَعات المُتتابِعة قُواد جيشهم، فلمْ يعُد يستطيع الوقوف وحدَه ضد أي هجوم أجنبي. وقد اتصلوا بجيش الفرنجة وحاربوا معهم، واتصلوا بجيش أسد الدين وحاربوا ضده، والجيشان أشجع جنودًا وقُوادًا، وأكثر عُدة وسلاحًا وأمهر حربًا ونضالًا. ولقد هاجَمهم أسد الدين بالأمس فاستعانوا بالفرنج؛ فماذا يفعلون اليوم، وقد هاجَمهم الفرنجة أصدقاء الأمس؟ الرأي أن يستعينوا بنور الدين؛ أي بأسد الدين وجيشه. ولكن هل يقبل شاور هذا الرأي؟ إنه يرضى بالموت ولا يرضى أن يستعين بأسد الدين.
فلما طال سكوتهم صاح شاور: ما هذا الصمت؟ لقد دعوتكم لتُساعِدوني بآرائكم.
فتنحنح الأمير شمس الخلافة وقال: وهل نُبدي آراءنا في صراحة؟
– أجل قولوا كل ما يعنُّ لكم.
– إذن الرأي عندي أيها الوزير أن نلجأ إلى نور الدين.
فصاح شاور كمن لدغته عقرب: تعني أسد الدين! إن وجود هذا الرجل في مصر معناه موتي؛ إنه طامع في مُلك مصر.
فقال شمس الخلافة: ومري هو الذي لا يطمع فيها! أرأيت الآن صحة رأيي؟ لقد نصحتك يوم أن أرسل إليك أسد الدين يطلب أن تتحالفا ضد الفرنجة أن تُجيبه إلى طلبه، فقد كان مُخلِصًا في دعوته؛ فلمْ تُوافِقني وفعلتَ ما فعلت.
فغضب شاور لهذا الحديث لكُرهه الشديد لأسد الدين، ولكنه كتم غضبه؛ إذ كان يُعِز شمس الخلافة ويعتمد عليه في كثير من أزمانه، وقال: لقد كانت بيني وبين الملك مري صداقة وود، وفي رأيي أن نُرسِل إليه رسولًا يُذكِّره بهذه العلاقة القديمة، ويسأله عن غرضه وما يقصد إليه؛ فقد نستطيع أن نصُده ببعض المال.
فوافَق الحاضرون كارهِين، وخرجوا واجمين؛ إذ كانوا يعلمون أن هذا سعي فاشل.
ووصل رسول شاور إلى الداروم حيث وصل مري بجيشه، وقابَل المَلك وبلَّغه الرسالة. فحدَّثه مري حديث الأفعى، وما زال به يستميله ويُغريه حتى قبِل الرسول أن يُقطِعه ثلاث عشرة قرية؛ على أن يُقنِع شاور أنه لم يأتِ إلى مصر مُعاديًا غازيًا، وإنما جاء خادمًا أو مُساعِدًا، كما فعل في الماضي.
لم يقتنع شاور بهذا الرأي، ونادى الأمير شمس الخلافة، وأنبأه أنه يشُك في إخلاص رسوله إلى مري، ورغب إليه أن يسير هو إلى المَلك فيسأله عما يُريد.
ووصل شمس الخلافة إلى مُعسكَر الفرنج، ودخل على المَلك؛ فرحَّب به وقال: مرحبًا بصديقي شمس الخلافة، وأهلًا وسهلًا.
فقال شمس الخلافة: مرحبًا بالمَلك الغدار.
– لا لست غادرًا يا شمس الخلافة.
– إذن لماذا أتيت في هذا الجيش؟
– لقد أتيت بقصد الخدمة كالمُعتاد، وقبض ما قرَّرتم لي من عطاء.
– إننا نحتاج لخدمتك إذا دهمَنا عدُو. أما مع خُلُو البال من الأعداء فلا حاجة لنا إليك.
فسكت مري لحظة، ثم قال: إن هناك أسبابًا أخرى دفعتني إلى السير إليكم.
– ما هي؟
– قد تكون أسبابًا سرية.
– وهل بيننا من أسرار؟ أبِنْ عنها، فقد تكون غير صحيحة.
