الوزير أسد الدين
تدافَع سكان القاهرة مُسرِعين نحو دار الوزارة. فلما أحس بهم الكامل بن شاور، فرَّ بأهله من باب خلفي، واتجهوا نحو قصر الخليفة في حال شديدة من الذعر، وانقضَّ العامة على دار الوزارة فحطَّموا أبوابها، وانبثُّوا في حجراتها، وأبهائها يسلبون تُحَفها، وينهبون طِرفها، ويحملون أثاثها ورياشها، ويُزيلون آيات زينتها، ولم يتركوها إلا قاعًا صفصفًا، وخرجوا في مُظاهَرة قوية فرِحةٍ يشقُّون شوارع القاهرة حتى وصلوا إلى باب القنطرة، فنفَذوا منه مُتجِهِين إلى معسكر أسد الدين وهم يهتفون بحياته، ويلوحون بأيديهم التي تحمل ما نهبوا من غنائم، كالكراسي الجميلة المُطعَّمة بالأبنوس والعاج، والأرائك المُكفَّتة بالفضة والنحاس، والأواني الخزفية الرائعة المنقوش، والملابس والحلى والجواهر. فخرج إليهم أسد الدين على جواده يُحيط به قواده وحاشيته، فحيَّاهم ورحَّب بهم.
وكانت الشمس قد مالت نحو المغيب، وبدأ الظلام ينتشر، وزاد الظلام حُلوكة طبقات السُّحب الكثيفة تُغطِّي صفحة السماء من ناحية الغرب، ولم تلبث الأمطار أن تساقطت رذاذًا فهلَّل المُتظاهِرون واعتبروا ذلك فألًا حسنًا، ثم تتابَع المطر، وانهمر غزيرًا فلمْ يُطيقوا وقوفًا، وكرُّوا راجعِين، وهم يرقصون ويُغنُّون مُتخِذِين من الأواني النحاسية التي في أيديهم دفوفًا وطبولًا.
وكان الحُراس قد انتشروا فوق سور القاهرة وأبوابها، وبيدهم المَشاعِل، فأرسلوا صيحاتهم عالية تُنادي العامة بالإسراع قبل أن تُقفَل الأبواب. فلما دخل آخرهم، صدرت الأوامر للحُراس، فتعاوَنوا على جر الأبواب الضخمة، ثم جذبوا قضبان الحديد خلفها وأحكموا إرتاجها، ووقفوا يحرسون هذه المدينة التي آوَت إلى فراشها بعد أن أكدَّها النضال وهدَّها التعب، ويرقُبونها وهي تغتسل بذلك الماء السماوي من آفات تلك العصبة المُتتابِعة من الوزراء المُتكالِبين على الوزارة.
وكان خمسون حارسًا يطوفون في ذلك الحين بقصر الخليفة الكبير، وعلى رأسهم أميرهم «سنان الدولة». فلما سمعوا المُؤذِّنِين يدعون للصلاة من قاعة الذهب داخل القصر، وقفوا يرقُبون الإشارة بانتهاء الصلاة. فلما وصلتهم أخذت الطبول تُدَق، والأبواق تُنفَخ بنغم جميل هادئ كعادتهم كل ليلة تحيةً للخليفة، ثم خرج أحد الأستاذِين من القصر فتقدَّم نحو أمير الحرس، وقال: «أمير المؤمنين يرد على سنان الدولة السلام.»
فأمر سنان الدولة بغلق أبواب القصر، ودار حوله سبع دورات، ووقف البوَّابون لحراسة الأبواب، وصدرت الأوامر بمنع الناس من المرور قربَ القصر.
فلما أحس الخليفة بالهدوء ينشر ألويته على القصر والمدينة، التفَّ في عباءة وتلثَّم بمنديل، وخرج إلى فَناء القصر، وركب حمارة فصعد بها زلاقة تُؤدِّي إلى بهو في الجهة الخلفية من القصر، فاجتازه إلى مَنظَرة تُشرِف على المدينة، فتقدَّم إلى دولاب خشبي كبير في الحائط، فخلع بعض أجزائه، فظهر من خلفه مَمر طويل، فترك الدابة ودخله، واجتازه حتى انتهى إلى سُلَّم صغير، فنزل فوجد سردابًا طويلًا، فسار فيه مُدة، وإذا به يرى ضوءًا خافتًا في نهاية السرداب، وسمع صوتًا يقول: من القادم؟
فنطق الخليفة بكلمة السر. فلما وصل حيث يقف الحارس خلع لثامه، فركع الرجل وقبَّل الأرض ثلاثًا، وقال: السلام على أمير المؤمنين.
