بين شاور وأبي الحسن
كان شاور وحيدًا في غرفته بدار الوزارة يُفكِّر ثائرًا: كيف يجرؤ هذا الرجل الصعلوك — مُعلِّم الصبيان — على الاتصال بأسد الدين؟ ويسأل نفسه: تُرى لماذا كان يذهب هذا الرجل إلى مُعسكَر أسد الدين، ويُقابِله في خيمته الخاصة على انفراد أكثر من مرة؟
لا بد أنه كان ينقل إليه أخبارنا. ونظر من النافذة المُطِلة على القصرَين والميدان بينهما: تُرى ما الذي أخَّر الجند؟ أيكون الرجل قد فرَّ فهم يبحثون عنه؟
وهكذا كان شاور يضطرب بين أفكاره، وقد أقلقه الانتظار وضايَقه. وبعد مدة رأى الجند يتقدمون نحو الدار، وبينهم شيخ طويل وقور، انحنت هامَته قليلًا، يمشي في تُؤدة وهوادة واطمئنان. فجلس على أريكة في صدر الغرفة ينتظر قدومهم. وبعد لحظات دخل أبو الحسن يحرسه الجند الذين قبَّلوا الأرض بين يدَي الوزير وانصرفوا.
وقال أبو الحسن: السلام عليك أيها الوزير.
فقال شاور مُحتدًّا: لا سلَّم الله عليك، أيها الرجل الخائن.
فقال أبو الحسن في هدوئه المُعتاد: ليست هذه تحية الإسلام أيها الوزير. قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا.
– لستَ أهلًا للتحية. أتخوننا وتُريد لنا السلام؟ قل لي أصحيح أنك كنت تزور أسد الدين في مُعسكَره؟
– صحيح.
– وتعترف أيضًا! والله لأُذيقنك من العذاب ألوانًا. ولماذا كنت تذهب إلى هناك؟
– كان لي أصدقاء كنت أذهب لزيارتهم.
– ما شاء الله! رجل عظيم! صعلوك، مُعلِّم صبيان، له أصدقاء في جند أسد الدين. بل أسد الدين نفسه صديقه يُقابِله في خيمته على انفراد.
فرفع أبو الحسن رأسه شامخًا بأنفه وقال في ازدراء: أما وقد وصل بنا الحديث إلى هذا الحد فاسمع يا شاور: لستَ أنت الذي تقدر الناس حق قدرهم. إن أكرمكم عند الله أتقاكم، هذا ميزان الرجال عند الله سبحانه وتعالى. فقل لي من تكون إذن؟
فاحتدم شاور غيظًا وتقدَّم نحو الشيخ أبي الحسن مُهدِّدًا وعيناه تنطقان بالشر.
– لقد زدت عن حَدك يا شيخ النحس. والله لآمُرن بقتلك ولتكونن جيفة تنهشها الكلاب.
فضحك أبو الحسن وقال: لست أُبالي إن أتى الموت كيف أكون ولا أين تُلقى رُفاتي.
– لستَ تُبالي؟ ستري. لأُذيقنكم العذاب ألوانًا حتى تعرف من شاور.
– أنا أعرفك جيدًا يا شاور، وكل مصري يعرفك. وكم من بريء ذاق طعم ذلك، وكم من مسكين قضيتَ عليه بظلمك وغدرك! أنت هنا في سياج من القصور والجند والشيعة الذين لا يردُّون إليك ولا يصدرون عنك إلا وألسنتهم تلهج بآيات حمدك ومدحك. تخطَّ هذا السياج وأزِح عنك هذه الملابس التي تُميِّزك، وأبعد عنك هذا الجند الذي يُرهِب ويُرعِب، وامشِ في الأسواق وتحدَّث إلى الناس واستمع إليهم؛ تعرف من أنت. إن أهل مصر يئنُّون من ظلمك وظلم أهلك وجندك. إنهم يُنزِلون عليك السخط ليلهم ونهارهم؛ لأنك استنجدت بالفرنج أعداء دينهم وجرَّأتهم على بلادهم. هؤلاء أهل مصر وهذا أنت يا شاور.
وهكذا أحس أبو الحسن في نفسه قوة غريبة تنساب في عروقه، فاندفع في مُهاجَمة شاور بهذا الكلام الجريء، فكان يهدر كالجَمل، ويُلقي بالجملة بعد الجملة وكأنها السهام تنفذ إلى صدر شاور، حتى بُهت الرجل وفغر فاه، ونظر إلى الشيخ مشدوهًا وكلماته تتزاحم في رأسه وترسم له صورة من سخط العامة المكبوت.