– لقد نمى إليَّ أن الفقيه عيسى الهكاري سعى بدهائه حتى جمع بينكم وبين بيت بني أيوب، فزوَّج بنت شاور من صلاح الدين، كما زوَّج الكامل بن شاور من أخت صلاح الدين.
فضحك شمس الخلافة لغرابة الخبر، وقال: وهل تظن هذا صحيحًا؟
– هذا ما بلغني.
– وهَبْه صحيحًا فما العلاقة بينه وبين مَجيئكم في هذا الجيش اللجِب؟
– لو تم هذا الزواج لكان معناه اتفاقكم مع أسد الدين ضدنا، فكان لا بد لي من اتخاذ الحيطة والحذر.
– أيها الملك، أنت أول من يعلم مَبلغ الكُره بين صلاح الدين وعمه وبين شاور، وأنه من المُستحيل أن يتم هذا المشروع. قد تكون هذه فكرة الفقيه عيسى، ولكن تأكَّد أن شيئًا من هذا لم يصِل إلى علم شاور.
– لقد كان هذا رأيي أيضًا، فقلتُ لمن نقل إليَّ الخبر إن ما بين شاور وأسد الدين من عَداء، لا يُمكِن أن يسمح للفقيه بإتمام هذا المشروع.
– إذن لا تُخفِ عني شيئًا، ودع هذه التعِلات واصدقني القول. ما الذي دفعك إلى المَجيء؟
– أقول لك الحق، وأنت صديقي: إن قومًا من الفرنج وفدوا إلى بلادنا من وراء البحار، وغلبونا على آرائنا، وقالوا إنهم أتَوا راغبين في الخروج إلى مصر ومُلكها؛ فخِفنا أن يسيروا إليكم فلا يكون لكم قِبل بهم ولا تستطيعون ردَّهم، وفضَّلنا أن نحضر بأنفسنا لنتوسط بينكم وبينهم.
– وماذا يطلبون ليعدلوا عن رأيهم؟
– يطلبون ستمائة ألف دينار.
فغضب شمس الخلافة، وأخذ يلوم شاور في نفسه لأنه أذاق هؤلاء الفرنج طعم المال ألوفًا، فراحوا يطلبون المزيد بسبب وبغير سبب، وعلِم في نفس الوقت أن هذا الحديث المُلتوي يُنبئ عن كذب المَلك الصريح، وأنه في الواقع لم يأتِ إلا طمعًا في مصر ذاتها، فأراد أن يلجأ إلى أسلوب التهديد؛ علَّه يُوهِن من عزم هذا المَلك الغادر، فقال: ولكنك تعلم أيها المَلك أن المصريين قد أُرهِقوا بالمكوس التي تُفرَض عليهم كل يوم؛ فمن أين يأتي إليكم شاور بالمال؟ تذكَّر كم أتلف ضرغام من ألوف الدنانير، حتى اضطر إلى اغتصاب أموال اليتامى قُبيل مَصرعه؛ مما أدَّى إلى ثورة العامة ضده. وتذكَّر كم ألفًا دفع شاور إليك، وإلى أسد الدين في المرتين السالفتين. إن أهل مصر لا يُطيقون دفع أكثر مما دفعوا، وإن لصبرهم حدًّا، وأخشى إذا طالَبهم شاور بمال جديد ليُرضيكم أن يثوروا ضده وضدكم. وهنا ينتهز أسد الدين الفرصة فيأتي إلى مصر ويُهاجِم نور الدين بلادكم.
ولكن مري أتى هذه المرة وبيده الوثائق الصحيحة التي زوَّده بها رجاله وحاميته التي تركها في القاهرة، فلمْ يُعِر هذا الكلام اهتمامًا، وقال: أنا أعلم صدق قولك ونصيحتك يا صديقي، وقد طلب القوم مبلغًا أكبر من هذا، فما زلت بهم أُقنِعهم حتى جعلوه خمسمائة ألف دينار، فاعرض الأمر على صديقنا شاور لعله يجد مَخرجًا.
– سأفعل، ولكنني أرجو ألا يتقدم جيشك خطوة أخرى حتى يأتيك الرد.
– سأنتظر إكرامًا لك، ولكن أرجو ألا يتأخر الرد.