دموع الفرح
انتهى عبد الرحمن من صلاة العشاء، وقام إلى كتبه فاختار من بينها كتابًا، وجلس قريبًا من ضوء الشمعة التي تُنير غرفته وحاوَل القراءة، غير أنه ظل مدة والصفحة أمامه لم تتغير ولم يفقَه لما فيها من معنًى؛ فقد كان شارد الذهن قلِق النفس، يُحاوِل أن يُعيد إلى نفسه الطمأنينة فما يستطيع، وإنه لَيذكُر الآن كيف وفدت ريحانة إلى داره في الصباح الباكر تحمل إليه هذا الخبر المُؤلِم الذي ملأه حزنًا وسلبه الهناء؛ قالت ريحانة إن أميرًا من أمراء الجيش الأيوبي تقدَّم — منذ شهر — للأمير شمس الخلافة يطلب يد فاطمة، فأجابه شمس الخلافة إلى طلبه، ولم تكَد فاطمة تعلم بالخبر حتى رفضت وأصرَّت على الرفض، وأصرَّ والدها أن يُزوِّجها من الأمير، ومَلكَ الألم على فاطمة نفسها، فمرضت واشتد بها المرض، وهي لا تذكُر الآن وهي في غيبوبة الحُمَّى غير عبد الرحمن.
ألقت ريحانة لعبد الرحمن بهذه الأخبار، فاكتنفه الألم وتغلَّب عليه الحزن، وها هو ذا الآن يجلس في داره وحيدًا بعد أن خرج خشترين ليرى ريحانة، وينعم بالجلوس إليها في مكانٍ اتفقا عليه هذا الصباح.
وبحث عبد الرحمن فيمن حوله عن صديقٍ يُفضي إليه بسِره، ويسأله الرأي والنصيحة والعون فلمْ يجد، فكَّر أن يذهب للسلطان صلاح الدين فيبسط له الأمر، علَّه يسعى لدى الأمير شمس الخلافة فيُقنِعه، ولكنه عاد يُسائل نفسه: وكيف أسعى إلى السلطان والذي يطلب فاطمة أمير من أمراء جيشه؟! وفكَّر أن يلجأ إلى الأمير شمس الخلافة نفسه، غير أنه أسرع فنفى هذا الخاطر عن نفسه قائلًا: ومن أكون أنا حتى يُفضِّلني الأمير شمس الخلافة على أمير ذي حَوْل وطَوْل وغنًى وجاه؟
وفكَّر أن يقصد القاضي الفاضل فإن له دالة على صلاح الدين وعلى الأمير شمس الخلافة، ثم إنه لا بد وأن يُقدِّر له سعيه في سبيل كشف المؤامرة، ولكن نفسه لم تقبَل هذا الرأي وقالت: «وكيف تجرؤ أن تُحدِّث القاضي عن هذا السر؟ وماذا تقول؟ إنه موضوع شائك؛ فقد يسألك الفاضل: وما العلاقة بينك وبين فاطمة؟ فماذا يكون جوابك؟!»
وظل هكذا ردَحًا من الوقت يبحث عن الصديق، وكلما لمس الطريق التي يحسبها تُوصِّله إلى بُغيته انبرت له نفسه تُبيِّن له العقبات التي تملأ هذا الطريق وتسدُّ مَسالكه، وأخيرًا تنهد وقال: من لي بأبي الحسن الآن؟ إنه حلَّال المُعضِلات، وهو الرجل الذي أستطيع أن أكشف له عن خبيئة نفسي دون خوف أو حرج.
وطرأت عليه في الحال فكرة غريبة، فطوى الكتاب وقام يجمع مَلابسه، ولكنه سرعان ما نظر إلى الشمعة، فأدرك أن الوقت ليل، وكيف يستطيع السفر إلى دمياط ليلًا؟
وقضى عبد الرحمن ليله ساهرًا، وعاد خشترين، فتظاهَر بالقراءة حتى نام؛ كي لا يُثير شكوكه. فلما سمع أذان الفجر أسرع فصلَّاه في المسجد، ووضع ملابسه على البغلة وركِبها، وودَّع خشترين قائلًا: إلى اللقاء يا صديقي؛ فإني مُسافِر إلى دمياط لزيارة صديقي أبي الحسن وسأعود سريعًا.
واجتاز عبد الرحمن شوارع الفسطاط وشوارع القاهرة، واتجه شمالًا يقصد إلى دمياط، إلى صديقه أبي الحسن.