فلما رآه أبو الحسن صامتًا لا يَريم راح يُكمِل حديثه أكثر عنفًا واستهتارًا من قبل: ثم تلومني لاتصالي بأسد الدين. وما جريرة أسد الدين؟ هل هو كافر من الكفار؟ هل هو عدُو من الأعداء؟ أليس هو الذي سار بجيشه وحارَب وضحَّى بالكثير ليُعيدك إلى دَست الوزارة؟ فلما عدتَ إليها غدرت به واستنجدت بأعدائه وأعداء بلادك ودينك ضده؟!
وهنا غلا الدم في عروق شاور، وأحس كأن هذا الشيخ الضعيف يكشف عنه مَلابسه قطعةً قطعة، ويُظهِر سوءاته للناس أجمعين؛ فصرخ فيه صرخة الأسد: اسكت. اسكت يا أشأم الشيوخ وألعَنهم. لقد تجرَّأت على مقامي ومقام الوزارة.
وهمَّ بإشهار سيفه وقال: والله لا يُسكِتك إلا هذا السيف، يطير بهذه الرأس إلى الجحيم، إلى سقر، إلى أسوأ المَواطن وشر الأماكن.
وهنا دخل الحاجب يستأذن لكاتب الإنشاء القاضي الفاضل، فأذِن له.
ودخل القاضي الفاضل وبيده بعض الأوراق فرأى ما أفزعه؛ رأى شاور كالأسد الثائر يُرغي ويُزبد، ويشتم ويلعن، وقد أشهر سيفه في يده. وفي آخر الغرفة عند الباب الشيخ أبو الحسن واقف في وقاره المعهود وهدوئه المألوف، وعلى فمه ابتسامة فاترة تنطق بكل معاني الاستخفاف والازدراء والسخرية. فعلِم أن الأمر جِد خطير وقال: سيدي الوزير، لعلي جئت في وقت غير مُناسِب، أو لعلي جئت في الوقت المُناسِب. هل يتكرم مولاي الوزير فيُخبِرني عن سر غضبه.
فقال شاور وصدره لا يزال يعلو ويهبط من أثر الغيظ: إن هذا الشيخ اللئيم بلغت منه الوقاحة أن يُهاجِمني بكلمات بذيئة، فيتَّهمني بالظلم والغدر.
فقال القاضي الفاضل: هدِّئ من ثائرتك أيها الوزير. إن هذا شيخ كبير، وللكبار دالة على الصغار، فهم يعتبرونهم كأبنائهم، وقد تكون للسان زلات.
– إنك لم تسمع ما قاله يا عبد الرحيم. إنني أُفكِّر في أشر الوسائل لتعذيبه، فالقتل عقاب هيِّن.
فقال أبو الحسن: هل كلمات الحق تُغضِبك إلى هذا الحد أيها الوزير؟ أنا لم أُعوِّد لسناني غير الصدق. هل كان جميلًا لدَيك أن أكيل لك المديح أصنافًا وألوانًا لأستدرَّ عطفك وأنال عفوك؟ لو كانت لي بُغْية في الحياة لفعلت، غير أني شيخ عجوز خبرتُ الحياة، وذقتُ عَذبها وعلقهما، وطعمت خيرها وشرها؛ فوجدت أن الخير لا يزور إلا لمامًا، وأن الشر إذا زار لا يترك المرء إلا حطامًا. فإن كنت تُريد قتلي، فقد انقضت حياتي، ولم يبقَ من العمر قدر ما سلف، ولست أحرص على ما بقي.
فنظر القاضي الفاضل إلى أبي الحسن كمن يقول له صه، وقال لشاور: أيها الوزير العظيم، أنت أهل لكل مكرمة، وأبو الحسن لا يُريد كما يقول إلا النصح، وقد تكون الألفاظ خانَته؛ فهو لم يعتدْ مُعاشَرة الملوك والوزراء والتحدث إليهم. فدعْ هذا الأمر الآن حتى تخفَّ حِدة غضبك؛ فإني جئتك في أمر هام.
– وما هو يا عبد الرحيم؟
– أتى رسول من مَلك الفرنج، يحمل رسالة مختومة هذه هي.
وقدَّم ورقة ملفوفة إلى الوزير.
فقال شاور: رسالة من مَلك الفرنج! ولمَ لم تُخبِرني منذ حضرت؟ ونادى الحاجب، فقال له: خُذ هذا الرجل وألقِ به في السجن حتى أطلبه.
فخرج أبو الحسن وهو يقول: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ.
ونزع شاور الختم وبدأ يقرأ الرسالة في لهفة، وسرعان ما بدتْ علامات الغضب على وجهه، وألقى الرسالة إلى جانبه وقال: أرأيت، أرأيت يا عبد الرحيم؟ ها هو أسد الدين قد أعدَّ جيشًا جديدًا وخرج من دمشق، وسيأتي عن قريب لغزو مصر ومُقابَلتنا.