حديث على ضفة النيل
انتهت صلاة المغرب في مسجد عمرو وجلس الفقيه زين الدين ابن نجا مُطأطِئًا رأسه مُسبِلًا عينيه يستغفر ربه، ويقرأ بعض الأدعيات الخاصة التي اعتاد أن يتلوها عقب كل صلاة، وما إن انتهى من تلاوته حتى رفع يديه ووجهه إلى السماء يُكمِل الدعاء في صوت خفيض ولكنه صادر عن قلب قوي عامر بالإيمان، وانتهى من الدعاء، ومسح وجهه بيديه، ومال إلى يمينه فأخذ خُفَّيه في يده وقام يُريد الخروج، فقد كان الجو حارًّا في ذلك اليوم والهواء ساكنًا لا يكاد يتحرَّك، وسار الفقيه يقصد باب المسجد، فإذا به يلمح صديقه الشيخ أبا الحسن جالسًا قُرب الباب ساهمًا تبدو عليه علائم التفكير العميق فابتدره بتحية المَشوق قائلًا: مرحبًا يا أبا الحسن.
فهمَّ أبو الحسن واقفًا في حركة سريعة، وقد ذُعر لهذه التحية المُفاجِئة التي قطعت عليه حبل تفكيره، وقال: مرحبًا بك أنت أيها الفقيه الجليل وأهلًا وسهلًا.
ثم سأل الفقيه: أين كنت يا أبا الحسن فإني تلفَّت أبحث عنك بين المُستمِعين لدرسي عصر هذا اليوم فلمْ أجدك فشُغلت عليك، وساءلت نفسي، تُرى أي سبب أخَّرك هذه المرة عن واجبك الذي لم تنسَه منذ مدة طويلة، وخاصة أن حَر اليوم كان قائظًا لافحًا، وقد افتقدك مُستمِعو الدرس وكنت أسمعهم يتهامسون: أين أبو الحسن؟ أين أبو الحسن يروي عطشنا في هذا الحَر بمائه العذب، وقد عطَّره وجمَّل طعمه بماء الزهر اللطيف؟ ثم سكت هُنَيهة واستأنف حديثه وضحك مُلاطِفًا الشيخ بقوله: والحق أنني أنا أيضًا اشتقت لكوب من مائك بعد أن غِبت عنك وعنه أسبوعين كاملين.
– إني لآسِف جِد الأسف يا مولاي إذ لم أعلم بخبر عودتك، وإلا لسارعتُ بالحضور لأستمع إلى درسك القيِّم؛ فإني أعلم أنه قد فاتني خير كثير بغيابي اليوم، ولكنني كنت مشغولًا بضيف مريض، بل جريح.
– لا زلتَ سبَّاقًا للمَكرمات يا أبا الحسن، ولكن ما لنا نقِف ها هنا والجو خانق؟
ثم أخرج منديلًا من جيبه ومسح به عَرقه الناضح على وجهه، وقال لرفيقه: هيَّا بنا نخرج فنسير على شاطئ النيل حتى يحين وقت العشاء لعلنا نظفر بنسمات مُتبرِّدة نوعًا تُخفِّف عنا بعض ما نُحِس من هذا الضيق، ثم إني أُريد أن أستمع إلى ما تعرف عن أخبار مصر والقاهرة مُدة غيابي.
ووضع كل من الرجُلَين خُفَّيه في قدميه، وسارا صامتَين بعيدًا عن المسجد يُيمِّمان وجهَيهما شطرَ النيل، وكانا كُلَّما اقتربا منه أحسَّا نسمات خفيفة تهُب على وجهَيهما حتى وصلا الشاطئ وسارا بمُحاذاته قليلًا فزاد هبوب النسيم، ولطف الجو كثيرًا، وأحسَّا بعض الهدوء في رأسَيهما ونفْسَيهما، واستمَرَّا في السير صامتَين حتى وصلا شجرة جميز عاتية كثيرة الغصون، وقد مُهِّدت الأرض تحت فروعها وسُوِّرت بسور قصير من الطين، وفُرشت حصيرًا باليًا، وفي أحد جوانبها قُلَل كثيرة أُعِدت ليشرب منها المارة إذا عطشوا، فقال الفقيه: أظن أن هذا المكان هو خير ما نطلب في هذه الساعة يا أبا الحسن فلنسترِح هنا قليلًا حيث نستقبل نسمات الليل الباردة ونُمتِّع أنظارنا بهذا النيل الجميل، وهنا أيضًا نستطيع أن نتحدَّث كيف نشاء ونحن مُنفرِدان فإن أرباب الفلك مشغولون الآن مع أهل الفسطاط الفارين من حَر المدينة إلى فلكهم يتنزَّهون فيها، وأحسبهم لا يعودون إلا بعد ساعات.