سبعة أيام طويلة طولَ الزمن كله، قضاها عبد الرحمن في طريقه إلى دمياط، يقضي يومه في المسير بحذاء النيل، ذلك النهر الخالد المُبارَك الغَدواتِ والرَّوحات، يحمل إلى أرض مصر وساكنِيها الرِّي والخصب والخير، وكان يسرح بصره فلا يقع إلا على بساط سندسي، كأنه — كما وصفه عمرو بن العاص — زبرجدة خضراء، لا تُؤنِسه في وحدته إلا أفكاره المُشتَّتة حينَ تُعجَب بما يرى، المُجمَّعة حينًا آخر حول فاطمة وحبه لها، وما يكتنف علاقتهما من ظلمات.
وفي صباح اليوم السابع بدَت له حصون المدينة وأسوارها وقلاعها تشرف عاليةً من بعيد، تحمي هذا الثغر من عاديات الزمن وغارات الإنسان، وتُرفرِف عليها أعلام صفراء، هي أعلام الدولة الأيوبية الجديدة، نُقِشت عليها جملتان هما جماع ما دعا ويدعو إليه الإسلام، هما رسالته إلى العالمين، هما اللتان حمَتا المدينة القديمة وتحميانها قبل أن تحميها هذه الأسوار والقلاع، هما: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله.»
وقرُب عبد الرحمن من المدينة، ودخل من أحد أبوابها، وجاسَ خلال شوارعها وأزِقَّتها.
وبحث وسأل حتى عرف دار أبي الحسن، فطرَق الباب وفتح له خادم عجوز، ودخل فاجتاز رحبة واسعة إلى غرفةٍ مُدَّت فيها أرائك كثيرة جلس على أحدها أبو الحسن، فتقدَّم عبد الرحمن ولم يتمالك نفسه، فأسرع إلى الرجل الهرِم فعانَقه وقبَّله، وقد ارتفع صوته بالبكاء، وصاح أبو الحسن بعد أن وقف وفتح ذراعَيه فضمَّ إليه ضيفه العزيز، وقال: عبد الرحمن، ولدي. أهلًا، أهلًا. عبد الرحمن كيف أنت؟ وظل الرَّجلان يتعانقان ويُقبِّل كل منهما أخاه في لهفة وشوق، ثم جلس عبد الرحمن، وقال: كيف صحتك يا أبا الحسن؟ والله لقد أوحشتنا فما نُحِس للحياة طعمًا وأنت غائب عنا.
– بارك الله فيك يا بُني. إنني لا أستطيع أن أصِف لك فرحي بمَقدَمك. يا مرحبًا، يا مرحبًا.
ودار الحديث بين الرَّجلَين وقتًا طويلًا وأبو الحسن يسأل ضيفه عن القاهرة وأخبارها وعن الفسطاط ومسجدها وداره بها وأصدقائه واحدًا واحدًا.
ثم نظر إلى عبد الرحمن، وقال: إنني أقضي الأيام الباقية هنا مُرتاح البال مُطمئن النفس، وخاصة بعد أن علِمت أن الأمور الآن قد انتقلت إلى صلاح الدين، وأنه يقضي على الحيَّات التي تسعى لتنفُث سُمها. ولكن خبِّرني كيف فعل صلاح الدين بعمارة وصحبه؟
– لقد شنقهم واحدًا واحدًا على أبواب القاهرة.
فأطرق أبو الحسن، وقال: رحم الله عمارة وغفر له. لقد قتله المال.
فقال عبد الرحمن: في الحق أن عمارة كان قد تجرَّأ على صلاح الدين وأهله كثيرًا، وقد أنقذه القاضي الفاضل من الموت أكثر من مرة.
– أجل، إني لأذكُر كيف هجا عمارة تقي الدين عمر بن شاهنشاه، ابن أخي صلاح الدين، بقوله:
فغضِب تقي الدين، وأصرَّ أن يقتله، فأسرع عمارة إلى الفاضل، ودخل عليه داره وهو يصيح:
فضحك منه عبد الرحيم، وشفع فيه حتى عُفي عنه.
