ريحانة تستغيث بفاطمة
وقفت السيدة أزهار زوج الأمير شمس الخلافة على باب غرفة فاطمة ترقُبها وهي جالسة جِلستَها الهادئة مُرتدِية رداءً أحمر، وتُغطِّي رأسَها عصابةٌ حمراء؛ فبدَت لها وكأنها وردة حمراء جميلة تفتَّحت في الصباح الباكر تدعو القاطفِين بجمالها، وكانت فاطمة تحنو على عُودها وتُحرِّك أوتاره؛ فتنبعث لحركتها ألحان عذبةٌ فيها حنين، فتُجاوِبها بنغمات مُنسَّقة كاللحن.
وهاجَمت أزهارَ أفكارٌ مُتبايِنة سريعة كلها تدور حول فاطمة؛ فهي تراها منذ سنوات كالزهرة الجميلة حان قِطافها، وقد حدَّثت زوجها ليجد لها زوجًا كفئًا، وأقبل الخاطبون فكانت تُحدِّث فاطمة عنهم فلا تجد منها إلا رفضًا وإعراضًا، فإذا ألحَّت عليها أن تُبيِّن لها سبب الرفض كانت تُجيب في مكر دائمًا: إنني سعيدة معك ومع أبي يا أماه، ولا أُحِب أن أُغادِركما لمنزل لا أعرفه، ورجل لا أعرفه.
فتنظر أزهار وتسكت ولكن على مَضَض.
وقد جاءت اليوم تعرض على فاطمة خاطبًا جديدًا، ولكنها مكثت مدةً تُقدِّر وحدَها الحُجَج القوية والبراهين المُفحِمة التي ستهجم بها على فاطمة لتُقنِعها حتى تفوز منها بالقبول، فلما وقفت بالباب تستمع لأغانيها وتُراقِب وجهها المُشرِق وجسمها البَض النامي، ازدادت اقتناعًا بضرورة الإسراع بزواجها، فطرَقت الباب طَرقًا خفيفًا انتبهت له فاطمة، فرفعت رأسها ورأت زوج أبيها تُطِل عليها بوجه مُشرِق باسِم وتُحيِّيها تحية الصباح، فتركت العُود جانبًا وخفَّت إليه مُرحِّبة، وقبَّلت يدها، فمدَّت السيدة أزهار يدها اليسرى ومرَّت بها على شَعر فاطمة الأسود الناعم المُنسَّق، وقد تدلَّى في ضفيرتَين طويلتَين خلفَ ظهرها، وقالت: نَعِم صباحك يا ابنتي، ما هذا اللحن الجميل؟ لقد غدَوت موسيقية بارعة.
فأطرقت فاطمة حياءً، واحمرَّ وجهها من أثر هذا المرح ولم تُجِب، وسكتت السيدة أزهار لحظة، ثم قالت: أتعرفين فيمَ أُفكِّر الآن يا فاطمة؟
فرفعت فاطمة رأسها ونظرت إلى زوج أبيها نظرة سريعة، فلمْ تعرف فيما تُفكِّر، ولكنها خشيت أنها قد تكون أتت لتُحدِّثها عن خاطب جديد غيرِ مَن رفَضت، فقالت: نظراتك اليوم يا أمي لا تُظهِر ما في نفسك.
فضحكت أزهار وقالت: إنني أُفكِّر في وردة جميلة ذات لون أحمر قانٍ بديع، تُغطِّيها قطرات الندى اللؤلؤية الجميلة.
فقالت فاطمة: أنا أعلم يا أماه أنك تُحِبين الورود والرياحين، ولكن هل تُعوِزك الأزهار وبستان قصرنا مملوء بها ولله الحمد؟!
– نعم يا بُنَيتي، صدقتِ، بستان قصرنا مملوء بها ولله الحمد، ولكنني أُفكِّر في وردة فريدة هي خير ما في هذا القصر من ورود، بل أنا أعتقد أنها خير ما في قصور القاهرة من ورود.
فعجِبت فاطمة لهذا الوصف، وقالت: إنك تُبالِغين يا أمي؛ فليس في قصرنا وردة بهذا الجمال وإلا لَضاعت رائحتها، فملأت الأرجاء وعطَّرت الأنحاء.
واقتربت أزهار من فاطمة ووضعت يدها على كتفها، وقبَّلتها قُبلةً تُعبِّر بها عن حنان الأم وإعجابها، وقالت: لا تتغابَي يا فاطمة. إنك الوردة التي أعني والتي ضاع عبيرها — كما تقولين — فجذَب الأنفُس.
