نهاية دولة
كانت الأيام تمُر سراعًا وصلاح الدين قلِقٌ لا يهدأ، مٌضطرِب لا يستكين؛ فقد أهمَّه حديث والده ورسالة نور الدين التي أمره فيها بقطع الخُطبة للعاضد وجعلها للخليفة العباسي. إنه يُريد أن يُنفِّذ وصية مولاه نور الدين، ولكن الحوادث والمُؤامَرات التي مرَّت أمام ناظرَيه منذ ولي الوزارة، جعلته يتريَّث قليلًا حتى يُعِد عُدته ويتخذ للانقلاب الجديد أُهْبته؛ فقد كان للفاطميِّين أتباع مُنبثُّون في أنحاء مصر، وكانت هناك بقية من أمراء الجيش الفاطمي تَدين للعاضد بالولاء، وكان جنود الجيش من السودانيِّين والأرمن يعتبرون الدولة دولتهم، ويرَون فَناءهم في فنائها، وكانت ثغور الدولة وأسوارها وحصونها مُهدَّمة خرِبة لا تقِف أمام مُهاجِم ولا تصدُّ عدوان مُعتدٍ، وكان المذهب الفاطمي أخيرًا هو المذهب الرسمي، يُلقِّن الدعاة مَبادئه في المساجد.
استعرض صلاح الدين هذه الحالة كلها أمام عينَيه، ورأى بثاقب نظره أنْ يجبُ عليه أولًا أن يقضي على هذه المَظاهر، فإذا وُفِّق كان من اليسير عليه بعد ذلك أن يخطو الخطوة الأخيرة فيقطع الخُطبة للعاضد.
وكان أخوفَ ما يخافه صلاح الدين أن يُجدِّد أمراء الجيش وجنوده الثورة وأن يتصلوا بالفرنج في الشام يستعينون بهم ضده؛ ولهذا بدأ بتفقُّد سور القاهرة فوجده خرِبًا مُهدَّمًا، وقد أصبح كالطريق العام لا يرُد داخلًا ولا يمنع خارجًا، فاستدعى مولاه بهاء الدين قراقوش، ووكل إليه أمر ترميمه وتجديده، وكانت لبهاء الدين إرادة من حديد وعزمة صنديد؛ فجمع العُمال والأسرى والمساجين، ووكل بهم الجنود الأشِداء يعملون ليلَ نهار وهو يتنقل بينهم لا يهدأ أو لا يَني، فلمْ ينتهِ شهران حتى كان السور يُحيط بالقاهرة والفسطاط عاليًا متينًا سليم الجدران قوي البنيان، تعمُر أبراجَه وقلاعه حامياتٌ من الأكراد والأتراك.
وذهب صلاح الدين بعد هذا إلى الإسكندرية، فخرج أهلوها لمُقابَلته والترحاب به، فكان لحفاوتهم أجمل الأثر في نفسه، وجاشَت في نفسه أحاسيس كثيرة مُتبايِنة وهو يمُر في شوارعها وموكبه يشقُّ الجموع المُتراصَّة الفرِحة برؤيته؛ فقد استعاد في تلك اللحظة الأيام السوداء التي قضاها مُحاصَرًا في الإسكندرية في قَدمته الثانية إلى مصر، وتذكَّر الصعاب التي عاناها والمَشاقَّ التي تحمَّلها وهو يُحارِب الفرنج في البحر وجيوش مري وشاور في البَر، ولولا ما لقيه من معونة أهالي الإسكندرية لقُضي عليه وعلى جيشه وقتذاك، وكان صلاح الدين ممن يذكُرون الجميل؛ فأكرم أهله الإسكندرية في زيارته هذه، ونثر عليهم الدراهم والدنانير، وأنعم على أعيانهم حتى انطلقت ألسِنة الناس تدعو له بالنصر والظفَر، وكان صلاح الدين منذ حُوصِر في ذلك الثغر أعرفَ الناس بقلاعه وحصونه وأسواره ونُقَط ضعفها، وما أصابها من إهمال أو وهن؛ ولذلك قضى أيامه في الإسكندرية يُشرِف على عمارة أسوارها وأبراجها وأبدانها، حتى اطمأن إلى قوَّتها ثم عاد إلى القاهرة.
