القاضي الفاضل
استيقظ عبد الرحمن مع الفجر، فترك فراشه وقام إلى نافذة غرفته ففتحها، وراح يُطِل منها على أطلال الفسطاط حول كوخه الصغير، فيُحِس بعض الوحشة الممزوجة بالحنين. لقد فرَّ من المدينة عندما احترقت، ولجأ إلى منزل صديق له بالقاهرة، ولكنه لم يكد يسمع الوزير أسد الدين يدعو الناس للعودة إلى الفسطاط حتى كان أول العائدين يدفعه الحنين إلى هذه المدينة الحبيبة إلى نفسه ويسوقه الشوق إليها.
وإنه لَيذكُر الآن موكب أسد الدين يمُر في طُرُق المدينة وخِططها منذ أيام ليُشاهِد ما فعلت النيران بمبانيها ومساجدها، وإنه لَيذكُر أيضًا كيف كان يدعو الناس للعودة إلى مساكنهم، ويُشجِّعهم بالمال يُعطيه لهم، ويعِدهم أنه سيُعنى بإصلاح ما أفسدته النيران، وما أتلفه النهابة.
وعاد مع العائدين صديقه أبو الحسن، وبدأ حياته القديمة يجلس إلى صبيان المدينة في الصباح يُحفِّظهم القرآن، ويقصد إلى تاج الجوامع بعد الظهر فيُصلِّي العصر، ويُسقي الماء المُزهَّر، ويستمع لوعظ الوعاظ ودروس الفقهاء.
وكان نسيم الربيع المُنعِش الجميل يهُب على وجهه، فيُحِس بالحياة تملأ نواحي نفسه، والأمل يشيع في جنباتها، وراح ينظر إلى الدُّور حوله وقد علاها السواد من أثر الحريق فبدَت كالأشباح الحزينة، واستعاد في نفسه صورة المدينة الزاهرة الزاخرة قبل أن تُشوِّه جمالَها ألسِنة النار، واستعاد ما يحفظ من شعر قاله الشعراء يتغنَّون بمدحها ويفتنُّون في وصفها، وأخذ يُغنِّي بعض هذا الشعر بصوت خفيض، ويُعيد الغناء:
وبدَت تباشير الفجر، وسمع بعض الديكة تصيح في دار قريبة، ثم سمع صوت المُؤذِّن ينبعث من ناحية مسجد عمرو يدعو الناس للصلاة، فأسرع فتوضأ وخرج يُهروِل نحو المسجد وأدَّى الفريضة، وفي عودته قابَل صديقه أبا الحسن فصحِبه إلى داره، غير أن عبد الرحمن لاحَظ أن صاحبه يُكثِر من الصمت والتفكير، فسأله: ما لك مُكتئبًا يا أبا الحسن؟
فقال أبو الحسن والدموع تترقرق في عينَيه: إن أسد الدين يحتضر.
فارتاع عبد الرحمن وذُعِر لهذا الخبر، فقد رأى أسد الدين منذ أيام قليلة في الفسطاط يجوب أنحاءها، ويتفقد مَبانيها وتجديد الأجزاء التي أكلتها النار من مسجد عمرو، وكان أسد الدين يومذاك صحيحًا قويًّا؛ فلمْ يُصدِّق عبد الرحمن ما سمع، وأعاد جملة أبي الحسن مُستفسِرًا: تقول إن أسد الدين يحتضر؟!
– أجل، فقد أصابه الخناق الليلة، فعادَه ابن السديد طبيب الخليفة، وأنبأنا أنه لا فائدة من العلاج فسيُوافيه الحِمام بعد ساعات.
فأحس عبد الرحمن بالحزن يملك عليه نفسه، ويطغى على قلبه، وقال: مسكين أسد الدين. لقد ناضل كثيرًا، ولم يكد يصل إلى مُبتغاه حتى أدركه الموت. إنه لم يمضِ عليه في الوزارة غير شهرَين.
– ليس المسكين هو أسد الدين؛ فقد أدى واجبه. المسكينة مصر يا عبد الرحمن. من يدري كيف تمُر بهذه المحنة؟ والله لو عاد الأمر للخليفة لتحكَّم رجال القصر وعادت الفوضى إلى البلد.