– إنهم مشغولون حقًّا، ولكنهم سوف لا يتأخَّرون عن مَوعِد العشاء؛ لأن الناس لا يجرءون كثيرًا على الخروج في هذه الأيام المُضطرِبة العصيبة، فهم يُفضِّلون الحَر في مَنازلهم على النزهة والتعرُّض لحوادث الجند وقتالهم.
– أجل ذكَّرتَني يا أبا الحسن وكنتُ نسيت، حدِّثني الآن كيف انقضت هذه الأيام بحوادثها الغريبة، فقد كنتَ شاهدًا لها، وقبل أن أنسى مرة ثانية: من يكون هذا الضيف الجريح الذي شغَلك اليوم عنا؟
– إنه شابٌّ تعرفه يا سيدنا، فقد كان يحضر دروسك دائمًا، إنه عبد الرحمن القوصي.
– عبد الرحمن؟! هذا الشاب النابه الذكي، لقد آلَمني هذا الخبر يا أبا الحسن، ومن الذي جرَحه وأنا أعلم أنه قليل الاختلاط بالناس مشغول طولَ يومه بالكتاب والدرس؟!
– أجل إنه لكَما تعرف، ولكنه القضاء والقدر، ولقد صدق رسول الله ﷺ إذ يقول: «المُؤمِن مُصاب»؛ كنتُ في المسجد كالعادة أصيلَ اليوم التالي لسَفر سيدنا الفقيه إلى الإسكندرية، فإذا بعبد الرحمن يأتي ويطلب إليَّ أن أصحبه إلى القاهرة لأدُله على قصر الأمير شمس الخلافة، فقد أرسل إليه بعد أن علِم بجمال خطه لينسج له بعض الكتب، وعبد الرحمن قد لزم الفسطاط منذ وفَد إليها من بلدته قوص فهو يُقسِّم وقته بين المسجد والبيت، ولم يكُن قد ذهب إلى القاهرة من قبل فقبلتُ دعوته وذهبنا سويًّا، وقابل الأمير، وصحِب الكُتب. وبينا نحن في طريقنا ولم نكَد نبعد عن القصر إلا مسافة قصيرة إذ سمعْنا ضجة عالية، وأصوات الخيل والأبواق والجند تملأ الأسماع والجو حوْلنا، وفي لحظات ألفَينا الطريق الذي نسير فيه قد سُدَّت مَسالكه من الناحيتَين بالجند مُشاةً وعلى خيولهم، ولم يكُن لنا سبيل إلى الفرار فأسندْنا ظهرَينا إلى الحائط خلفنا وبقِينا في ذُعْر نُشاهِد القتال بين جند شاور وأنصار ضرغام، ولبثْنا على هذه الحال مُدة والرعب يملأ أفئدتنا، وكادت الخيل في فورتها وقفزاتها أن تُصيبنا أكثر من مرة حتى انتهت المعركة بانتصار ضرغام، وفرار جند شاور؛ فمرَّ ضرغام على جُثَث القتلى لا يعبأ بشيء، وقد رفع رأسه وشمَخ بأنفه، واتجه إلى القصر ودخله، وهنا لم أشَأ أن ألبث كثيرًا فأمسكت بيد عبد الرحمن وجرَينا نُريد النجاة بأنفسنا ونحن نُحاذِر بخطواتنا ننقلها بين جُثَث القتلى، ولكننا لم نكَد نتوسَّط الطريق حتى رأينا فارسًا يعدو بأقصى ما يستطيع من القوة والسرعة، وخلفه ثلاثة آخرون فارتبكنا وحِرْنا في أمرنا: أنُسرِع فنجتاز المسافة الباقية من الطريق أم نعود إلى مكاننا حتى يمُر هؤلاء الفرسان؟
وبينما نحن في حَيرتنا التي لم تطُل إذ بالفرسان على قيد خطوة أو اثنتين منا فقفزت أنا إلى الأمام، وتخطَّاني الفارس الأول، ولكن المسكين عبد الرحمن عثَر في قفزته بجُثة حصان فسقط، وداسه الفرسان الثلاثة وهم في سرعتهم لا يلوون عليَّ ولا يهتمون بإنسان، وقد أصابت حوافر الخيل رأس الشاب المسكين وكتفه بجراح خطرة، وغاب عن صوابه؛ فحملتُه وسرتُ قليلًا إلى مكان آمن حتى مرَّ بنا رجل ومعه حمار فأركبت عبد الرحمن فوق الحمار وأمسكت به أنا والرجل إلى أن وصلت داري وهو عندي أُعنى به وبجروحه إلى أن تحسَّن قليلًا والحمد لله.