ولم يقُم صلاح الدين في القاهرة إلا أيامًا ريثما أُعِدت قِطَع السفن الجديدة التي أمر بإنشائها في دار الصناعة، ثم حُمِلت تلك الأجزاء على الجِمال، وتقدَّمها بفِرقة من جيشه حتى وصل إلى مدينة تالية، وكانت بها قلعة حصينة للفرنج يُهدِّدون منها الحدود الشرقية لمصر والملاحة في البحر الأحمر، ورُكِّبت السفن وأُنزِلت إلى البحر وشُحِنت بالمُقاتِلة، وهاجَم القلعة برًّا وبحرًا حتى خضعت وأُسِر جميع من فيها، فأمر بترميمها، وملأها بالأشِداء من رجاله، وعاد إلى القاهرة والأسرى في ركابه.
وما انتهى من تحصين العاصمة وتأمين الثغور والحدود حتى التفتَ إلى النواحي الدينية، وكانت سياسته ترمي إلى الفَل من حِدة المذهب الشيعي والحد من قوته؛ بإفساح المجال للمذهب السني ونشره بين الناس وتثقيفهم على أساسه، وكانت لدعاة المذهب الشيعي وشيوخه مَراكز قوية في مساجد الفسطاط والقاهرة، فوجد صلاح الدين أنه من الخَرق في الرأي أن يقتحم على هؤلاء الدعاة والشيوخ مَعاقلهم في تلك المساجد؛ خوفًا من أن تثور المُنازَعات بين أتباع المذهبَين، فيُؤدِّي هذا إلى اضطراب الحالة في مصر، ولكنه اقتدى بمولاه نور الدين ورأى أن يُنشئ في مصر المدارس، ولم تكُن مصر تعرفها من قبل، وبدأ بسجن المعونة القريب من مسجد عمرو بالفسطاط فأحاله مدرسةً للشافعية، ثم أتبعه بدار الغزل فأحالها مدرسةً للمالكية، وحذا حذوَه أقرباؤه؛ فاشترى ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه مَنازل العز بالفسطاط وجعلها مدرسة للشافعية، وأُوقِفت الأوقاف الكثيرة للصرف على تلك المدارس، وأُجزِلت العطايا لمُدرِّسيها وفقهائها وطُلابها؛ فأقبل الناس عليها وبدءوا ينفضُّون عن المذهب الشيعي وأشياخه.
وثنى صلاح الدين بعد هذا فألغى شعار الإسماعيلية وأمر بإسقاط «حي على خير العمل» من الأذان، وكانت هذه التغييرات تحدُث في بطء وكياسة، فلمْ يُحِس بها عامة الناس، ومن أحس بها كان يستنكرها أولًا ثم لا يجد صدًى لاستنكاره فيلوذ بالصمت، والحياة تجرف الجميع في تيارها وتشغلهم بشئونها.
ولم يبقَ أمام صلاح الدين إلا رجال القصر وأعوانه، فبدأ بأمراء الجيش الفاطمي فعزلهم، واسترد منهم إقطاعاتهم، وأبعدهم عن مَنازلهم وقصورهم، وأسكنها قُواده وجنوده، ثم أمر أخاه تورانشاه فتتبَّع الجنود السودانيِّين في الصعيد حتى شتَّتهم؛ فلاذوا بأذيال الفرار وذهبوا إلى بلاد النوبة والسودان.
عند ذلك بدأ صلاح الدين يقصُّ جناحَي العاضد ويسلبه قُواه المادية؛ فقطع عنه إقطاعاته، واستولى على جميع ما كان بيده من البلاد، ثم استولى على القصور الفاطمية ووكل بها وبمن فيها قائده الجبَّار بهاء الدين قراقوش، فتولَّى حراستها بعين لا تغفل؛ فكان لا يخرج منها خارج ولا يدخل إليها داخل إلا بإذنه.