وسكت الرَّجلان وطال بهما السكوت، ثم نظر أبو الحسن إلى صديقه، وقال: هيا بنا يا عبد الرحمن إلى القاهرة، إني لا أُطيق الانتظار هنا.
وخرج الصديقان وسارا يُسرِعان الخُطى في طريقهما إلى القاهرة، واجتازا باب زويلة وقرُبا من دار الوزارة وإذا بهما يسمعان صراخًا داويًا، وأصوات النعي تملأ الجو حولهما، فوقف أبو الحسن وقال وعبد الرحمن في صوت باكٍ: لا حول ولا قوة إلا بالله. إنا لله وإنا إليه راجعون.
وقال أبو الحسن: رحم الله أسد الدين. فلقد كان والله عفيفًا ديِّنًا كثير الخير شجاعًا جَلدًا شديدًا على الكفار.
وقصدا إلى دار الوزارة فوجدا الكل يبكون الفقيد بعيونٍ تملؤها الدموع، وقلوبٍ يملؤها الحزن والألم لموت الوزير الشهم والقائد البطل، ولبِست المدينة كلها عليه الحداد، وخرج سكان القاهرة والفسطاط جميعًا وراء نعشه يُودِّعونه الوداع الأخير، وكان أشد الناس بكاءً عليه الفقراء والمساكين؛ لما غمرهم به من عطف وبِر وإحسان.
•••
وُورِي الرجل في التراب، وعاد الناس جماعاتٍ يتحدثون عن فقيدهم البطل، ويروون أحاديثه، ويعُدون مَناقبه، ويطلبون له المغفرة والرحمة من ربه، وعاد معهم القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني وحيدًا يذرف الدمع سخينًا على صديقه أسد الدين، وخلا بنفسه في داره حزين النفس مُنقبِض الصدر يُفكِّر ويُقدِّر، ويُعيد التفكير والتقدير، وتذكَّر ماضيه البعيد منذ وفد على مصر؛ تذكَّر أنه أتاها في عهد الخليفة الفاطمي الظاهر يطلب العلم والعمل والرزق، فعمِل أوَّلَ ما عمل في ديوان الإسكندرية، واتصل هناك بكاتب إنشائها الرشيد بن الزبير الأسواني، وكانت تصِل الكتب من الإسكندرية إلى القاهرة مُدبَّجة بيَراعه الصَّنَاع، مما أثار نفوس الكُتاب بديوان الإنشاء في القاهرة؛ فراحوا يدسُّون له لدى الخليفة ويتهمونه بالتقصير، ولكن الرشيد بن الزبير دافَع عنه في إخلاص حتى طلب إليه الخليفة الظافر أن يُرسِله ليكون أحد كُتابه.
وتذكَّر القاضي الفاضل أيضًا أنه اتصل بعد قُدومه إلى القاهرة بكاتب الإنشاء الفذِّ ابن قادوس الدمياطي، فتتلمذ عليه وأخذ عنه طريقته، وكان يُعجَب بشِعره ونثره، وظلَّ يُؤدِّي عمله الحكومي وهو يرقُب الحوادث في مصر دون أن يُدلي فيها بدَلوه، غير أنه كان يتألم أشدَّ الألم للنزاع الدائب المُستمِر بين رجال الدولة ووزرائها.
