القلب الذهبي
خرج جيش أسد الدين من دمشق في طريقه إلى مصر، وفي صحبته أبو الحسن وعبد الرحمن. وقد فرِح كلٌّ منهما بلقاء صاحبه، فكانا يقضيان الوقت معًا في حديث مُستمِر، وأبو الحسن يسأل عن أحوال مصر وأخبارها، وعن أصدقائه واحدًا واحدًا، وعبد الرحمن يُجيب ويُسهِب في الإجابة. فإذا أمسى المساء، وأناخ الجند للراحة والنوم، جلس عبد الرحمن وحدَه خارج الخيمة ينظر إلى السماء، ويتذكر مصر ويحنُّ إلى من فيها، وصورة فاطمة تُرافِقه في كل آن وحين، في حِلِّه وتَرحاله، في نومه ويقظته. إنه يتذكر دائمًا مَوقفها أمامه في المكتبة وهي تُودِّعه قبل سفره وتُوصيه بنفسه، وبالرسالة خيرًا، ووجهها الملائكي ينظر إليه بكُله؛ بعينَيه البرَّاقتَين ووجنتَيه الحمراوَين، وأنْفها المستقيم الدقيق، وفمها الصغير، وجبهتها المُشرِقة، ثم يذكُر كيف مدَّت يدها إليه تُقدِّم له القلب الذهبي المسطور عليه آية الكرسي، وتطلب منه أن يحمله معه في سفره ليكون رُقية تحفظه من كل شر وسوء، وتسأله أن يحتفظ به، ويُحسِن حراسته؛ فهو أعز ما تملك في الحياة، فيمُد يده إلى جيبٍ يُلاصِق قلبه فيُخرِج القلب، وينظر إليه طويلًا، ثم يُقبِّله قُبلة خافتة وهو يتلفت حوله، ويُعيده إلى مكانه الأمين لصقَ قلبه.
وكان كلما قرُب الجيش من مصر زاد حنينه إلى وطنه، واشتد فرحه لقُرْب رؤيته لفاطمة. فلما وصلوا إلى بلبيس دخل على القائد أسد الدين، وطلب الإذن منه ليُسرِع هو إلى القاهرة ليحمل إلى من فيها البُشرى بقُرْب مَجيء النجدة، فأذِن له. وامتطى صهوة جواده يُسابِق الريح، وهو يُحِس أن قلبه يكاد يقفز من صدره فيسبقه إلى القاهرة، ووصل إلى قصر الأمير شمس الخلافة، ودخل إلى الحديقة، فرأى فاطمة في ثوب أحمر فاتح جالسةً إلى جانبِ فَسْقية هناك، تُلقي فُتات الخبز إلى السَّمك، فوقف لحظة يتأملها، ثم خطا نحوَها في احتراس، فلما وقف خلفها قال يُخاطِب السمك: كم أنت سعيد أيها السمك!
فجفلت فاطمة، وهمَّت واقفة، وقد وضعت يدها على صدرها من أثر المفاجأة، وقالت: الشيخ عبد الرحمن! حمدًا لله على السلامة. متى وصلت؟
– الآن فقط، وكان من حظي أن كنتِ أوَّل من قابلت.
فأطرقت، وقالت: أرجو أن تكون قد وُفِّقت في رحلتك وسفارتك.
– الحمد والشكر لله سبحانه وتعالى، فقد كان التوفيق يُلازِمني في كل خطوة أخطوها.
ثم سكت لحظة وقال: والفضل في ذلك كله لقلبك.
فارتبكت فاطمة وقالت: قلبي أنا؟
فأخرج القلب الذهبي من جيبه وقال: أجل، قلبك الذهبي.
فضحكت فاطمة ووضعت يدها على قلبها، وقالت: لقد أفزعتني! وظننت أني كنت أحيا هنا مدةَ غيابك بلا قلب.
فضحك عبد الرحمن، وقال: لا، لم أعنِ هذا. عشتِ وعاش قلبك. ولكن مهمتي لم تنتهِ. أين الأمير شمس الخلافة؟
– إنه في غرفته.
– سأذهب لأحمل إليه البشرى. إن جيش أسد الدين في طريقه من بلبيس إلى هنا.
وأسرع عبد الرحمن فدخل على الأمير شمس الخلافة، فلمْ يكد يراه حتى وقف، وصاح: عبد الرحمن! أهلًا وسهلًا وحمدًا لله على سلامتك.
