الصلح
خرج أسد الدين فمرَّ بين صفوف الجند يتفقد شئونهم، ويبعث الطمأنينة في قلوبهم، ويُصدِر أوامره بإعداد المجانيق، وأن يكون الجميع على استعداد تام. وبيْنا هو في ذلك إذ بجندي يعدو على جواده ويقِف أمامه، ويقول: مولاي، لقد أمسكنا بشحَّاذ مسكين مُهلهَل الملابس، يحوم حول السور ويُشير بعصاه للحرس، وهو يُصِر على مُقابَلة سيدي القائد.
– شحاذ يُريد مُقابَلتي؟ غريب هذا! ولكن مصر بلد العجائب!
وقال أحد القُواد: احترس يا مولاي، فقد تكون له نية سيئة، وقد يكون يُخفي سلاحًا ويُريد غدرًا.
فقال الجندي: لقد فتَّشناه يا مولاي، فلمْ نجد معه إلا عصاه التي يتوكَّأ عليها، وهو رجل مُسِن ضعيف.
فقال أسد الدين: أحضِره إلى خيمتي، وسأذهب إلى هناك.
ثم نادى صلاح الدين ليتبعه إلى الخيمة. وجلس أسد الدين في خيمته، ومعه صلاح الدين. وبعد قليل دخل أحد الجنود يقود شيخًا مُسنًّا ذا لحية بيضاء، وعلى عينيه عصابة تُخفيهما، وبيده عصًا يتوكأ عليها، ومَلابسه رثَّة ولكنها نظيفة، وفي قدميه خُفان عتيقان. فقال أسد الدين: تقدَّم يا شيخ. هل لك من حاجة فنقضيها؟
– لا زلتَ مَلاذ كل فقير، ونصير كل ضعيف يا مولاي، حفظك الله ونصرك وأكرمك.
فأحس أسد الدين كأنه سمع هذا الصوت من قبل، وراح يُمعِن النظر إلى مَلامح هذا الرجل، ويبحث في ذاكرته؛ أين رأى هذا الوجه، وأين سمع هذا الصوت؟
وقال: يُخيَّل إليَّ أنني سمعت هذا الصوت من قبل يا شيخ؛ فمن تكون؟
فرفع الرجل العصابة عن عينيه، واعتدل قليلًا في وقفته بعد أن كان مُنحنِيًا، وقال: أجل، لقد سبق أن تشرَّفت أنا بمُقابَلة القائد البطل أسد الدين.
فصاح أسد الدين دهشًا، وقام فمدَّ يده للرجل مُحيِّيًا، وقال: أبو الحسن! أهلًا. أهلًا. تفضَّل فاجلس إننا نَدين لك بالكثير يا صديقي. أين كنت طول هذا الوقت؟ ولمَ لم تتفضل بزيارتنا؟
– شكرًا يا سيدي شكرًا. لستُ أهلًا لكل هذا الإكرام.
– وما هذه الملابس يا أبا الحسن؟ صانك الله من كل ضَيم.
– أنا في خير والحمد لله يا مولاي، ولكن لولا هذه الملابس لما وصلت إلى هنا، ثم تلفَّت حوْله وسأل أسد الدين: هل هناك من يسمعنا؟
– لا يا أبا الحسن، اطمئن فالجنود جميعًا في المَصَف استعدادًا للقتال، فما وراءك؟
– لقد جئتك بالبشرى أيها القائد العظيم؛ فقد ذُعر الفرنج اليوم لما رأوا أعلامهم على أسوار بلبيس، وخافوا على أملاكهم في الشام؛ لأنهم اعتقدوا أن نور الدين قد سلبهم إياها، فتحدَّثوا إلى شاور في ضرورة الانسحاب والعودة إلى الشام. ولا تسَل عن مبلغ هلعه وخوفه عند ذاك؛ فإنه سألهم أن يُمهِلوه ثلاثة أيام ليتدبر في أمره.
– حمدًا لله يا أبا الحسن، لقد كنت أتوقَّع هذا، وماذا ترى شاور فاعلًا الآن؟
– لقد سمعت يا سيدي أنه سيعرض عليكم الصلح.
فنظر أسد الدين إلى ابن أخيه وقال: أرأيت يا صلاح الدين! لقد نجحت خُطة سلطاننا نور الدين. فما رأيك الآن؟!