فرد الخليفة السلام وسأله: أين آل شاور؟
– إنهم في الغرفة العاشرة من السرداب التالي يا أمير المؤمنين.
– وأين رئيس السجَّانِين؟
– قائم على حراستهم هناك يا أمير المؤمنين.
– ادعُه لأُكلِّمه.
فلما أتى أسرَّ إليه الخليفة أمرًا، ثم عاد في طريقه إلى غرفته الخاصة.
ظلَّت السماء تسكب دموعها غزارًا طول الليل حتى خفَّ عنها ما بها، وأحسَّت بعض الراحة مما كانت تُعاني، فانقطع وابِلها وصفَت وزالت سُحبها، وبدَت بعض النجوم في ضوء ضعيف ترنو نحو المدينة وساكنيها حانية عليها وعليهم، وكان القمر في نهاية رحلته الشهرية، فأشرق هلالًا صغيرًا قبل الفجر، ولم يلبث إلا قليلًا حتى مال نحو الغروب، وبدَت تباشير الفجر أضواءً باهتة؛ فنفخ حُراس القصر في الأبواق مُعلِنِين نهاية الليل وقرب الصباح، فانكمش حُراس المدينة ناحيةً يُغفون إغفاءة قصيرة تُريحهم من عناء السهر، وأخذت مَشاعِلهم تُقلِّل من نورها بعد أن ظلَّت الليل كله تحترق لتُنير، وتُقاوِم ما يهبُّ عليها من ريح الشتاء، وما يتساقط عليها من قطرات الماء.
واستمع سكان القاهرة لأبواق القصر تُعلِن اقتراب الفجر، فتقلَّبوا في فُرُشهم وهم يُطارِدون النوم عن أعيُنهم، وسلطان النوم يغلبهم، وأجسامهم تتراخى طالبةً المزيد من النعاس بعد تعب اليوم السابق.
وخرج المُؤذِّنون — كالأشباح — نحو مساجدهم، وارتقَوا المآذن يدعون الناس للصلاة، فترك الناس دُورهم وأسرعوا يُجيبون الدعوة، وانتهوا من صلاتهم وعادوا إلى منازلهم، وقد انتشر نور الصباح، وشاع في المدينة ذات القِباب والمآذن والقصور.
وأطفأ الحراس مشاعلهم وتركوا الأبواب لحُراس النهار، وفُتِحت الأبواب ليدخل الوافدون ويُغادِرها الخارجون، وكان أوَّلَ الخارجين من باب القنطرة جنديان من جنود الخليفة، يحملان أواني من الفضة مُغطَّاة بقطع من الحرير.
كانت هذه الأواني تحمل رءوس الكامل بن شاور وآل بيته هديةً إلى أسد الدين من الخليفة العاضد.
وعند الضحى وصَلت رُسُل آخرون على رأسهم الأمير شمس الخلافة، يحملون إلى أسد الدين خُلَع الوزارة، وتقدَّم شمس الخلافة يعرض الخُلَع على أسد الدين ويُجلُّوها إليه قطعةً قطعة، وهو ينظر إليها مشدوهًا مُعجَبًا بجمالها ونفاستها، والقواد حوله أشد إعجابًا وأعظم شوقًا لرؤيتها، يتدافعون لمُشاهَدتها ويتبادلونها ويُمسِكون أطرافها ويمُرون بأيديهم على زخارفها، وشمس الخلافة مشغول بتقديمها ووصفها، وهو يقول: هذه عمامة الوزير البيضاء المُطرَّزة بالذهب من صنع تِنِّيس، وهذا ثوب الوزارة بِطِرازَين من ذهب صُنع في دَبيق، وهذه جُبَّة تحتها سَقْلاطون ومعها الطيلسان، والجميع يُزيِّنها طراز دقيق من الذهب، وقد صُنعت أيضًا في دبيق، وهذا عقد يُحلِّي الوزير به جِيده، كله من الجوهر الخالص وقيمته عشرة آلاف دينار، وهذا سيف الوزارة مُحلًّى مُجوهَر وقيمته خمسة آلاف دينار.
ثم ترك أسد الدين وصحبه فاغِرِي أفواههم فاتِحِي أعيُنهم، وبعُد قليلًا فقاد فرس الوزير فمشت إلى جانبه تتهادى، وتحني رأسها ثم ترفعها مُتعاجِبة، والذهب والجوهر يُحلِّي عُدتها وأجزاء جسمها، فيخطف لألاؤها الأبصار، وقدَّمها شمس الخلافة إلى أسد الدين، وهو يقول: هذه الفرس بما يُزيِّنها هدية مولانا أمين المؤمنين إلى وزيره القائد الباسل أسد الدين.