وتقدَّم فعانَقه وقبَّله، وقال: ما وراءك؟
– ورائي جيش أسد الدين في طريقه من بلبيس إلى هنا، وقد جئت أحمل إليك البشرى.
– الحمد لله. يا ليْتنا لم نُهادِن هذا المَلك. ولكن فليُعوِّضنا الله خيرًا في هذه المائة ألف دينار.
– مائة ألف دينار؟
– أجل، لقد اتفقنا مع الفرنج أن ندفع لهم أربعمائة ألف دينار، على أن ينسحبوا من مصر، وقد دفعنا لهم منها مائة ألف دينار. ثم أطرق لحظة، وقال: ولكن البلد خرِبت، وأفلست خِزانتها. والله لا يُمكِن أن أترك هذا المال لهم، سأحتال حتى أسترِدَّه. والآن سأتركك قليلًا، فانتظِرني حتى أعود لنتناول طعام الغذاء معًا، وسأذهب إلى الخليفة وأُبلِّغه خبر مَجيء النجدة. إن القاضي الفاضل سيكون أشدنا فرحًا بهذا النبأ.
وذهب الأمير شمس الخلافة إلى قصر الخليفة، وأخبره بوصول أسد الدين بجيشه إلى بلبيس. وبيْنا هو خارج من باب القصر إذا به يُقابِل الوزير شاور داخلًا، فحيَّاه وقال: أيها الوزير، إن لدي أنباءً سارَّة تهُمك.
فقال شاور: أخبار سارة! هاتِها فإن الأيام الأخيرة عوَّدتنا ألا نسمع أنباءً سارة.
فانتحى به شمس الخلافة جانبًا، وقال: لقد وصل أسد الدين بجيشه إلى بلبيس.
فأحس شاور كأن عقربًا لدغته، وقال: وهل هذه أنباء سارة يا شمس الخلافة؟
– أجل إنها لَسارة؛ فإن حضور أسد الدين معناه سرعة خروج الفرنج من مصر.
– ولكن أسد الدين طامع في مُلْكها.
– لا أعتقد أنه جاء طامعًا، ولكنه جاء مُنجِدًا ومُعينًا. وهَبْه جاء طامعًا يا صديقي، أليس الخير أيها الوزير أن يملك البلدَ المسلمون حتى لا تقع في أيدي الفرنج.
فبُهِت شاور من هذه الصراحة، واشتد به الضيق من هذه النغمة التي يسمعها في كل حين، ومن كل إنسان؛ المسلمون خير من الفرنج المسلمون خير من الفرنج. قد يكون هذا صحيحًا، ولكن معناه زوال مَجده هو، وأُفول نجمه، وماذا يعنيه هو، بل إنه ليُفضِّل أن يكون وزيرًا والبلد في أيدي الفرنج على أن يملكها المسلمون فيفقد سلطانه وجبروته، ولكنه عاد يُفكِّر في أسد الدين، وما يتطلبه جيشه من نفقات، فقال: إن أنباءك السارة يا شمس الخلافة ستُربِك البلد كله؛ فأنت تَعلم أننا لا نجد المال الذي اتفقنا على تقديمه للفرنج كي يسرعوا الخروج من مصر. فأنَّى لنا بمال جديد ندفعه لأسد الدين وجيشه؟!
فقال شمس الخلافة: دَع هذا لي فإني سأُدبِّر المال بنفسي.
– وكيف؟
– سأذهب فأطلب من المَلك مري بعض ما دفعنا له من مال.
فضحك شاور ضحكًا عاليًا، وقال: تطلب مالًا من مَلك الفرنج! إننا لم ندفع له إلا ربع ما طلب. فهل يُعطيك ما أخذ وهو يُلِح كل يوم في طلب ما بقي له لدَينا؟
فقال شمس الخلافة: إنها فكرتي وسأعمل على تنفيذها. والله يُوفِّقني.
ثم استأذن منه، وخرج من القصر، ثم من القاهرة مُتجِهًا إلى معسكر الفرنج جنوب الفسطاط. وما إن رآه مَلك الفرنج حتى ابتدره قائلًا: ما لك واجمًا مُقطَّب الجَبِين أيها الأمير؟! فليس هذا عهدنا بك.
فقال شمس الخلافة: إننا في أزمة شديدة، وموقف حرِج أيها المَلك.
– وماذا عساه أن يكون ذلك الموقف الحرج يا شمس الخلافة؟ لقد اتفقنا على الهدنة وها نحن أولاء نحزم أمتِعتنا، ونتأهب للعودة. فماذا يُحزِنكم بعد؟
– لقد قَل عندنا المال أيها الملك، فنحن في حاجة إلى من يُعيننا ببعضه.