لقد رأى كيف يقتل بعضهم بعضًا في سبيل السيادة؛ فقتل طي بن شاور العادل رزيك، ثم ملك شاور، فاختصه الكامل ابنه بالرعاية وجعله كاتبه، وقد جرَّت عليه هذه الرعاية الويل والثبور؛ فكانت السبب في سجنه تسعة أشهر مدةَ وزارة ضرغام، فلما عاد شاور أفرج عنه، غير أنه ظل يُقيم في ديوان الإنشاء بين أشواك من الغيرة والحسد والدسائس يُدبِّرها له إخوانه من كتاب الديوان؛ فقد كانوا يتألمون لتفوُّقه عليهم في فن الكتابة، ولتقدُّمه عليهم لدى الخليفة والوزراء، وكان يُحِس في كل لحظة قُربَ أجله؛ لما كان يراه من قتل شاور لرجالات الدولة وزعمائها لاتصالهم بأسد الدين وجيشه، ولولا اتصاله بالكامل لكانت قد وافَته المَنِية منذ سنوات، أجلْ الكامل، رحمه الله وغفر له وكتب له الجنة؛ لقد كان نِعم الرجل، لم يكُن جشِعًا كأبيه، كان أبوه يُفضِّل الفرنج على المسلمين ولكنه كان يُعارِض أباه ويُناضِله كثيرًا في سبيل هذه الفكرة، وإن القاضي الفاضل لَيذكُر لهذا الشاب سعيه المَجيد معه للاستنجاد بنور الدين عندما وصل الفرنج إلى جنوب الفسطاط، وإنه لَيذكُر له ما يتناقله الناس من أطراف الحديث الذي دار بينه وبين أبيه، إذ كان أبوه يُدبِّر المكيدة للقضاء على أسد الدين ورجاله، والكامل يُحذِّره ألا يفعل، ويُنذِره أن يُبلِّغ أسد الدين لو فعل، ويقول ليُقنِع أباه: «لَأن نُقتَل ونحن مسلمون والبلاد بيد المسلمين، خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج.» مسكين هذا الشاب، لقد كان يستحق كل إكرام وإعزاز، ولكن الخليفة جازاه جزاء سِنِمار، فقتله وهو الذي يستحق أن يُمجَّد ويُخلَّد ذِكره.
كانت هذه الصُّوَر تَتابَع على رأس القاضي الفاضل سريعةً يدعو بعضها البعض الآخر، فهي سلسلة تجاريبه ومُشاهَداته ومعرفته بالرجال منذ وفد إلى هذا البلد الطيب، وانتهت به الذكريات إلى يوم أن تولَّى أسد الدين الوزارة فتذكَّره، وقد استدعاه إلى دار الوزارة ليلًا وجلس يستعرض وإياه أحوال مصر ومشروعات الإصلاح التي ينوي تنفيذها، فلما انتهى بهما السمر قال له أسد الدين: إنني أُقدِّر لك أيها القاضي الجليل حسن بلائك في سبيل مصر والإسلام، وقد أطراك عندي كثيرًا صديقي وصديقك الفقيه عيسى الهكاري؛ ولهذا فقد عوَّلتُ على أن أطلبك من الخليفة لتكون كاتب إنشائي.
ولكنه خشي إن طلبه أسد الدين بالاسم أن يشُك الخليفة في أمره فيمتنع أو يكيد له، فقال: أنا شاكر لسيدي القائد حسن ظنه وجميل ثقته، غير أنني أرجو ألا تنُص على اختياري، بل اطلب من الخليفة كاتبًا للإنشاء، وأنا على يقين أنني سأكون كاتبك.
وقد صدق ظنه؛ فإن الخليفة أرسل طلب أسد الدين إلى ديوان الإنشاء، ففرح به كُتاب الديوان أيما فرح، واتفقوا جميعًا على اختيار القاضي الفاضل عبد الرحيم مُحتجِين بأنه أسلسُهم عبارة وأبلغهم قولًا وأجلهم إنشاءً، غير أنهم كانوا يتبادلون القول سرًا: «لِيذهب عبد الرحيم؛ فإنا لَنرى أن أجَلَ هذا الوزير قصير، كآجال الوزراء الذين سبقوه، ولو أنه قُتِل في الغد لقُتِل معه كاتب إنشائه؛ فنستريح منه ومن لجاجه ومُناقَشته.»
