فاطمة
استيقظت فاطمة بنت الأمير شمس الخلافة مُبكِّرة، ولبثت في فراشها تتمطى وتتثاءب في تراخٍ وكسل، ثم راحت تُفكِّر في أشياء مختلفة؛ لقد كانت تنام من قبلُ ملءَ عينيها فلا تستيقظ إلا وقت الضحى، ولكن حالها تغيَّر منذ شهر، فهي لا تكاد تنام حتى تتزاحم عليها الأحلام بعضها مُزعِج مُفزِع، وبعضها جميل لذيذ، ثم هي تستيقظ الآن عند الفجر فتلُم بها الأفكار مُتشعِّبة مُتفرِّقة، ولكنها تجتمع كلها حول موضوع واحد، أو حول شخص واحد: مُدرِّسها عبد الرحمن. لقد غدتْ تُفكِّر فيه كثيرًا، وإنها لتبذل الجهد كل الجهد لتُبعِد صورته عنها، فترى نفسها غارقة من جديد في التفكير فيه.
وقد ظنَّت أولَ الأمر أن السبب في هذا غيابه عنها بعد أن اعتادت أن تلقاه كل يومين أو ثلاثة، ولكن ها قد مضى شهر كامل وهو كافٍ لأن يُنسيها، ثم هي ترى نفسها تزداد تعلُّقًا بالتفكير فيه يومًا بعد يوم. إنها تذكره الآن وهو جالس إليها في المكتبة بقامته المُعتدِلة، ووجهه الأسمر الوسيم؛ هي تقرأ، وهو يُفسِّر. وأغلب ما ينظر، إلى الكتاب في يده. وقد تتلاقى عيناه وعيناها، وهو يشرح لها آية قرآنية، أو حديثًا نبويًّا، أو حادثًا تاريخيًّا، فيُسرِع ويغُض من بصره في خجل وحياء. وما كانت تُحِس شيئًا غريبًا في كل مرة من هذه المرات، ولكنها تذكر الآن أن قلبها خفق خفقانًا شديدًا، وأن أطرافها كانت ترتعش وهو ينظر إليها ويمُد يده مُحيِّيًا قُبيل سفره إلى بلده قوص، وأن هذا الشعور ليُعاوِدها الآن كلما فكَّرت فيه. وكانت تذكر صوته ولهجة حديثه، وتستعيد ما كان يُزوِّدها به من آراء غريبة، تُبين عن قوة شخصيته وسعة تفكيره.
وقد رغبتْ أن تُحدِّث أحدًا من الناس عن هذا الشعور لتستفسره كُنهَه ومعناه، ولكنها كانت تتردد كثيرًا؛ لأنها لم تجد فيمن حولها من تأتمنه على هذا السر. إن أباها مشغول بأمور الدولة، وقد كثر تغيُّبه عن القصر هذه الأيام، وزوج أبيها قد تُسيء تفسير هذا الشعور. ففكَّرت في صديقتها ريحانة التي تُدرِّس لها الغناء والموسيقى، غير أنها كلما همَّت بالإفضاء إليها ترددت، ثم أجفلت وأعرضت. وما إن وصل بها التفكير إلى ريحانة حتى تذكَّرت الأبيات التي أعجبتها بالأمس وهي تقرأ، فاختارتها ووضعت لها لحنًا أخذت تُغنِّيه وتُردِّده إلى ساعة مُتأخِّرة من ليلة أمس، فقامت من فراشها، وأمسكت بعودها واحتضنته، وأخذت تستعيد لحن الأمس وتُغنِّي:
ولما وصلتْ إلى البيت الأخير أحسَّت كأن الشِّعر شعرها، أو كأنه على الأقل يُعبِّر عن شعورها؛ فراحت تُردِّده وتُعيده، وتفتنُّ في إخراج ألحانه، فتقصُرها، وتمُدها، وترفعها، وتخفضها، وتُرعِشها ثم تكسرها فتُلحِمها. وبدَرتْ منها التفاتة فرأتْ وجه ريحانة يُطِل عليها من باب الغرفة مُشرِقًا مُبتسِمًا، تبدو عليه علامات الغِبطة والفرح؛ فخجلت واحمرَّ وجهها، وتركت العود من يدها، وقامت لتُرحِّب بضيفتها، وقالت: أهلًا ريحانة، لقد تأخَّرت بالأمس، ولما لم تأتِ شغلتُ نفسي بالقراءة، وقد أعجبتني هذه الأبيات للعماد الكاتب، فوضعت لها هذا اللحن، لعله أعجبك.
فاحتضنتها ريحانة، وقبَّلتها، وقالت: إنه لحن جميل، جميل، جميل. أَعِيديه عليَّ مرة أخرى.
– ليس إلى هذا الحد، إن هذه مُحاوَلة تلميذة.