فدُهِش المَلك، واعتقد أن وراء هذا الكلام حادثًا خطيرًا، فقال: لقد غدَونا أصدقاء كما كُنا، فاطلب ما تشاء أُعطِك.
فعجِب شمس الخلافة من هذا العرض، ولكنه خشي إن طلب كل المبلغ الذي دفع أن يرفض طلبه، فقال: لقد قلت حقًّا أيها المَلك الحكيم، فإنني لم أُفكِّر أن ألجأ لأحد غيرك لما بيننا من ود وإخاء، وإني لأشتهي أن تهَب لنا نصف ما أخذت.
فقال مري: لقد فعلنا.
فازداد العجَب بشمس الخلافة؛ فقد أجابه المَلك إلى طلبه دون لجاج أو نقاش، وخشي أن يكون وراء هذه المَوافَقة السريعة الكريمة شيء، فنظر إلى الملك طويلًا، ولم يملك أن يكتم ما في نفسه، فقال: أيها المَلك، إنني لأعجب في نفسي من هذا الكرم؛ إذ لم يحدث أن مَلِكًا في مثل حالك وقدرتك علينا وهب مثل هذه الهِبة لقوم هم في مثل حالنا.
فقال الملك: ليس فيما فعلت شيء غريب يُثير عجبك أو دهشتك؛ فأنا أعلم أنك رجل عاقل حازم، وأن شاور مِثلك، وأنكما ما سألتماني هذا المال العظيم إلا لأمر قد حدث.
فلمْ يرَ شمس الخلافة بدًّا من أن يُفضي للملك بسِر الموقف؛ ليُبرِّر طلبه أولًا، وليدفع الملك إلى التعجيل بالسفر ثانيًا، فقال: صدقت أيها الملك، فإن أسد الدين في طريقه إلى القاهرة، ولا مال عندنا، وقد راعَينا ما بيننا من ود وصداقة، فأرسَلني الوزير شاور لأُخبِركم أنه «ما بقي لكم مُقام» في مصر الآن، فالخير أن تُسرِع بالرحيل، ونحن باقون على الهدنة مُحافِظون على شروطها، وسندفع بعض المال لأسد الدين عند وصوله لنُرضِيه؛ فإذا عاد للشام، أرسلنا إليكم ما بقي لكم من مال.
كان مَلك بيت المقدس قد علِم بخروج أسد الدين، وكان يُدرِك أنه قد أُحيط به؛ فرأى من الحكمة أن يُوافِق على كل ما يطلبه شمس الخلافة من شروط؛ لأنه لم ينسَ ما لقِيه وما لقِيه جيشه من جند أسد الدين الأشِداء في المرتين المًنصرِمتين، فقال: أنا راضٍ بما ذكرت، وإذا احتجتم لمبلغ آخر فاطلبوه أدفعْه لكم، حتى يسهل عليكم إقناع هذا الرجل أسد الدين، وسأعُد العُدة للرحيل السريع.
فأحس شمس الخلافة بعض ما في نفس الملك من ذعر وخوف، فأراد أن يكسب منه أكثر ما يستطيع كسبه، فقال: هذا ما كنت أتوقعه من حَزمك وحسن تدبيرك وأصالة رأيك أيها الملك، ولكنني أرى أن هناك أشياء صغيرة، قد يكون لها أثر خطير، وقد تُسهِّل لك سبيل العودة الآمنة إلى بلادك.
– وما هي؟
– أرى أنك في حاجة لكسب عطف المصريين حتى لا يُقيموا العقبات في طريق عودتك. فهل ترى مانعًا من إطلاق سراح الأسرى المصريين؟ ثم سكت لحظة، وقال: وأظن أنك لو أطلقت سراح طي بن شاور لكان هذا جميلًا تُطوِّق به عنق صديقك الوزير، يجعله يبذل الجهد لإبعاد أسد الدين عن مصر، وأعتقد أن هذا لو تم لكان كسبًا عظيمًا لكم.
فقال الملك: ولك هذا أيضًا يا صديقي، سنطلق سراح طي بن شاور، وجميع الأسرى المصريين. فهل من مزيد؟
– كلا أيها الملك، لقد كنت دائمًا كريمًا معنا. إنك ستعود إلى مُلكك، ولكنني سأذكر دائمًا حَزم المَلك مري، ورجاحة عقله، وصداقته وإخلاصه.