واليوم قد تحقَّق ظنهم، فقضى أسد الدين نَحبه وإن كان لم يُقتَل، ولكنه كان يُقيم في داره حينذاك على خوف، يخشى جيش مصر ورجال القصر وأن يثوروا بجيش أسد الدين ويستنجدوا ثانية بالفرنج، ويخشى أن يدِب النزاع في نفوس جند أسد الدين؛ فيختلفون ويتفرق شَمْلهم، ويخشى دسَّ من يحسدونه ويُدبِّرون له المكائد، واستعاد أمام ناظرَيه صُوَر الرجال في مصر وأخذ يُخمِّن: تُرى من يخلُف أسد الدين في الوزارة؟ إن قُواد الجيش المصري مُعظَمهم من العبيد السود ولا فضل فيهم، وقُواد أسد الدين كثيرون، ولكن ليس فيهم غير رجل واحد هو صلاح الدين؛ فإنه يُبشِّر بمستقبل عظيم، فهو شجاع جسور، وهو صريح جريء، وفيه الكثير من صفات وأخلاق أستاذه نور الدين وعمه أسد الدين، ولكن صلاح الدين شابٌّ، وأنداده من القُواد رجال يفوقونه سنًّا وتجارب. فكيف يرضَون به وزيرًا وزعيمًا عليهم؟
ظلَّ القاضي الفاضل يُفكِّر ويُطيل التفكير في هذه الأمور جميعًا، ولم يُوقِظه من هذا التفكير إلا صوت جنديٍّ جاء يدعوه لمقابلة الخليفة العاضد؛ فذُعِر وعاد إليه خوفه ولكنه سرعان ما استعاد شجاعته وعادت إليه رباطة جأشه، وخرج مع الرسول وهو يقول في سريرته: اللهم أعِني بقوة من عندك، ووفِّقني لما فيه الخير لهذا البلد الطيب.
ولشَدَّ ما طغى السرور على نفسه عندما أنبأه الخليفة أنه استدعاه ليستشيره فيمن يراه أهلًا لأن يخلف أسد الدين في الوزارة بحكم اتصاله بجند أسد الدين وقُواده الشهرَين الفائتَين.
ولم يتردد القاضي الفاضل في إعلان رأيه بصراحة وتأييده بقوة وحرص غريبَين، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الجند الوافد قوتُك وعتادك، فاركَن إليهم واختَر منهم وزيرك وعضدك، وكفى ما قاسَيتَ وقاست البلاد من الوزراء الفائتِين، وفي هذا الجند قُواد عظام ذوو بأس وشدة وشجاعة وحسن رأي وإحكام وتدبير، غير أنني أختار لك ابن أخي أسدِ الدين صلاحَ الدين؛ فهو شابٌّ صغير تستطيع أن تصطنعه لنفسك، وتُوحي إليه برأيك، فيكون لك كيمينك تُحرِّكها بإرادتك لتُنفِّذ بها رغباتك، أما من عداه فرجال مُكتمِلو الرجولة كبار السن مُعتدُّون بشجاعتهم وأنفسهم، وما أخشاه إن وُزِّر أحدهم أن يُعيد سيرة ضرغام وشاور، فيستبد بالأمور دون مولاي أمير المؤمنين.
وحاز هذا القول القبول لدى العاضد ورضي عنه كل الرضاء؛ فقد وافَق رغبات نفسه، فقال: رأيك الرأي يا عبد الرحيم، وصلاح الدين هو من كنت أعُد العُدة لاختياره.
ثم أطرق لحظة وقال: ولكنني أخشى يا عبد الرحيم …
وسكت ففطِن عبد الرحيم ما يقصده وقال: أعلم ما تخشاه يا أمير المؤمنين، ولكن دع هذا الأمر لي؛ فإني سأستعين برجل من رجالهم لإقناع قُوادهم بأفضلية هذا الاختيار.
– ومن يكون الرجل؟
– إنه الفقيه عيسى الهكاري؛ فهو قائد منهم يُحِبونه لشجاعته، وهو فقيههم وإمام أسد الدين، فهم يُقدِّرونه لفضله ودينه وتقواه وإحكام تدبيره.
– إنك تُحسِن اختيار الرجال أيها القاضي، إني أعرف هذا الرجل. ألا تذكُر أنه هو الذي حمل رسالة نور الدين إلينا واعدًا بإرسال النجدة الأخيرة؟ إني تحدَّثت إليه، واستمعت منه، وقدَّرته منذ ذلك الحين كل التقدير.
ووقف الخليفة إيذانًا بانتهاء المُقابَلة، وقال: سأُرسِل في الغد إلى صلاح الدين، فأخلع عليه، وأُولِّيه الوزارة، وعليك أنت أن تسعى سعيك لينجح تدبيرك. والله يُوفِّقنا ويرعانا.