فنظر صلاح الدين إلى عمه ثم إلى أبي الحسن، وتردَّد قليلًا.
فقال أسد الدين: تكلَّم يا صلاح الدين ولا تخَف؛ فلقد غدا أبو الحسن فردًا منا، فهو يسعى لنصرنا.
– رأيي يا عمي أن نناضل هذا الرجل بعد سفر الفرنج حتى نقتله ونُخلِّص البلد من ظلمه.
وهنا دخل الحاجب وقال: مولاي، حضر الآن إلى المُعسكَر الأمير شمس الخلافة المصري رسولًا من قِبل الوزير شاور.
فارتبك أبو الحسن قليلًا وهمس في أُذُن أسد الدين: لقد حضر يعرض شروط الصلح يا سيدي، ولا بد لي من الخروج من هنا الآن لئلا يراني، فهو يعرفني حق المعرفة.
فسأل أسد الدين الحاجب: وأين هو الآن؟
– إنه ينتظر في خيمة عند باب المُعسكَر.
– إذن، اصحب ضيفنا هذا إلى الخيمة المُجاوِرة، ومهِّد له سُبُل الراحة كلها. ثم أرسل أحد الجند ليصحب الأمير شمس الخلافة إلى هنا.
وخرج أبو الحسن في صحبة الجندي. وبعد قليل حضر شمس الخلافة، ودخل فحيَّا وقال: سلام الله على القائد العظيم أسد الدين، وعلى الشاب البطل صلاح الدين.
فقال أسد الدين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تفضل فاجلس، كيف حال شاور؟ لعله في خير ولعله مُطمئن إلى صحبة أصدقائه الفرنج؟
– إن شاور حمَّلني السلام إلى القائد العظيم أسد الدين، وهو يقول إن قُوى المسلمين في جيشَينا نالها الوهن؛ فمن الخير أن نضع حدًّا لهذا القتال.
– وهل أنا الذي بدأت القتال يا شمس الخلافة؟
– في الحق إن لشاور بعض العذر، ورغم …
فقاطَعه أسد الدين غاضبًا وقال: أي عذر لشاور؟ أله العذر ألا يفي بوعده لنور الدين ويُغرِّر بي؟! أله العذر أن يستنجد بجند أعدائنا الفرنج ليُحارِبنا بعد أن أعنَّاه وأغثناه وأعدناه لمُلكه وقضينا على عدوه؟! أي عذر جئتَ تلتمس لسيدك؟!
وقال صلاح الدين: لقد جازانا شاور جزاءَ سنمار يا شمس الخلافة.
فارتبك شمس الخلافة قليلًا وقال: لقد كنت أريد أن أقول يا سيدي القائد بعض ما لم تعلما من أمر شاور: لقد كان في مَسلكه — رغم كل ما حدث — بعض الخير. إنه يعلم أن جيش الفرنج قوي وكثير العَدد والعُدة، وكان في قدرتهم التغلُّب على جيشكم، ولكن شاور كان يعلم أن في نصرة الفرنج هزيمةً لجندكم المسلمين، ثم إنه كان يخشى أن يفتح الفرنج بلبيس فيطمعوا فيها وفي البلاد بحجة أنهم فتحوها بالسيف؛ ولهذا كان يُثني عزمهم عن القتال دائمًا، وما من يوم كان يمضي إلا ويُنفِذ إلى كبار الفرنج الجملة من المال، ويسألهم أن يدفعوا المَلك عن الزحف والقتال؛ فهو بهذا أدَّى لجيشكم خدمة كبيرة.
فقال صلاح الدين: هذا كلام له خبيءٌ معناه ليست لنا عقول.
وقال أسد الدين: وبعد، إننا نعلم كل ما تُريد أن تقول، ولا داعي لكل هذه المُقدِّمات وهذا المنِّ علينا ولا مَن. إن صاحبك يطلب الصلح، أليس كذلك؟
– إنه يُريد حَقن دماء المسلمين من الجيشَين.
فقال أسد الدين في تهكُّم مرير: حَقن دماء المسلمين؟ هيه، ومتى كان شاور يُفكِّر في دماء المسلمين؟ قُل كلامًا غير هذا.
– لقد سعى شاور حتى أقنع الفرنج بالرحيل، ولكنهم اشترطوا لرحيلهم أن يرحل جيشكم أيضًا.