– لا والله، إنني أقول الحق، لقد تفوَّقتِ عليَّ.
ثم أطالت النظر إليها تُعجَب بجمالها، وقد وقفت كالزهرة المُتفتِّحة، وزادها الحياء حسنًا ورُواءً، وقالت: ولكن ما هذه الهالة الزرقاء حول عينَيك؟ أسهرتِ طويلًا بالأمس؟
– كلا، لقد نِمت مُبكِّرة، ولكن اعتراني أرَقٌ غريب، فلمْ يزُرني النوم إلا لمامًا.
فضحكت ريحانة ضحكة ماكرة وسألتها: ألمْ يعُد الشيخ عبد الرحمن من قوص بعد؟
فصبغت الحمرة وجه فاطمة حتى بدتْ وجنتاها في لون التفاح الجميل وأطرقت قليلًا، وعجبت في نفسها وتساءلت: ما الذي جعل ريحانة تنقل الحديث مُباشَرة إلى السؤال عبد الرحمن، وتقرِن هذا بعدم نومها؟ لقد فضح الشِّعر سرَّها. ولكنها تمالكت نفسها وأجابت على السؤال حتى لا تزيد في شكوك ريحانة، وقالت: لا، لم يعُد، هدَّأ الله سرَّه. لقد وصلت أخبار أن أباه مريض، فأسرع بالسفر منذ شهر.
ثم أرادت أن تنقل الحديث إلى موضوع آخر لتنجو بنفسها من هذا الحرج، فقالت: ولكن ما الذي أخَّركِ عن الحضور أمس؟
فتنهَّدت ريحانة وقالت: هيه، لقد أصبحت حياتنا في يد الأقدار يا فاطمة. ومن يدري؟ فقد نُقتَل، وقد نُؤسَر ويتحكم في حياتنا وأنفسنا وشرفنا الفرنجُ الكفار.
فذُعرت فاطمة، وقالت: قد نُقتَل، وقد نُؤسَر! وكيف؟ ولمَ؟
– كيف! ولمَ! ألمْ تسمعي بمَجيء الفرنج إلى مصر؟
أجل، قد سمعت، وقد كان لهذا الحادث أثر كبير في حياتنا.
فقد كثر سفر والدي، وتغيُّبه عن القصر، وقد زاره الوزير شاور بنفسه هنا في الأسبوع الماضي أكثر من مرة.
فعضَّت ريحانة نابها وقالت: أجل، الوزير شاور إنه رأس البلايا. إن القصر هذه الأيام في هرْجٍ ومرْج؛ فالخليفة قلِق لا يستقر، ساخط على شاور، ورجال القصر ونساؤه يُشارِكونه هذا السخط، ولكنهم لا يستطيعون شيئًا؛ فالجيش تحت إمرته. لقد جرَّأ هذا الوزير الفرنج واستنجد بهم ضد أسد الدين في المرتين السالفتين، حتى اطلعوا على خفايا البلد وعوراتها، فأتَوا إلينا غازِين هذه المرة، وقد وصلوا إلى بلبيس، وافتتحوها، وأسَرُوا مُعظَم أهلها، وهم يتأهَّبون للمَسير إلى القاهرة والفسطاط.
– وماذا فعل شاور؟
– إن هذا الرجل لا زال يركب رأسه، فهو يُصِر على أن يتولى الدفاع عن مصر وحدَه رغم ضعف جيشه. ولقد علمت أن الأمراء وعلى رأسهم أبوك عرَضوا عليه أن يستعين بنور الدين، فقال لهم إنه يُفضِّل أن يحرق البلد ويحترق معها على أن يُفكِّر في هذه الاستعانة. إنه رجل حقود، يُؤثِر هلاك مصر والمصريين على أن يرى عدُوه أسد الدين في مصر.
وكانت فاطمة تستمع إلى ريحانة وهي شاردة الذهن تُفكِّر في حرج الموقف وغرابته، وتعجَب كيف وصلت هذه الأخبار إلى صديقتها! ولكنها عادت فتذكَّرت أن لا بد وأن يكون خشترين هو الذي نقل إليها هذه الأخبار لصلته بها، ثم تذكَّرت أيضًا كيف كان عبد الرحمن يُعرِّض بشاور وأعماله وأخطائه في كلام ملفوف مستور كلما عرضت مُناسَبة في درسه، وطال بها الصمت والتفكير، وكانت قد زالت حُمْرة الحياء، وعاد إليها لونها الباهت من أثر السهر؛ فخافت ريحانة أن تكون قد أفزعتها بهذا الحديث فتظاهَرت بعدم الاهتمام وضحكت، ثم قالت: ما لكِ ساهمة، شاردة العقل؟! فيمَ تُفكِّرين؟ إن الفرنج لا زالوا بعيدين عنا، والله يُساعِد من بيدهم الأمر حتى يصُدوهم عنا. هاتي العود وأسمعيني لحنك الجديد؛ فإني مُضطَرة إلى العودة السريعة اليوم. فقالت فاطمة: أعفيني الآن، فإني أشعر ببعض الضيق، وسأُسمِعك إياه المرة الآتية إن شاء الله، فإني أكون قد أجَدتُه وجوَّدته.