– له الله ذلك الشاب، إن من واجبنا أن نعوده، وسأمُر عليك غدًا إن شاء الله لزيارته، ولكن من يكون ذلك الفارس؟
– لقد لمحتُه وعرفته رغم سرعته الشديدة، ورغم وجود الخوذة التي تُغطِّي مُعظَم وجهه، إنه شاور بأنفه الطويل وعينَيه السوداوَين.
لم يندهش الفقيه عند سماعه هذا الخبر، ولكنه أطرق صامتًا لحظة ثم قال: لقد أفسد هؤلاء الرجال الدولة يا أبا الحسن فهم يتنازعون السُّلطة والجاه، ولا يُعنَون البتة بمستقبل مصر ومستقبل الإسلام، أنا لا يكاد يقتلني إلا أن هذا الخصام يحدث والفرنج على الحدود يزدادون كل يوم قوة ومُلكًا، وأنا لا أحسبهم يطمئنون أو يقِر لهم قرار حتى يمتلكوا هذه الديار؛ فكان أولى برجال الدولة أن يتكاتفوا ويتعاونوا لصدِّ هذا العدو إذا تحرَّك.
فضحك أبو الحسن وقال: يتكاتفون؟! إنهم كالكلاب يا سيدي والوزارة كالجيفة، كلهم ينبح ويُقاتِل في سبيل هذه الجيفة، والخليفة من ورائهم مغلول اليدين كالكرة يتقاذفونها بينهم.
فتنهَّد الفقيه، فقال: إن هذا الطفل يا أبا الحسن لاهٍ لا يدري، ورجال القصر ونساؤه يدسُّون الدسائس لكل من يُعارِضهم، ورجال الجيش كما ترى تخطف الوزارة بأبصارهم، فإذا وصل أحدهم إلى دَسْتها تحكَّمت أُسرته في رقاب الشعب وأمواله، أتعلم يا أبا الحسن من الذي هزم شاور؟ ليس هو ضرغام ولا جنده، إنهم أبناؤه، أبناؤه الذين بسطوا سلطانهم على الناس في كل مكان، وتعاظَموا وتجبَّروا وتسيطروا حتى مجَّهم الناس وكرهوهم وكرهوا أباهم، وأنت تعلم أن ضرغامًا انتهز هذه الفرصة فانقضَّ على شاور وخاصة بعد أن دخل طي السجن فقتل رزيك بن الصالح طلائع، وهو رَب نعمة شاور، وهو الذي ولَّاه الصعيد أثناء وزارته فاستمال ضرغام إليه الكثيرين من أمراء الجيش وانقضَّ على غريمه فسلبه الجيفة كما تقول.
ثم سكت الفقيه لحظة واستأنف حديثه، فقال: ويُخيَّل إليَّ يا أبا الحسن أن هذه الدولة قد قاربت الفناء؛ لأن هذا النزاع الدائم بين رجالها نذير بزوالها، ولكنني رغم ما لها من أخطاء لا أُحِب لها هذا الموت الذي بدأ يدبُّ في جسمها؛ لأنها — مهما أخطأت — دولة إسلامية وأخشى أن يكون فناؤها مُمهِّدًا لقُدوم الفرنج.