– ثم ماذا؟
– وهو يُقدِّم للقائد أسد الدين ثلاثين ألف دينار أخرى نفقةً لجنده.
– أيحسبنا شاور أطفالًا تخدعنا ألاعيبه؟ أو ممن يُغريهم بريق المال؟
– لا يا سيدي القائد. إن شاور لا يقصد إلى هذا، إن جنود المسلمين يُقتَلون كل يوم من جيشنا وجيشكم، وفي هذا تقوية للفرنج. فإن كان القائد العظيم أسد الدين بطل الإسلام المُخلِص الأمين لا يقبل قول شاور، فإني أتوسَّل إليه أن ينظر إلى صالح المسلمين وصالح الإسلام، وأن يتناسى حقده على شاور في سبيل هذا الصالح.
وكأن شمس الخلافة كان يضرب على الوتَر الحسَّاس، ويُحدِّث ناحية الضعف بل ناحية القوة في أسد الدين. فخفَّت حِدته قليلًا، وأخذ يُفكِّر في مَوقفه، ومَوقف جيشه في مصر؛ فوجد أن جيشه لم يعُد في قوة تُمكِّنه من النضال، وخشي إن هو رفض شروط الصلح أن يعدل الفرنج عن الرحيل ويُهاجِموه في عنف، لتنتهي مَهمَّتهم في سرعة ليعودوا إلى بلادهم، ورأى أخيرًا أن من الخير أن يقبل هذا الصلح وينسحب من مصر، ولكن ليعود إليها أوفرَ سلاحًا وأكثر جندًا وأقوى عُدة.
فالتفت إلى شمس الخلافة وقال: لصالِح المسلمين قبِلتُ الصلح لا لشاور. ولكن لي شروطًا فإني أخشى الغدر، والمؤمن لا يُلدَغ من جُحر مرتين.
– مُر يا مولاي.
– إني أشترط أن يُسافِر الفرنج أولًا ثم أتبعهم أنا بجيشي.
– وهل يُنفِّذ سيدي القائد ما يقول؟
فأجاب أسد الدين في سخرية لاذعة: لست شاور يا شمس الخلافة. أنا أسد الدين، وإذا وعدت فإنني أفي ولو كلَّفني الوفاء جيشي ونفسي.
•••
وفي اليوم التالي أذِن أسد الدين لجنده بالراحة والنزهة أنَّى شاءوا، فخرجوا جماعاتٍ وانبثُّوا في أنحاء المنطقة المُجاوِرة، واختلطوا بجند الفرنج يتسابقون ويتبارون ويتحدثون. وخرج أسد الدين على جواده مُستروِحًا وبيده لتٌّ من حديد ومعه بعض قُواده، والمسلمون والفرنج يرمقونه بأنظارهم إعجابًا وتقديرًا. فتقدَّم إليه جندي من الفرنج وقال: أيها القائد العظيم، أما تخاف هؤلاء الفرنج وهم يُحيطون بك وبجندك، ولو أقدموا الآن لقبضوا عليكم؟
فنظر إليه أسد الدين نظرة المُعتَز بشجاعته وقوته وقال: ليتهم يفعلون! فإني والله كنت أضع السيف فيهم فلا أقتل حتى أقتل رجالًا، ثم يقصدهم المَلك العادل نور الدين فيُفني من بقي منهم. والله لو طاوَعني هذا الرجل شاور لخرجت إليهم فأفنيتهم جميعًا.
فذُعر الفرنجي وخاف وصلُب على وجهه وقال: والله لقد كنا نعجب من فرنج هذه الديار ومُبالَغتهم في وصفكم، والآن قد عذرناهم. ونظر الجندي إلى رفاقه وقال: هلُموا بنا.
فابتسم أسد الدين ونظر إليه نظرة الرجل الكبير إلى الطفل المغلوب على أمره.
•••
وبعد أيام خرج الفرنج مُسرِعين إلى بلاد الساحل، ورحل أسد الدين بجيشه بعدهم بثلاثة أيام، وقد عقد الأمل على العودة سريعًا إلى مصر لتأديب شاور، ورفع الظلم عن كاهل أهل مصر ومُلكها. أجل ومُلك مصر؛ فقد كان أسد الدين طموحًا ذا نفس عالية لا ترضى بالدُّون ولا تقنع بالقليل.