فقال عبد الرحمن: ولكنه لم يرتدع، بل ظل يتنقل في أنحاء القاهرة وهو يبكي الفاطميِّين بشِعر حلو جميل يُثير الشعور، ويُعرِّض ببني أيوب في شعره. استمع إلى قوله:
ثم ضحك عبد الرحمن وقال: أتعرف يا أبا الحسن ماذا فعل عمارة بعد أن قبضوا عليه؟
– وماذا فعل؟
– طلب من الجنود أن يمرُّوا به على دار القاضي الفاضل كي يسأله العون والشفاعة لدى السلطان، فأجابوه إلى طلبه. فلما مرَّ بالدار دخل الفاضل وأغلق الباب، فأيقن عمارة بالهلاك، وقال:
ثم أراد عبد الرحمن أن يبدأ فيشكو همه إلى أبي الحسن ويبثَّه حزنه، ولكنه حار كيف يبدأ، وأحس قلبه يخفق خفقانًا شديدًا، فمدَّ يده ووضعها على قلبه وكأنه يُريد تهدئته، فأحس بالقلب الذهبي — الذي قدَّمته له فاطمة يوم خرج إلى الشام بالرسائل إلى نور الدين — تحت أصابعه، فأخرجه وأخذ يعبث به بين أصابعه، ولمح أبو الحسن شيئًا يبرُق في يد جليسه وهو ساكت لا يتحدث، فسأله: ما هذا يا عبد الرحمن؟
فارتبك عبد الرحمن، وقال: هذا قلب ذهبي. ومد يده فأعطاه لأبي الحسن.
وأمسكه أبو الحسن، وقرَّبه إلى نظره، وأخذ يُقلِّبه بين أصابعه، وهمَّ أن يقول شيئًا يُداعِب به عبد الرحمن، ولكنه جفل وهمَّ واقفًا كمن لدغته عقرب، وصاح: عبد الرحمن.
فذُعِر عبد الرحمن، وخشي أن يكون الرجل أُصيب بمكروه، فأسرع إليه وقال: لبَّيك يا أبا الحسن.
– من أين لك بهذا القلب؟
فلمْ يعرف عبد الرحمن العلاقة بين القلب وهذه الحالة التي طرأت على الرجل العجوز، وقال: لقد قُدِّم إليَّ كهدية من شخص عزيز عليَّ.
– ومن يكون هذا الشخص يا عبد الرحمن؟
ونظر عبد الرحمن فوجد الشيخ يبكي، فلمْ يستطِع كتمانًا، وقال: من فاطمة بنت الأمير شمس الخلافة، ولكن ما الذي أفزعك هكذا؟
فلمْ يُجِبه أبو الحسن، ولكنه جلس ورفع القلب إلى فمه، واندفع يُقبِّله في شوق ولهفة غريبَين، وارتفع صوته بالبكاء، فاشتدَّت حيرة عبد الرحمن، وقال: هوِّن عليك يا صديقي، وحدِّثني حديث نفسك؛ فإني أُحِس أنني أثَرتُ في نفسك همًّا دفينًا.
فكفكف أبو الحسن دمعه، وقدَّم القلب إلى عبد الرحمن، وقال: انظر إلى إطار القلب وحاوِل أن تقرأ ما عليه.
فنظر عبد الرحمن فوجد حروفًا مُنفصِلة فوصَلها وقرأها، فإذا بها: هديةٌ من علي المصري إلى حفيدته فاطمة. فقال: إنه معي منذ سافرت إلى الشام، ولكنني لم ألتفت إلى هذه الحروف، فما خبرها؟
– أجل، ما خبرها؟ آه لو كانت هي! فإن الله يكون قد رأف بي في شيخوختي، وعوَّضني خيرًا عن حزني الماضي الطويل. استمع لقصتي يا عبد الرحمن، فإني أُحِس أنك لا تفهم عني شيئًا: كانت أُسرتنا يا بُني في دمياط خيرة الأُسَر وأكبرها وأغناها، وكان جدي لأبي تاجرًا ذا تجارة واسعة، وكان سُني المذهب تقيًّا ورعًا كثير التديُّن، وحدث ذات يوم أن ثار النقاش بينه وبين فقيه شيعي من رجال الدولة الفاطمية، واحتدَّ الفقيه في نقاشه، فسبَّ جدي فلطَمه هذا على وجهه.
ونُقِل الخبر إلى الخليفة الحاكم بأمر الله، ذلك الرجل المُلتاث في عقله المُدعِي الألوهية، فأمر جنده في المدينة، فألقَوا القبض على جدي، وأُرسِل إلى القاهرة حيث قُتِل.
فقال عبد الرحمن: ولهذا كنتَ تكره هذه الدولة البائدة؟
– هذا سببٌ من أسباب كثيرة، فاستمع إلى بقية حديثي: تزوَّجتُ صغيرًا ووُلِد لي ثلاثة أولاد، مات اثنان منهم وبقي ثالثهم، وشبَّ الولد وكبِر وتزوَّج من بنت عمٍّ له كان يُقيم في قوص؛ ليُشرِف على شئون التجارة الصادرة عنا والواردة إلينا من اليمن، ورحل ابني ليعمل مع عمه في تجارته.