•••
خرجت ريحانة، وتركت فاطمة لتخلو بأفكارها، ولكنها لم تلبث قليلًا حتى سمعت صوت رجل غريب يدخل غرفة أبيها المُجاوِرة للمكتبة، والخادم يُرحِّب به ويدعوه للانتظار حتى يحضر الأمير، فنادَت الخادم وسألت من يكون الرجل؟ فقال: إنه مولانا القاضي الفاضل كاتب ديوان الإنشاء، يُريد مُقابَلة مولاي الأمير شمس الخلافة، فأخبرته أنه خرج وسيعود بعد قليل، فطلب أن ينتظره، وقد أجلسته في غرفة سيدي الأمير.
فعجبت فاطمة ودهِشت؛ إنها سمعت عن القاضي الفاضل كثيرًا، وخاصة من عبد الرحمن؛ فإنه كان يمتدحه أمامها دائمًا ويُثني عليه، حتى لقد قال لها مرة: إن القاضي الفاضل هو الرجل الوحيد في هذه الدولة.
ولكن لم يسبق له أن زار أباها في قصره قبل الآن. تُرى ما الذي جاء به؟ وبيْنا هي في هذا التفكير تبدأ وتُعيد، إذ سمعت صوت أبيها يدخل غرفته مُحيِّيًا ومُرحِّبًا بضيفه، فانزوت في ركن من أركان المكتبة وتظاهرت بالقراءة. وبدأ الحديث بين الرجلين؛ فقال القاضي الفاضل: إنك تعلم أيها الأمير خطورة الموقف الآن، وقد سمعتُ أنك أشَرت على شاور أن يستنجد بنور الدين فأبى؛ ولذلك أتيت أنا الآن أُؤيِّد رأيك، وأرجوك أن تتلمس سبيلًا آخر لتنفيذ هذا الرأي، قبل أن يُداهِمنا الفرنج فلا نستطيع شيئًا.
– لكَم أشَرتُ بهذا الرأي على شاور، ولكنه لا يرضى، ولا يرضخ، ويُخيَّل إليَّ أنه يُفضِّل أن يُسلِّم البلد إلى الفرنج على أن يكتب إلى نور الدين، ولست أدري كيف أُقنِعه.
– إن إقناعه من المُستحيل فلنُحاوِل ولنَسعَ سعيَنا من طريق آخر.
– وما هو يا عبد الرحيم؟
– إني أرى أن تسعى لإقناع الخليفة نفسه أن يكتب هو إلى نور الدين ليستنجد به.
فضحك شمس الخلافة، وعجب كيف لم يُفكِّر في هذا من قبل وهو طريق ميسور! وقال: أجل هذا هو الطريق. إنك دائمًا حلَّال المُعضِلات يا عبد الرحيم، وإنني لأعجب لمَ لمْ أُفكِّر أنا في هذا الحل قبل الآن مع قربه وسهولته.
– إن خطورة الموقف تُنسي المرء دائمًا البسائط وتدفعه إلى التفكير في البعيد الصعب.
– هذا صحيح، ولكنني أخشى إن أنا ذهبت لمُقابَلة الخليفة أن يعلم شاور، ورجاله ينبثُّون في كل ركن من أركان القصر، وينقلون إليه كل صغيرة وكبيرة. وإذا علِم فإنه يسعى لإحباط المشروع.
– لقد فكَّرت في هذا أيضًا ووجدت له الحل.
– يبدو لي يا صديقي أنك تُفكِّر في كل شيء، وأن لديك لكل مشكلة حلها. ليت لك الأمر — وإن كنت من أرباب القلم — دون هذا الرجل شاور، وما هو هذا الحل؟
– أنت تعلم أن الكامل بن شاور ناقمٌ على الفرنج منذ ذلك الحادث بينه وبين قائد حامية الفرنج في القاهرة، ولقد تحدَّثتُ إليه فعرفت أنه يميل إلى الكتابة إلى نور الدين؛ فلو أنك استملته إليك وأقنعته بصواب هذا الرأي، فإنه يستطيع أن ينقله إلى الخليفة العاضد دون أن يُثير ريبًا أو شكًّا لدى رجال القصر.
– بوركت يا صديقي وبارك الله لك في هذه الرأس المُفكِّر.
وسأبعث في طلب الكامل في الحال، بل سأذهب إليه بنفسي وأدعوه لزيارتي؛ لنتحدث في الأمر هنا في منزلي، والله يُوفِّقنا جميعًا.