نجم الدين أيوب في مصر
كانت الحوادث تَتابَع في مصر، ونور الدين دائم القلق على جيشه فيها، ويشغله الجهاد في الشام، والنضال ضد سلاجقة الروم وأمراء الجزيرة، فلا يستطيع السفر إليها على شدة شوقه إلى ذلك، غير أنه كان كلما أحرز نصرًا وكلما خطا قائده صلاح الدين خطوة في سبيل القضاء على الدولة الفاطمية في مصر، يُبادِر بالكتابة إلى الخليفة العباسي في بغداد مُبشِّرًا ومُهنِّئًا، وأدرك الخليفة أن الحوادث تخدمه من حيث لا يدري، فتأتي على بنيان الخلافة الفاطمية التي تُنافِس خلافته ولا تعترف بها، فأحبَّ أن يُعجِّل نور الدين فيقضي عليها وهي في سكرة الموت، قبل أن تُتاح لها فرصة جديدة فتصحو وتُفيق، فأنشأ يبعث الرسالة تِلو الرسالة يطلب من نور الدين ويُلِح في الطلب أن يُسرِع فيقطع الخُطبة لبني فاطمة ويُعيد الخُطبة في مصر لبني العباس، ووافَق هذا الطلب هوًى في نفس نور الدين؛ فقد كان سنيًّا مُغاليًا في سنيته، يكره الشيعة ويود لو استطاع أن يقضي على دولتهم، فأرسل إلى صلاح الدين يُبلِّغه هذه الرغبة ويحثُّه على تنفيذها، ولكن صلاح الدين كان حريصًا شديد الحرص، أدرك ببصيرته أن هذه الدولة المريضة وإن كانت تحتضر حقًّا، فإن لها أعوانًا ورجالًا؛ بعضهم يُخلِص لها حبًّا فيها، وبعضهم يُخلِص لها لما كانت تُدِر عليه من رزق، فتردَّد ولم يُقبِل، وأرسل إلى نور الدين يعِده ويستمهله.
ولكن نور الدين لم يقتنع، فدعا نجم الدين أيوب ورغِب إليه أن يسير إلى مصر، ليحمل ولده صلاح الدين على قطع الخُطبة للفاطميِّين والدعوة لبني العباس.
وخرج نجم الدين وأبناؤه وأهله من دمشق قاصدًا مصر، فلما وصلها خرج الخليفة العاضد بنفسه في موكبه الفخم يصحبه وزيره الشاب البطل صلاح الدين إلى خارج باب الفتوح لاستقبال نجم الدين، وخرجت العامة راجِلِين وراكبِين بموسيقاهم وطبولهم، وزُيِّنت القاهرة ورُفِعت الأعلام احتفاءً بقُدوم والد الوزير، فلما وصل رحَّب به الخليفة، وأنعم عليه، وأرسل إليه من القصر الألطاف والتُّحَف والهدايا ولقَّبه بالمَلك الأفضل.
ولما انتهت حفلات الاستقبال جلس صلاح الدين إلى والده وإخوته وأهل بيته جِلسةً عائلية هادئة، تسودها المحبة ويُرفرِف عليها الإخلاص، وكان البِشر يطفح على وجهه ويبدو في ابتساماته وحركات يدَيه، وكلمات الشوق التي يُردِّدها مُؤهِّلًا ومُرحِّبًا، وأهله فرِحون به وبما ساقه الله إليه من مَجد وسلطان، يُهنِّئونه ويُكرِّرون التهنئة. فلما مضى من الليل أكثره كان إخوة صلاح الدين وأهله قد آوَوا إلى مَضاجعهم يستريحون مما لاقَوا في سفرهم من نصَب، ولم يبقَ في المجلس غير نجم الدين وولده، فالتفت نجم الدين إلى ابنه وقال: والآن يا بُني، إن سلطاننا المَلك العادل نور الدين لم يُجِب رغبتك ويأذن لنا بالحضور إلا لغرض خاص.
– وما هو يا أبت؟
– أن تُعجِّل فتقطع الخُطبة لبني فاطمة وتُعيد الخُطبة لبني العباس.
فسكت صلاح الدين لحظة وقال: إن هذه رغبتي يا والدي قبل أن تكون رغبة نور الدين، ولكن الأمور مرهونة بأوقاتها، فهذه الدولة يُحِبها أهل مصر.
– ولكنك ذكرت لي مرة في الشام بعد أوبتك أن أهل مصر لا يُحِبونها.
– أجل إنهم يكرهونها ويُحِبونها.
– وكيف؟
– إنهم يكرهونها لمَذهبها ولما لاقَوا من عسف وزرائها، ويُحِبونها لجودها؛ فإن خلفاءها كانوا يبذلون المال دائمًا ويمُدون الموائد للعامة ويُشارِكونهم في مَباهجهم وأعيادهم، والعامة يُحِبون دائمًا أن يعيشوا في رخاء، ولا يَعنيهم بعد ذلك ماذا يعتنق خلفاؤهم.
– وهل تعتقد أنهم يثورون من أجل خليفتهم لو قُطِعت الخُطبة؟
– أنا لا أتوقَّع الشر أو الثورة من أهل مصر، وإنما أتوقَّعهما من حواشي الخليفة وأعوانه ورجال قصره، وقد علمتَ يا والدي ما كان من فتنة زمام القصر مؤتمن الخلافة والجند السودانيين.