وكان العاضد يرقُب هذه التغييرات كلها دهِشًا مُتعجِّبًا؛ فقد خيَّب صلاح الدين ظنه. إنه اختاره من بين القُواد جميعًا ليكون وزيره؛ لأنه رآه شابًّا صغير السن، فحسِب أنه يكون في يده أداة طيِّعة، فإذا به قد فاق جميع الوزراء السابقين دهاءً ومكرًا، وقوة وجبروتًا. لقد كان له في عهد الوزراء السابقين أثارة من قوة، وها هو صلاح الدين قد قضى عليها وتركه سجينًا في قصره لا يستطيع حَراكًا إلا والعيون ترقُبه من كل مكان، لقد كان له في الماضي جيش وقُواد، وها هو صلاح الدين قد أبعد منهم من أبعد وشتَّت من شتَّت، وأصبح الجيش جيشه، كل قُواده وجنوده من الأكراد والأتراك، لقد كان له منذ ولي الحكم ماله الخاص، وهو سلاح نافع، وها هو صلاح الدين قد سلبه هذا السلاح الأخير، فلمْ يُبقِ له من أيام عِزه الغابرة إلا فرسًا واحدة، وحتى هذه الفرس الأخيرة لم يشَأ صلاح الدين أن يتركها له، فأرسل بالأمس يطلبها، فأجابه العاضد إلى طلبته، ولم يتمالك نفسه بعد خروج الرسول وقد طغَت عليه الآلام وألمَّت به الأحزان، فانفجر باكيًا، وظل على ذلك ساعة من الزمن وهو في بستانه، ثم أحس قُدوم قادم، فمسح دموعه وانقلب إلى غرفته وقفلها عليه، وقد أحس المرض يدبُّ في جسمه دبيبًا.
ونام العاضد في تلك الليلة نومًا مُتقطِّعًا تخلَّلته الأشباح والأحلام المُزعِجة، واستيقظ عند بزوغ الفجر وهو قلِق مُضطرِب مُنقبِض الصدر؛ فقد رأى فيما يرى النائم أنه ذهب إلى قبة الإمام الشافعي، فصلَّى وجلس، وإذا بعقربة مُخيفة قد سعت إليه فلدغته.
قام العاضد من سريره فتوضَّأ وصلَّى الفجر، وأحضر المصحف ولبث يقرأ فيه ساعة من الزمن، فلما هدأت نفسه قليلًا، استدعى أحد رجال قصره، وأرسله إلى قبة الشافعي وأمره أن يُحضِر من يجده بها من الرجال.
ذهب الرسول إلى القبة فلمْ يجد بها إلا رجلًا صوفيًّا غريبًا اسمه الشيخ نجم الدين الخبوشاني فأحضره معه.
وسأله العاضد عن حاله وأخباره، غير أنه وجده رجلًا فقيرًا لا يُنبئ حاله عن شر، فأكرمه وصرَفه.
كان صلاح الدين يتخذ طريقه إلى هدفه على هدًى من بصيرة نفَّاذة وتجربة حكيمة، غير أن نور الدين كان ثائرًا لا يهدأ؛ فهو يُرسِل إليه الرُّسل بعد الرُّسل يستعجلونه الضربة القاضية على هذه الدولة المُحتضَرة وهو يُبدي الأعذار ويستمهل حتى يستكمل عُدته ويُهيِّئ جميع الظروف. فلما أحس أن الظروف قد أصبحت مُواتِية جمع مجلسًا من أمراء جيشه وقُواده وفقهاء السنة ومُتصوِّفيها، وعرض عليهم رسائل نور الدين، وسألهم المشورة والنصيحة؛ فتردَّد البعض وأبدوا مَخاوفهم أن يثور الإسماعيليون وأنصارهم، وتحمَّس البعض الآخر للفكرة وأيَّدوها، ومن عجَبٍ أن أشد الناس مُهاجَمةً للعاضد وطعنًا فيه وذمًّا له، وتحبيذًا لقطع الخُطبة باسمه، كان هو ذلك المُتصوِّف نجم الدين الخبوشاني.
وكثر القول وطال النقاش، وانتهى الرأي أخيرًا إلى أن يترك صلاح الدين تنفيذ الخُطة لأبيه نجم الدين؛ حتى إذا فشلت تدارَك هو الأمر، واعتذر بأن القوم أقدموا دون علمه ومُوافَقته.
وفي يوم الجمعة الأول من المُحرَّم سنة ٥٦٧ ذهب نجم الدين أيوب ومعه جماعة من أصحابه وأمراء دولته إلى المسجد الجامع بالفسطاط، واستدعى إليه خطيب المسجد، فقال له: إن أنت ذكرت هذا المُقيم بالقصر في خُطبتك ضربت عنقك.