فقال أبو الحسن: ولكن رجال هذه الدولة هم الذين يُمهِّدون لموتها ويُقرِّبون نهايتها؛ لقد رحَّب العاضد — لكُرهه الشديد لشاور — بضرغام فقلَّده الوزارة ولقَّبه بالملك المنصور، ولكن هذا جعل همَّه الأكبر منذ استقر وزيرًا تتبُّع أنصار شاور ورجاله، وقد سمع أن نفرًا من الأمراء عزموا على مُكاتَبة شاور بالشام وتحريضه على العودة، فاحتال عليهم حتى أحضرهم إلى دار الوزارة ليلًا وقتلهم! أجل قتل سبعين أميرًا من كبار أمراء الجيش والدولة، إن هؤلاء الوزراء كالقطط التي تأكل صغارها، إنهم يقتل بعضهم بعضًا وستبقى الدولة بعد ذلك دون رجال يُدافِعون عنها إذا دهمتْها الخطوب، نسأل الله أن يلطف بهذا البلد وأهله الذين عهِدوا بأمورهم إلى هؤلاء الحكام فانصرفوا عن الاهتمام بشئونهم إلى المُنازَعات الشخصية، ثم إنهم … ولكن استمع يا مولاي، أليس هذا صوت المُؤذِّن؟
فقال الفقيه: نعم إنه هو. لقد سرقنا الوقت، وقد لا نستطيع إدراك الجماعة في المسجد، فهل ترى مانعًا يا أبا الحسن من الصلاة هنا في هذا المُصلَّى الصغير اللطيف؟
– أبدًا، إنه مكان جميل، ولكن لننتظرْ قليلًا فسيعود أصحاب القوارب بعد لحظات ليُؤدُّوا فريضة العشاء ها هنا كعادتهم، وسيفرحون الفرح كله إذا علموا بوجود الفقيه زين الدين بينهم، وأنه جاء ليُصلِّي في مُصلَّاهم المُتواضِعة.
وصمت الرفيقان قليلًا، وأخذا ينعمان بالمَناظر الجميلة التي تُحيط بهما، فقد كانت أمامهما حقول الروضة وقصورها ذات الحدائق الفَيحاء، والنخيل يقوم بين القصور كالحرَس اليقِظ، وكان القمر في تلك الليلة بدرًا يُرسِل ضوءه الفضي فيملأ المكان نورًا وجمالًا، وتنعكس أشعته على صفحة النيل فتبدو مياهه لامعة برَّاقة كالزئبق الرجراج، وأطلق كلٌّ منهما لفكره العنان يُكمِل بينه وبين نفسه ما انقطع من حديث، ولكلٍّ آراء وأمنيات يتمنَّى لو أُتيحت لها الفرص فتحقَّقت، فقد كانت الحوادث تتابع في مصر والشام في ذلك الحين تتابُعًا غريبًا كله مُفاجَآت ومُتناقِضات؛ كان الفرنج يملكون بلاد الساحل في الشام، وكانت أوروبا تستيقظ من سُباتها وتُعِد العُدة لإرسال النجدات لمسيحيِّي الشرق، وكان نور الدين ينفخ في بوق الجهاد كل يوم وجيوشه تنقضُّ على هؤلاء الفرنج فتُذيقهم المُر والعذاب وكانت مصر أخيرًا مَسرحًا لسلسلة من المُشاحَنات والاختلافات الداخلية بين الطامعين في الوزارة، والخلافة الفاطمية وراء هؤلاء الوزراء قد سلبها الفرنج أملاكها في الشام فانكمشت كالقوقعة داخل صَدفتها — مصر — تحتضر وتتلمس في ضعفها أية قوة خارجية تستعين بها في مِحنتها.
أما الفقيه زين الدين فكان من أهل دمشق، نشأ وتثقَّف ثقافته الأُولى بها ثم رحل إلى بغداد فوجد الخلافة العباسية ضعيفة تُعاني من سيطرة رجال الجيش الأتراك، فقال لنفسه: «تسمع بالمُعَيدي خير من أن تراه» وترك بغداد إلى مصر فأُعجِب بها أيَّما إعجاب وملكتْ عليه لُبَّه وعقله ونفسه، فأحبها من كل قلبه حتى عُرف بين الناس بالفقيه زين الدين المصري، ونسي ونسي الناس معه أنه دمشقي.
ولكن الفقيه درس كُتُب الفقه والتاريخ فأُفعِمت روحه بالإيمان، الإيمان بمَجد الإسلام وعِزه، واتخذ الوعظ صناعة له، وكانت دروسه كلها تموج بهذه الأفكار: مَجد الإسلام ومَجد رجاله.