فعلا الدم في وجه فاطمة، وغطَّاه بحُمرة خفيفة جميلة، وأطرقت حياءً وقالت: إنك دائمًا تمدحين جمالي يا أمي، وهذا كرَمٌ منك، ولكنني أخشى أن يُداخِلني الغرور؛ فالعَذارى يغرُّهن الثناء.
فمدَّت أزهار يدها، وأمسكت ذقنَ فاطمة، ورفعت رأسها قليلًا، ونظرت إلى عينَيها السوداوَين، وقالت: إنني أصِفك بما فيك يا فاطمة، ولكنني أعجب حتَّامَ يظل هذا الجمال عاطلًا بعيدًا عن الأنظار، بعيدًا عن رَجل يُسعِده وتُسعِدينه؟!
فخجلت فاطمة وقالت: عُدنا إلى هذا الموضوع البغيض إلى نفسي. لقد قلت لك يا أمي إنني لا أرغب في الزواج الآن.
فشدَّدَت أزهار الضغط عليها بيدها، وضمَّتها إليها وقالت: إن الزهرة إذا تفتَّحت يا بُنَيتي وجب قِطافها وإلا ذبلت، وتناثرت أوراقها وضاع جمالها.
– ولكنني لا زلت صغيرة يا أمي.
– لست صغيرة يا فاطمة. كان يجب أن تكوني الآن أمًّا ذات أطفال.
فحارت فاطمة كيف تُجيب؟! وأرادت أن يُنقَل الحديث إلى موضوع آخر، فمدَّت يدها إلى العُود، وقالت: أتُحِبين أن تسمعي هذا اللحن الجديد؟ إنه لحن جميل سمعه والدي فأعجبه، وكنت أُكرِّره قبل مَجيئك؛ فإن ريحانة ستحضر الآن لتسمعه مني كاملًا لأول مرة، ولم تكَد تُتِم كلامها حتى دخلت الخادم تستأذن لريحانة. فوقفت السيدة أزهار، وقالت: فكِّري يا فاطمة في هذا الأمر ثانية؛ فإن الأمير كان هنا بالأمس ليسأل أباك عن رأيه، وأبوك يُريد أن يصِل إلى رأي حاسم قبل أن يُسافِر إلى عمله الجديد في قوص.
فدُهِشت فاطمة وفغَرت فاها، ونظرت إلى زوج أمها، وقالت مُستفسِرة: عمله الجديد في القوص؟!
– أجل، فقد أقطع صلاح الدين قوص لأخيه شمس الدولة تورانشاه، فأناب أباك عنه؛ لِيَلي هذه الولاية، ويبقى هو هنا.
ودخلت ريحانة فانقطع الحديث بين أزهار وفاطمة، وحيَّت السيدة ضيفتها وخرجت، وتركت الفتاتَين معًا تبثُّ كل منهما همَّها لصاحبتها، ونظرت ريحانة فوجدت فاطمة مُطرِقة تنظر إلى العُود في يدها وإلى الأرض نظراتٍ ساهمةً شأنَ من يُفكِّر، فسألتها: فيمَ تُفكِّرين يا فاطمة؟
فرفعت فاطمة رأسها، وتكلَّفت الابتسام وقالت: لا شيء، كنت أستعيد اللحن الذي سأُسمِّعه اليوم.
فلمْ تشَأ ريحانة أن تُحرِجها، وقالت: إلى هذا الحد تشغُفِين بدروس الموسيقى؟ أسمعيني إذن. فأمسكت فاطمة بالعود وحنَت عليه تُداعِبه بريشتها وتُغنِّي:
ولم تكَد تنتهي من العزف حتى حُبِس صوتها وخنقتها العَبرات، ونظرت ريحانة فوجدت الدموع تترقرق في عينَي فاطمة؛ فعجِبت لها، وأبعدت العُود عنها، وأمسكت بيدَيها وقالت: ما هذا يا فاطمة؟ أتبكين؟ ولمَ؟
فأسرعت فاطمة وبلعت ريقها، ونظرت إلى ريحانة وابتسمت وهي تقول: لا شيء، لا شيء. إن هذا يحدث لي دائمًا إذا كنت مُتعَبة؛ فلا تُراعي.
فقالت ريحانة وهي لا تُصدِّق: لا، ليس هذا البكاء من أثر التعب.
