صلاح الدين يخرج إلى مصر كارهًا
ظلَّ أسد الدين مُدةً بعد عودته من مصر يطلب من نور الدين أن يُزوِّده بجيش جديد ليعود إليها فيملكها، ونور الدين يُزهِّده فيها، ويزيد في إقطاعه ليرُده عنها. فلما لم يجد فائدة من الرجاء ذهب إلى إقطاعه حمص في شمال الشام، ومعه أبو الحسن الذي لم ينِ عن قصده لحظة؛ فكان لا يفتأ يُذكِّر صديقه أسد الدين بمصر، وبما يُقاسيه أهْلُوها من مكروه.
وكان نور الدين وقتذاك في حلب يخرج للغزو والجهاد ثم يعود إليها، وهناك وصَلته الأخبار بمسير الفرنج إلى مصر، فندِم أن لم يُوافِق أسد الدين على رأيه، وأخذ يُعيد التفكير في مصر من جديد، ويستشير قُواد جيشه علَّه يصِل إلى رأي أخير يطمئن إليه.
وفي أحد أيام ربيع الأول كان نور الدين يجلس في قلعة حلب، ومعه خاصَّته ورجال دولته يعرض عليهم ما وصله من أخبار مصر، فدخل أحد الجند يطلب الإذن لرجل غريب يُريد المُقابَلة.
وكان القادم الشيخَ عبد الرحمن، فحيَّا المَلك العادل وقال: لقد جئت من مصر أحمل رسالة الخليفة العاضد إلى مولانا المَلك العادل نور الدين، فذهبت إلى دمشق، ولكنني علمت بوجود مولاي في حلب، فجئت إليها مسرعًا.
فقال نور الدين: وكيف حال مصر؟ لعلها في خير، فإنا في همٍّ شديد من أجلها.
– إن مصر يا مولاي في كَرب وبلاء؛ فتدارَكْها بالنجدة قبل أن يملكها الفرنج.
– وأين وصل الفرنج الآن؟
– خرجت من مصر وهم على أبواب الفسطاط.
فصاح نور الدين غاضبًا وقال في لهجة النادم: على أبواب الفسطاط؟ لقد تهاوَنَّا ونسِينا حق المسلمين علينا. أين الرسائل أيها الشيخ؟
فمدَّ عبد الرحمن يده إلى القميص الداخلي، وأخذ يفتق بعض أجزائه، ثم أخرج الكتب من بين ثنايا القميص، وناوَلها لنور الدين ففضَّها، وإذا بذوائب الشعر تتساقط من طياتها، فالتقطها عبد الرحمن وقدَّمها إليه، وبدأ نور الدين يقرأ، والقُواد حوْله يرقُبون حركاته وينظرون إلى وجهه، وعلائم الغضب والسخط والحمية تَتابَع على مُحيَّاه واضحة قوية، وما إن انتهى من القراءة حتى تندَّت عيناه بالدموع ونظر إلى خُصَل الشعر في يده، وأخذ يُردِّد بعض كلمات ورَدت في خطاب العاضد: «هذه شعور نسائي من قصري يستغِثْن بك لتُنقِذهن من الفرنج.» ثم التفت إلى قُواده وقال: لقد كان أسد الدين أصوَب مني رأيًا. لا بد من عمل سريع لنتدارك ما فاتنا ونُصلِح خطأنا.
ونظر إلى صلاح الدين وقال: اذهب الآن إلى عمك في حمص، فاذكُر له خبر هذه الرسائل، وادعُه ليأتي على جناح السرعة.
وركب صلاح الدين جواده، وخرج من حلب مُسرِعًا نحو حمص، فلمْ يكد يبعد عن المدينة نحو ميل حتى رأى عمه وبعض رجالٍ يُسرِعون نحو حمص، فحيَّاه وبلَّغه رسالة نور الدين. فقال أسد الدين: لقد وصلتني رسائل مُشابِهة من مصر، فجئت مُسرِعًا لأعرضها على مولانا المَلك العادل.
وعاد أسد الدين وابن أخيه إلى قلعة حلب، فقال نور الدين: عفوًا يا أسد الدين! لقد أخطأنا في فهم قصدك، ولم نقدُر رأيك حق قدره، وكانت النتيجة ما أصاب المسلمين في مصر من ضر ومكروه؛ فتجهَّزْ واستعِدَّ للمسير بأقصى ما تستطيع من سرعة.
فقال أسد الدين: إنني خرجت في المرتين السالفتين ومعي جند قليل وعتاد أقل، ولا يُمكِنني أن أخرج هذه المرة إلا إذا زوَّدتني بما يضمن النجاح في مَهمَّتي.