فشدَّه الخطيب وعجِب، ثم سأل: فلِمَن أخطب إذن؟
فقال نجم الدين: لمولانا الخليفة العباسي المُستضيء بالله.
وصعد الخطيب المنبر، وقد استولت عليه الحيرة، ونال منه الذعر. إنه إن أطاع أمر نجم الدين فلَرُبما ثار به المُصلُّون وقضَوا عليه، وإن لم يُطِعه عرَّض نفسه للقتل، وألقى خُطبته مُضطرِبًا مُرتبِكًا على غير عادته، وهو لا يدري ما يقول، وأخيرًا هداه الموقف الشائك إلى أن دعا للأئمة المهديين ثم للسلطان المَلك الناصر صلاح الدين، ونزل فصلَّى بالناس وهو لا يكاد يتمالك نفسه من الخوف، فلما انفضَّ الناس دعاه إليه نجم الدين وسأله: لمَ لم تفعل كما أمرت؟
فقال الخطيب مُعتذِرًا: إنني لم أعرف اسم المُستضيء ولا نعوته، فإذا علِمتها دعوت له في الجمعة القادمة إن شاء الله.
وآثَر نجم الدين العفو وخرج فجمع في داره جماعة من الفقهاء، وطلب إليهم أن يختاروا من بينهم واحدًا يتولَّى الخُطبة للخليفة العباسي في الجمعة القادمة؛ فتردَّد البعض، وتخوَّف البعض، وأخيرًا تقدَّم منهم رجل مَوصلي كفيف البصر اسمه الأمير العالم، وقال: أنا لها أيها الأمير.
وخرج به نجم الدين، فصافَحه وقال: بارك الله فيك أيها الشيخ.
ولكنه أدار وجهه وهو يقول في نفسه: «حقًّا إن كل ذي عاهة جبَّار».
وتناهَت هذه الأخبار إلى العاضد في مرضه؛ فأدرك أن الأمر جِد لا هزل، وأن هذه نهاية النهاية، فاشتد به المرض، فكانت تعتريه نَوبات من الغيبوبة، فإذا أفاق جمع إليه أهله وأولاده وطفِق يُقبِّلهم ويضمُّهم إليه وعَبراته تنهمر من عينَيه. لقد آمَن أن دولته ودولة الفاطميِّين قد انتهت، ولكنه أصبح يخشى على أهله وأولاده عَوادي الزمن. فماذا هو فاعل من أجلهم؟! ليس في الأُسرة رجل كبير رشيد يُوصيه بهم خيرًا، ولم يبقَ من أمراء الدولة وقُوادها أحد يعهد بهم إليه، وأخيرًا لجأ إلى ما يلجأ إليه المُضطَر، فأرسل يستدعي إليه صلاح الدين.
وحضر صلاح الدين واستمع إلى وصية العاضد إليه تخرج في كلمات مُتهالِكة مُتقطِّعة؛ أن يرعى أهله وأولاده من بعده، وتأثَّر صلاح الدين لقوله وبكى لبكائه، ووعده خيرًا وانصرف.
واشتدَّت وطأة المرض على العاضد حتى قام لبعض حاجته فعثر وسقط، وأرسل أهله في طلب طبيب القصر ابن السديد فتلكَّأ واعتذر، وعلِم العاضد باعتذاره، فاشتدَّ به الألم وقال: «لقد انفضَّ عني الجميع حتى الطبيب، لم يبقَ في الدنيا إذن خير.» ورفع خاتمًا مسمومًا في إصبعه كان قد أعدَّه لمِثل هذا اليوم، ومصَّه مصَّتَين فاسترخت أعضاؤه، وظلَّ طولَ الليل يتلوَّى من الألم.
وأشرقت شمس يوم عاشوراء على أصوات النعي وبكاء الباكين وصراخ الصارخات والنادبات، يُعلِنون جميعًا للملأ كله موت خليفة ونهاية دولة، دولة سمَت مصر في عهدها إلى أعلى مَراتب العِز والمَجد، وأسمى طبقات الرفاهية والسؤدد.