وارتبكت فاطمة وحارَت ماذا تقول! إنها هي نفسها لا تعرف سببًا بعينه لبكائها؛ فقد كان اللحن جميلًا حنونًا يُثير الشجَن، وكانت نفسها ثائرة لأمور كثيرةٍ أهمُّها هذا الحديث من زوج أبيها تُعيده كل يوم على مَسامعها وهي حَيرَى لا تعرف كيف ولمن تُفضي بسِرها، وجاءت ريحانة والثورة مُضطرِمة في نفسها، فلمْ تكَد تبدأ اللحن وتُعيده حتى ثارت أحزانها وهاجَت شجونها، فوجدت الدموع تتساقط من عينَيها، ولكنها أرادت أن تنتحل عذرًا تُقنِع به ريحانة حتى لا تُثير شكوكها، فقالت: إنني أبكي هذا القصر الذي سنتركه بعد قليل؛ فإن الأمير شمس الدولة اختار أبي ليكون واليًا على قوص بدلًا عنه.
فقالت ريحانة: وهل في هذا ما يُثير أحزانك، ويبعثك على البكاء؟ إن قصر الأمير في قوص جميل كهذا القصر، ومن يدري؟ فقد يُفضِّل والدك أن يترككم ها هنا ويُسافِر إلى قوص وحده.
ففرحت فاطمة لهذا الرأي، وقالت: بوركت يا ريحانة. والله إن هذه لَفكرة جميلة، وسأطلب من أبي أن يتركنا هنا. ثم سكتت لحظة، وقالت: ولكن من يستطيع خدمته في قوص؟ لا، لا بد من أن أصحبه حتى لو رفض الجميع الذهاب، ولكن دَعينا من هذا.
ونظرت فاطمة فرأت رفيقتها تُخرِج منديلًا، فتمسح به دموعها وهي تقول: رحم الله الخليفة العاضد وطيَّب ثراه، وجعل الجنة مثواه. لقد لقِينا العز في عهده، وسنلقى الضَّيم من بعده.
فقالت فاطمة تُواسيها: لا يا ريحانة، لا تخافي ولا تحزني؛ فإنك ستنعمين بالعز الذي كنت تنعمين به أيام مولانا الخليفة العاضد، فإني أسمع أن صلاح الدين كريم النفس لا يظلم ولا يجور.
– إنه كريم النفس حقًّا، ولكن المُلك وسياسة الملك لا تعرفان كرمًا.
– وما لكِ أنت ولسياسة المُلك؟
– ألستِ من جواري القصر ونسائه؟
– بلى، وما بال جواري القصر ونسائه؟
– لقد سمعت اليوم أن صلاح الدين أمر بإبعاد رجال القصر عن نسائه، وحفظ كل فريق في سجن خاص؛ حتى لا يتصل الفريقان فيتزاوجوا فيلدوا وارثِين للفاطميِّين ومُطالِبِين بالخلافة.
تألَّمت فاطمة لهذا الخبر وحزِنت لحزن صديقتها، ولكنها أرادت أن تُطيِّب خاطرها، فقالت: لا تخشَي شيئًا يا ريحانة؛ فإني سأُحدِّث أبي الليلةَ في أمرك، وسأطلب إليه أن يُبقيك هنا في مَنزلنا.
فقفزت ريحانة فرِحةً كمن أُنقِذ من شرٍّ يُحيط به، وأقبلت على فاطمة تُعانِقها وتُقبِّلها، وتقول: شكرًا لك يا فاطمة وألف شكر. والله لئن فعلتِيها ليكونن ذلك جميلًا لك أذكُره مَدى الحياة.
ولكنها ما لبثت أن وجمت وأطرقت، وراحت تُفكِّر في خشترين، خشترين المُختفي الذي يتوقَّع الموت في كل حين ولا صديق يتصل به ويرعاه، فنظرت إلى فاطمة، وقالت وهي تبكي ثانيةً: وخشترين يا فاطمة؟
– وخشترين؟! وهل هو لا يزال في مصر؟! إنني لم أسمعك تذكُرينه منذ جاء أسد الدين آخرَ مرة.
– أجل يا صديقتي إنه في مصر. فهل تحفظين سِري وسِره إن أنا أنبأتك عنه؟
– قولي يا ريحانة، ولا تخافي.
– علِم خشترين بمجيء أسد الدين، فأيقن أن أجَله قد دنا، ففرَّ إلى قرية البدرشين جنوبَي القاهرة، وتنكَّر في زِي فلاح، واستأجر أرضًا وكوخًا، وظل يعمل في هذه الأرض حتى الآن، وكنت أنتهز الفرص فأتنكَّر في زِي رَجل وأذهب لزيارته بين الحين والحين، فأجده يعيش على حذر لا يكاد يختلط بأحد من الناس، فهو يظن كل عين عالمة بسِره، وكنت أعُد العُدة ليصدر العفو عنه من صلاح الدين، وها أنت ذي ترَين كيف مات الخليفة، وكيف نقرُّ في القصر سجيناتٍ تحت حراسة قراقوش، وكيف سيكون مآلنا بعد أيام.