– وقد وفَّقك الله ونصركم عليهم.
– أحمد الله أن وفَّقني، غير أنه لم يمضِ إلا شهور على هذه الفتنة حتى وصلتني رسالة من أبي الحسن المصري وهو يُقيم الآن في دمياط، أنه علِم بقُرب وصول الفرنج إلى دمياط وفاءً بوعدهم لمؤتمن الخلافة ورجاله.
– أعلم هذا أيضًا، وقد أسرع مولانا المَلك العادل، فأرسل إليك الأمداد يتلو بعضها البعض الآخر، وسار بمن معه من الجند فدخل بلاد الفرنج وأغار عليها ونهبها؛ ليُعجِّل بعودتهم من مصر.
– شكر الله له صنيعه؛ فإنه لولا هذه الخدمات ما انتصرنا على الفرنج في دمياط.
ثم أطرق صلاح الدين لحظة وقال: ولا يُمكِن أن أنسى أيضًا ما لقيته من الخليفة العاضد من مُساعَدة جليلة؛ فإني ما رأيت أكرم منه يومذاك، فقد أرسل إليَّ مدة مُقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار سوى الثياب والعُدة والسلاح.
– ولهذا أنت لا تُريد أن تقطع الخُطبة باسمه.
فابتسم صلاح الدين وقال: في الحق يا أبت إن هذا الخليفة طيِّب الخُلق وفيه صفات حميدة، وإن كانت له أخطاء، فقد كان الباعث عليها ما أحسه من ظلم وضيق طولَ مدة حكمه وهو تحت سيطرة الوزراء المُتتابِعين، الصالح طلائع وابنه رزيك وضرغام وشاور.
«وهذا أمرٌ نُحِب المُبادَرة إليه؛ لنحظى بهذه الفضيلة الجليلة والمَنقبة النبيلة قبل هجوم الموت وحضور الفوت، لا سيما وإمام الوقت مُستطلِع إلى ذلك بكليته، وهو عنده من أهم أُمنِيته.»
انتهى صلاح الدين من قراءة الخطاب، فطواه في حرص، وأطرق يُفكِّر ويُعيد للتفكير؛ لقد صفا له مُلك مصر بعد جهد أعوام، ونضال جيوش ورجال، وإنه لَيرى من الحكمة أن يحرص على إرضاء أهل مصر ليكسب عطفهم؛ فهو يخشى الآن إن أقدَم على هذا العمل أن يُثير سخطهم، أو يُتيح الفرصة لأعوان الدولة المُحتضَرة أن ينشطوا فينفثوا سمومهم، ويضطر حينذاك إلى بدء النضال من جديد. إنه يعرف أن عددًا كبيرًا من أهل مصر يعتنقون المذهب السني ويكتمونه، ولكنه يعلم أيضًا أن الكثيرين منهم شيعيون، وأن هناك دهاة الدعاة والقضاة ورجال القصر يتربَّصون به الدوائر، ويرقُبون أفعاله عن كثب؛ فإن بدرت منه بادرةٌ تسوء نشطوا إلى الدعوة ضده ونضاله، وربما جدَّدوا العهد مع الفرنج ودعَوهم لنصرتهم، ولكن الخليفة العباسي يُريد ويُشارِكه نور الدين في إرادته، فكيف يستطيع أن يُنفِّذ هذه الرغبة دون أن يُوقِظ الحيَّات التي تعمل في خفاء؟ لقد رأى أن يستشير أعوانه الذين يثق بهم في مصر، فنظر إلى أبيه وقال: لنُؤجِّل هذا الأمر أيامًا يا أبت، حتى نجسَّ النبض ونستشير رَجلًا هنا كالقاضي الفاضل مثلًا.
– لك هذا يا بُني، وإني لأُقدِّر منك هذا الحرص وهذا الحذر. فضحك صلاح الدين وقال: هذا ما علَّمتْنيه مصر. والآن لقد كنت أُحِب أن أُحدِّثكم عن رغبة لي أرجو لو عملتم على تحقيقها يا والدي.
– قُل يا بُني.
– لقد أكرمني الله سبحانه وتعالى ووفَّقني لمُلك هذا البلد، ولكنني أرى أنني لا زلت صغيرًا قليل التجارب، والسيد الوالد قد خبر من الدهر أمورًا كثيرة، وله من حكمته ورجاحة عقله وأصالة رأيه ما يُؤهِّله لهذا المَنصب؛ ولهذا ألححتُ في الرجاء أن يأذن لكم مولانا المَلك العادل بالحضور، لكن مولانا الملك العادل بالحضور كي تتولَّوا هذا الأمر عني.
فأحس نجم الدين بالسرور يملأ عليه نفسه، ويُسيطِر على قلبه لهذا البِر من ولده، وقال: يا ولدي، إن الله لم يختَرك لهذا الأمر إلا وأنت كفء له، فما ينبغي أن نُغيِّر مَوقع السعادة، ولكنني أعِدُك أنني سأكون عونًا لك على تذليل كل ما يعترضك من صعاب.