وارتدى أسد الدين ما أُرسِل إليه من خُلَع، وراح ينظر إلى نفسه مُعجَبًا بملابسه الجديدة، وأحس في نفسه بزهو وكبرياء لم يعهدهما من قبل، فقال في سريرته: إني أعذر الآن شاور على تفانيه في سبيل هذه الأُبَّهة والخُيَلاء وما يتبعهما من عز وسلطان.
وخرج فامتطى الفرس وخلفه صلاح الدين والأمير شمس الخلافة وقُواد الجيش الآخرون، وسار المَوكب مُخترِقًا شوارع القاهرة، وقد اصطف الناس على جانبَي الطريق لرؤية الوزير الجديد، والترحيب به، ووصل الموكب إلى القصر فدُقَّت الطبول والكوسات ونُفِخ في الأبواق، ووقف الجند في أجمل زينتهم تلمع سيوفهم ودروعهم لتحية الوزير الجديد، ودخل أسد الدين، وظل يجتاز غُرَف القصر وأبهاءه وهو لا يكاد يُصدِّق عينَيه: ما هذه الروعة، وما هذا الجمال، وما هذه الزينة، وما هذا الترَف؟!
وانتهى به السير إلى قاعة الذهب، فوجد في صدرها ستور الديباج تُخفي وراءها سرير المُلك. فلما انتظم المكان جميع الحاضرين تقدَّم أحد الأستاذِين المُحنَّكِين الخواص، فوضع دواة الخليفة في مكانها المُعَد لها، ووقف الوزير الجديد أسد الدين — كما جرت العادة أن يقِف كل وزير من قبل — إلى جانب باب المجلس وعن يمينه زمام القصر، وعن يساره زمام بيت المال، وحوالَيه الأمراء المُطوَّقون أرباب الخِدَم الجليلة، ويليهم قُراء الحضرة، ثم أشار صاحب المجلس إلى الأستاذِين، فرفع كلٌّ منهم جانب الستر المُذهَّب الجميل، المُحلَّى بنحو ألف وخمسمائة وستين قطعة جوهر ذات ألوان مُختلِفة مُتبايِنة، وظهر الخليفة جالسًا على المرتبة المُؤهَّلة لجلوسه في هيئة جليلة على سرير المُلك المُذهَّب.
وبدأ قُراء الحضرة بقراءة بعض آي القرآن الكريم، وأحسنوا الاختيار، فقرءوا قوله تعالى:
قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
«هذا عهدٌ لا عهد لوزير بمثله، من عبد الله ووليِّه أبي محمد العاضد لدين الله أمير المؤمنين، إلى السيد الأجلِّ المنصور سلطان الجيوش وليِّ الأئمة مُجير الأمير أسد الدين أبي الحارث شيركوه العاضدي، عضَّد الله به الدين، وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته وأعلى كلمته، سلامٌ عليك، فإنه يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يُصلِّي على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين وعلى آله الطاهرين والأئمة المهديين وسلم تسليمًا، تقلَّدْ أمانةً رآك أمير المؤمنين أهلًا لحملها، فخُذ كتاب أمير المؤمنين بقوة، واسحب ذيل الفخَار بأن اعتزَتْ خدمتك إلى نبوة النبوة، واتخِذه سبيلًا للفوز سبيلًا.»
فلما أتم قراءة المنشور لفَّه بشريط من حرير، وناوَله الوزير فقبَّله، وتقدَّم فقبَّل يدَي الخليفة العاضد، وشكره على هذا الإنعام، ووعده أن يبذل الجهد في خدمة أمير المؤمنين وخدمة مصر وأهلها والدفاع عن بلاد الإسلام، ثم تقدَّم الحاضرون فئةً بعد فئة لتهنئة الوزير.
وصدر الأمر للحاضرين بالخروج، فخرجوا واحدًا بعد الآخر ووجوههم إلى الخليفة حتى يصلوا إلى الباب فينحنون ثلاثًا ويرفعون أيديهم إلى رءوسهم وينصرفون، وكان آخر الخارجين الوزير أسد الدين، فترك القصر وعاد في موكب جليل من جنوده وجنود مصر إلى أن وصل إلى دار الوزارة، ولشَدَّ ما كانت دهشته عندما رأى الدار خاوية خالية من جميع أثاثها وزينتها، حتى إنه لم يعثر على أريكة أو كرسي يجلس عليه، فنظر إلى صحبه وقال: لقد أطاع العامة الأمر طاعة عمياء، فنظَّفوا الدار من كل ما كان يشوبها أو يزينها. إن هذا ولا شك فألٌ حسن، فلنبدأ عهدًا جديدًا أو لنُعِد أثاثًا جديدًا.