وإذا كان للدولة المصرية مَذهب خاص، فقد تحاشى أن يصطدم بهذا المَذهب أو رجاله، فكان لا يذكر أبا بكر أو عمر، ولكنه كان يتحدَّث عن الرسول عليه السلام وعن علي بن أبي طالب فيُسهِب في الحديث، وفي حياتهما مادة غزيرة لمن يُريد الحديث عن البطولة وإحياء النفوس الهامدة؛ ولإرضاء رجال الدولة — حتى يتَّقي شرهم — كان يُشيد بذِكر الأوائل من رجال الدولة الفاطمية. ولا بأس عليه في هذا، فقد كانوا رجال دولة أجِلاء شيَّدوا دولة واسعة مُترامِية الأطراف، وأقاموها على أُسُس حربية وإدارية مَتينة، وعُنوا بصالح أهل مصر ورفاهيتهم، فشارَكوهم في أعيادهم وأضفَوا عليها من بذخهم وثرائهم الشيء الكثير، ومدُّوا للفقراء المَوائد في كل مُناسَبة، وأضافوا العلماء الوافدين، وشجَّعوا المُقيمين؛ فنعِم الشعب في عهدهم وترك لهم شئون مَذهبهم يجترُّونها دون أن تنفذ إلى أعماق قلبه، ورضي أن يعيش في ظل هذه الدولة القوية التي تنشر السلطان بِاسمه شمالًا وجنوبًا.
ولكن الفقيه زين الدين كان يُقلِّب وجهه هذه الأيام في ربوع مصر، لعله يُصيب فيها القوة التي تحمي الإسلام من هذا الخطر الفرنجي الداهم الذي رآه رأى العين وهو في مَوطِنه — الشام — فارتدَّ إليه البصر خاسئًا وهو حسير؛ لقد وجد الدولة مريضة في دور الاحتضار، فكان وهو في جلسته هذه يُقلِّب هذه الأمور كلها على أوجُهها المُختلِفة: إنه يَدين بالمَذهِب السُّني وهذه الدولة التي تحكم مصر شيعية، ورجالها ووزراؤها يُغالون في هذا المَذهَب فكتَم ما يَدين به؛ وصدرُ الدولة في مصر والشام مُعرَّض لنبال الفرنج ورماحهم، وليس من رجال الإسلام من يغار عليه غير هذا الرجل المُجاهِد نور الدين في الشام، ولكن الشام لا تكاد تفي بما يحتاجه جيش الجهاد من مئونة وراتب وذخيرة، ومصر ضَيعة الإسلام الغنية، وحصنه الحصين، غير أن رجالها شغلتْهم أطماعهم الشخصية عن الاهتمام بالدفاع عنها وعن الإسلام. وهنا وصل — في عقله — إلى نتيجة منطقية: الرجل في الشام، العتاد في مصر، فهل يجتمعان؟!
بمثل هذا أيضًا كان يُفكِّر الشيخ أبو الحسن فهو مُؤمِن بهذه الأفكار كلها، ولكنه إيمان القلب فقط لا إيمان القلب والعقل معًا كإيمان صديقه الفقيه، ولكنه إلى هذا كانت تدفعه عوامل أخرى تبعت في نفسه الرغبة القوية أن يُعجِّل الله بزوال هذه الدولة؛ فإنه كان ذا ثأر، ولهذا سرٌّ في نفسه لم يكشف لأحد عنه بعد.
ولم يُوقِظ الرجُلَين من أحلامهما إلا أصوات المَجاديف تُتابِع ضربها الهيِّن للماء تدفع القوارب مُتجِهة نحو الجسر المُقام بين الفسطاط والروضة، فقال الفقيه لرفيقه: إنهم في نهاية رحلتهم يا أبا الحسن، فقد اعتادوا أن يصعدوا بقواربهم ومن فيها مُتجِهين إلى الجنوب، فإذا انتهوا من نزهتهم عادوا فأنزلوا الركاب عند مَرسى الجسر، ثم أتَوا إلى هنا ليُؤدُّوا فريضة العشاء. أذِّن يا أبا الحسن أذان العشاء.
– أعفِني يا صديقي من هذه المَهمَّة فإن هذا الأذان المُشوَّه كريه إلى نفسي، ولننتظرْ حتى يعود أحد منهم فيقوم هو بالأذان.
– إنه كريه إليَّ أيضًا يا أبا الحسن، ولكن للضرورة أحكام، فلنبادرْ نحن لأن القوم إذا أتَوا ورأَوني أصرُّوا على أن أدعو أنا للصلاة.
– أجل للضرورة أحكام:
الله أكبر — الله أكبر.
أشهد أن لا إله إلا الله — أشهد أن لا إله إلا الله.
أشهد أن محمدًا رسول الله — أشهد أن محمدًا رسول الله.
ثم توقَّف قليلًا مُتردِّدًا وقال يُخاطِب نفسه:
– الأمر لله، اللهم لا تُؤاخِذنا بما فعل السفهاء منا، ثم استأنف الأذان بصوت خفيض:
حي على خير العمل — حي على خير العمل.
الله أكبر — الله أكبر.
لا إله إلا الله.