– لك ما تطلب، فاختَر من جندك ألفَي فارس، ومن التُّركمان ستة آلاف. وسأُعطيك مائتَي ألف دينار للنفقة، ولكل فارس عشرين دينارًا نفقة خاصة، وسأُزوِّدك بما تُريد من ثياب ودواب وآلات وأسلحة. هل هذا يُرضيك؟ وتردَّد أسد الدين ثم قال: والقُواد؟!
– إنك تُكثِر من الشروط يا أسد الدين. والله إن تأخَّرت أنت عن المسير إلى مصر لأَسيرَن إليها بنفسي، فإننا إن أهملنا أمرها مَلكَها الفرنج.
– عفوًا يا مولاي، إنني لم أقصد إلى هذا، ولكنني لمستُ بنفسي أسباب الفشل في الغزوتين الماضيتين، وأُريد ألا تتكرَّر المأساة هذه المرة.
فقال نور الدين: سأبعث معك خير قُوادي، ورجال جيشي. سيصحبك عز الدين جرديك، وغرس الدين قلج، وشرف الدين برغش، وناصح الدين خمارتكين، وعين الدولة بن الياروقي، وقطب الدين ينال، وغيرهم ممن تُريد. فهل يُرضيك هذا؟
– شكرًا جزيلًا يا مولاي. ففي هؤلاء الكفاية.
ثم نظر إلى ابن أخيه وقال: تجهَّز يا يوسف للمسير معي.
فغضب صلاح الدين وقال: والله لو أُعطِيت مُلْك مصر ما سِرتُ إليها، فلقد قاسَيت بالإسكندرية من المَشاق ما لا أنساه أبدًا.
فالتفت أسد الدين إلى نور الدين وقال: لا بد من مسيره معي يا مولاي.
فنظر نور الدين إليه وقال: لا بد من مسيرك مع عمك يا صلاح الدين، فهو يُريد أن يشُد أَزْره بك وأنت ابن أخيه.
فقال صلاح الدين: لقد قاسيت الشدائد يا مولاي في السفرة الأخيرة من قِلة النفقة والدواب.
– سأُزوِّدك بما تُريد، فاعقِد العزم ولا تتردد.
فسكت صلاح الدين لحظة وقال: اترُكني للغد يا مولاي أستخير الله.
وخرج أسد الدين ليعُد العُدة للمسير العاجل، فقابَل الشيخ أبا الحسن، وأفضى إليه بخبر الحملة الجديدة، وذكر له أن ابن أخيه صلاح الدين لا يُريد السفر معه. فقال أبو الحسن: عليك بالشاعر حسان العرقلة؛ فهو صديق صدوق لصلاح الدين، وقد اختص به يُجالِسه ويُنادِمه، ويمدحه كثيرًا بشِعره.
فأرسل أسد الدين فدعاه، وطلب إليه أن يذهب إلى صلاح الدين، فيُحرِّضه على المسير معه إلى مصر. وأعدَّ العرقلة أبياتًا في نفسه، وذهب إلى دار صلاح الدين.
أما صلاح الدين فقد خرج من لدُن نور الدين مهمومًا محزونًا، وسار إلى داره فتوضَّأ وصلَّى، وتناوَل المصحف وفتحه، وبدأ يقرأ سورة البقرة، وقرأ، وقرأ، إلى أن وصل إلى قوله تعالى:
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
وتابَع القراءة إلى أن قرأ:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
واطمأنَّت نفسه ورضيت، واستمر في القراءة، ودخل عليه العرقلة وهو يقرأ قوله تعالى:
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
فقال العرقلة: صدق الله العظيم: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً.
وبدأ يُنشِد صلاح الدين أبياته حاثًّا ومُحرِّضًا:
فضحك صلاح الدين وقال: لقد اطمأنَّت نفسي يا عرقلة بعد قراءة القرآن، وسأسير إلى مصر.
– وسيكون لك مُلْكها، كما مَلكَها يوسف بن يعقوب.
– لست أسعى لهذا يا عرقلة. إننا نُجاهِد من أجل المسلمين.
– وإن مَلكتَها فكَم تُعطيني؟
– والله لئن ملكتُ مصر لأُعطينك ألف دينار.
وأرسل نور الدين الفقيهَ عيسى الهكاري برسالة إلى الخليفة العاضد، يُخبِره بقُرْب وصول النجدة، وسار مع جيش أسد الدين إلى دمشق ليُودِّعه قبل رحيله إلى مصر.