واشترى أخي يومًا جارية تركية جميلة، وكان له أعداء من رفاقه التجار؛ فسعَوا لدى شاور وهو والي قوص يومذاك، وبالغوا في وصف الجارية، وأغرَوه بأخذها، فامتنع أخي عن بيعها؛ فأضمرها له شاور، وحرَّض أناسًا اتهموا أخي لديه بمُهاجَمة المذهب الشيعي، والتعرُّض لمَقام الخليفة بالسب والإهانة؛ فقبض عليه وقتله وصادَر أمواله.
وخرج ابني من قوص هائمًا على وجهه ومعه زوجه وابنته، وشاء سوء الطالع أن يُهاجِمه وهو في الطريق جماعة من العُربان فيقتلوه ويسلبوه زوجه وطفلته فاطمة، أجل فاطمة التي أهديتُها هذا القلب يوم ولادتها، واشتدَّ بي الحزن فهاجرت دمياط، وعشتُ في الفسطاط أقضي مُعظَم وقتي في مسجد عمرو، كما كنت تراني أتمنَّى لو أصاب الله هذه الدولة ورجالها بشواظ من نار فقضى عليها.
وثارت أحزان أبي الحسن وهو يحكي قصته فعاد إلى البكاء، وكان عبد الرحمن يُتابِع القصة في شوق شديد، ويعجب فيما بينه وبين نفسه: وما العلاقة بين هذا كله وبين شمس الخلافة وابنته؟
ونظر فرأى أبا الحسن يُقلِّب كفَّيه في حيرة شديدة، ويُحدِّث نفسه: تُرى هل تكون هي؟
فقال عبد الرحمن: تُريد أن تقول إن فاطمة بنت شمس الخلافة هي حفيدتك؟ وكيف يتفق هذا؟
– هذا ما لست أعرفه الآن، فلا بد من سفري إلى القاهرة.
ورأى عبد الرحمن الفرصة سانحة، فأفضى إلى أبي الحسن بما في نفسه، وأنه حضر إليه يستعينه ويطلب مُساعَدته.
فتهلَّل وجه أبي الحسن، وقال: والله لو كانت فاطمة حفيدتي فأنت خير زوج لها.
وأسرع الرجلان وتركا دمياط يُريدان القاهرة، ودخلا على صلاح الدين في دار الوزارة، فرحَّب بهما كل الترحيب، وفرح كل الفرح لرؤية صديقه أبي الحسن بعد هذه الغيبة الطويلة، ولما سمع قصتهما عجِب منها، وأرسل فاستدعى الأمير شمس الخلافة، وقصَّ عليه الرواية كلها، ولشَدَّ ما كانت دهشة الجميع عندما سمعوا شمس الخلافة يقول: إذن فاطمة حفيدتك يا أبا الحسن؛ فلتتخِذني ابنًا لك إذن.
فلمْ يتملك أبو الحسن نفسه من الفرح، وجرى نحو شمس الخلافة، وعانَقه وأخذ يُقبِّله، ويقول: أجل. أنت ابني، أنت ابني. ولكن كيف وصلت إليك فاطمة؟
– لقد تقدَّم إليَّ بها أحد الأعراب، فاشتريتها وربَّيتها إذ لم يكن لي أولاد، وإنها الآن لَأعزُّ عليَّ من كل ما أملك.
وانتقل الجمع إلى دار شمس الخلافة، ودخل الأمير إلى غرفة فاطمة، فمهَّد لهذه الأخبار المُفاجِئة تمهيدًا، ثم دُعي الجميع فدخلوا يتقدَّمهم أبو الحسن الذي أقبل على سرير المريضة، فقبَّلها وهو يقول: شفاك الله وعافاك يا ابنتي وابنة ولدي.
وكتب القاضي الفاضل عقد الزواج بين فاطمة وعبد الرحمن، وانطلقت الزغاريد تُجلجِل في أنحاء القصر، وتقدَّم عبد الرحمن بقلب خافق، فأمسك بيد فاطمة ورفعها إلى فمه فقبَّلها في صمت، ومشى صلاح الدين ليُهنِّئ أبا الحسن وشمس الخلافة، فوجدهما قد أدارا وجهَيهما يمسحان دموعًا طفرت من عينَيهما، هي دموع الفرح!