وبكت فاطمة لبكاء صديقتها، إلا أنها أخذت تُفكِّر في سبيلٍ تُساعِد به ريحانة في مُلِمتها، ورأت أول ما رأت أن تروي الحادث لأبيها وترجوه أن يسعى لدى صلاح الدين ليعفو عن خشترين، ولكنها قدَّرت أن يسألها أبوها وكيف عرفتِ هذا الرجل، ولا بد للإجابة عن هذا السؤال أن تُحدِّثه عن العلاقة بينه وبين ريحانة، وهي لا تجرؤ على هذا.
ثم فكَّرت في عبد الرحمن، ولكن كيف تتصل به وقد قطع أبوها دروسه؛ لكِبَر سِنها، وليحجبها عن أعيُن الرجال توطئةً لزواجها من أحد الأمراء، فهي تُعاني الآن من بُعده، غير أنها امرأة وللنساء إحساس لا يُخطئ في هذه المواضيع، فقالت لريحانة: أتعرفين الشيخ عبد الرحمن القوصي؟
– أجل أعرفه.
– سأكتب له خطابًا أروي له الحادث، وأطلب منه أن يُؤوي خشترين عنده في داره، وتأكَّدي أنه يكون عنده في أمان، وعليك أنت أن تسعَي لدى خشترين لتُقنِعيه بهذا.
فقالت ريحانة: وبعد؟! إنه بهذا ينتقل من سجن إلى سجن.
– ولكنه سيجد من عبد الرحمن صديقًا، وقد نُوفَّق إلى استصدار العفو عنه بعد ذلك، فاترُكي الأمر للمقادير.
•••
قرأ عبد الرحمن خطاب فاطمة فكاد يطير به فرحًا، ولكنه ما لبث أن عاد إليه يقرؤه ثانيةً بعد أن خفَّ ما به من نشوة السرور؛ فصدمته كلمة «خشترين»، ونظر إلى حاملة الخطاب وقال: خشترين لا زال حيًّا ومُختفيًا؟
– أجل.
– وتُريدينني أن أُووِيه في بيتي؟
– لو تكرَّمت.
فصاح مُستنكِرًا: لا، لا يُمكِن أن أفعل هذا أبدًا. وهل نسيتِ ما فعل؟!
فذُعِرت فاطمة وأحسَّت خيبة مَسعاها، فسألته: وماذا فعل؟
وكاد أن يُجيبها، ولكنه عاد فتذكَّر أن فاطمة ترجوه أن يُجيب طلبها إكرامًا لصديقتها العزيزة عليها، وتذكَّر أن هذه أول مرة يتلقَّى فيها خطابًا من فاطمة، وأول مرة تتقدم إليه فيه برجاء، وهي لم تفعل ما فعلت إلا لثقتها الكبيرة به، فهل يرفض رجاءها ولا يكون عند حسن ظنها به؟ ولكنه عاد فتذكَّر أيضًا كيف وشى هذا الرجل بصديقه أبي الحسن عند شاور، وكيف كادت هذه الوشاية أن تُودي بحياة هذا الشيخ المسكين، وهكذا ظل عبد الرحمن في صراع عنيف؛ يهمُّ بالرفض فيبدو له شبح فاطمة من بعيد يُشير إليه في استعطاف أن يقبل، ويُضيف الرجل عنده حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
ونظر عبد الرحمن فوجد ريحانة — هذه الفتاة الجميلة — تقِف أمامه، وتنظر إليه نظرات مُستكينة كلها رجاء وخوف، فاستيقظ في نفسه من يُدافِع عن الرجل والفتاتَين، وأحس كأن إنسانًا يقول له: إن هذا الرجل أصبح غير ذي خطر؛ فقد قُتل شاور الذي كان يعتز خشترين بجاهه، ومات العاضد فانتهت الدولة بموته، فممَّ إذن تخاف؟ حقًّا إن الرجل أخطأ في الماضي وخطؤه جسيم، ولكن كل جسيم يهون في سبيل إرضاء فاطمة.
واقتنع عبد الرحمن بهذا الرأي، فنظر إلى ريحانة ثانية، وقال: سأنسى الماضي يا ريحانة إكرامًا لفاطمة ولك، فليأتِ خشترين، فسيكون هنا وكأنه في داره.
وفرِحت ريحانة وضحكت قائلة: إنني يا سيدي لا أعرف كيف أُوفِّيك حقك من الشكر، ولكنني أرجو أن أُوفَّق يومًا لرد هذا الجميل.