مقدمة
كلُّ ثورةٍ دليلُ حيوية … والشباب هو الجزء الحيوي في الجسم؛ فلا عجبَ أنْ يقوم بالثورة الشبابُ. وقلَّما تكون هناك ثورةُ شيوخ؛ لأنَّ الشيخوخة هي تناقُص الحيوية.
والثورة ما دامتْ متصلةً بالحيوية، فلا بد أن تكون منشِّطة لهذه الحيوية ومجدِّدة لها، وإلَّا اتخذَت اسمًا آخر هو «الهوجة».
والفرق بين «الثورة» و«الهوجة» هو أنَّ «الهوجة» تقتلع الصالح والطالح معًا … كالرياح الهوج تطيح بالأخضر واليابس معًا، وبالشجرة المثمِرة والشجرة الصفراء جميعًا. أمَّا «الثورة» فهي تُبقي النافع وتستمدُّ منه القوة … بل وتصدر عنه أحيانًا، وتقضي فقط على البالي المتهافِت، المعوِّق للحيوية، المُغلِق لنوافذ الهواء المتجدِّد، الواقف في طريق التجديد والتطور.
ولكنَّ المسألة ليست دائمًا بهذه البساطة؛ فالثورة والهوجة تختلطان أحيانًا، إنْ لم يكُن في كلِّ الأحيان. فالثورة كي تؤكِّد ذاتها وتُثبت أقدامها؛ تلجأ إلى عنفِ الهوجة لاقتلاع كلِّ ما كان قبلها … وتجعل بدايةَ كلِّ خير هو بدايتها، وتاريخ كلِّ شيء هو تاريخها.
ولا يتغيَّر هذا الحال إلا عندما تشعُر الثورة بصلابة عُودها، وتوقن أنَّه قد أصبح لها وجهٌ واضح وشخصيةٌ متميِّزة ومكانٌ راسخ في التاريخ العام … عندئذٍ تنبذ عنها عنصر الهوجة وتأنف منه، وتعود بكلِّ اطمئنان إلى تاريخ الأمة العام لتضع كلَّ قيمة في مكانها الصحيح، وتضع نفسها في الحجم المعقول، داخل إطار التسلسل الطبيعي لتطور أمَّة ناهضة.
إذا عرفنا ذلك، كان من الميسور أن نفهم حركات الأجيال الجديدة، أو ما يسمَّى اليوم بثورة الشباب.
ما من أحدٍ منَّا لم يشعُر في شبابه برغبةٍ ما في الانطلاق عبْرَ بعض القيود … ذلك مظهر من مظاهر الحيوية والحركة والتحرُّر وتأكيد الذات. ولكي نؤكِّد ذاتنا ونُبرز شخصيتنا الخاصة، كان لا بد لنا من الانفصال عن شخصيةِ السَّلف … ووسائلنا في ذلك مفتعلة كوسائلِ كلِّ ثورة في صِباها، وهي الرفض لكلِّ ما يقوله السَّلف.
ولكنْ في أيامنا نحن لم تكُن الهوَّة سحيقةً كما هي اليوم بين الآباء والأبناء؛ فلم يكُن العالَم قد شاهد بعدُ حروبًا عالمية، ولا مخترعات جهنميَّة، كان كلُّ شيء مستقرًّا في قوالبَ جامدةٍ وصناديقَ مختومة، والدنيا هادئةٌ نائمةٌ تغطُّ في عادتها المرعية وتقاليدها المقدَّسة.
ولكننا اليوم في عصرٍ مستيقِظ، يموج بالتغييرات المستمرة والتحرُّكات الفكرية والعلمية والسياسية التي تسبق كلَّ خيال، ما من شيءٍ راكد، أو يُسمح له بالركود … وما من شيء مقدَّس، أو يُسمح له بعدم الخضوع للبحث والمناقشة.
ووسائل الاتصال بين العالم من إذاعات وتلفزيونات وأقمار صناعية، قد جعلَت الأفكار في تحرُّرها وجموحها وسموِّها وانحطاطها في مُتناوَل كلِّ شخص.
مثل هذا العالم اليوم، ما تأثيره على الشباب الذي يريد أن يؤكِّد ذاته، ويكون له رأيٌ في تحقيق شخصيته ودورٌ في تشكيل المستقبل؟
ذلك كلُّه يجب أن نَعِيَه ونضعه في اعتبارنا ونحن نواجه الشباب اليوم، ومن واجبنا أن نُبصِّره أنَّه إذا كان من حقِّه أن تكون له ثورة؛ فواجبه أن يعرف الفرق بين الثورة والهوجة … عليه أن يدرس ما يُبقيه ويحافظ عليه ويضيف إليه، وما يُلقيه وينبذه ويطرحه بعيدًا عن طريق نموه وتطوره وزمنه الجديد.
والحذر كلَّ الحذر أنْ نواجه الشباب في كلِّ حين بالوعظ والإرشاد، أو أن نترك الجوهر ونحادثه دائمًا عن المظهر، ونظنَّ القيامة قد قامت لاختياره شكلًا من أشكال اللبس أو نمطًا من أنماط شَعر الرأس. وننسى أننا في شبابنا في مطلع القرن، كان الشباب حتى من المعمَّمين يختارون ألوان الجبب والقفاطين زاهيةً فاقعةً من اللون الليموني الفاتح إلى البنفسجي والفستقي. أمَّا الشباب من المُطَربَشين، فكانوا يتَّبعون في شكلِ سراويلهم كلَّ جديد مُستحدَث، من البنطلون الضيِّق اللاصق، إلى المتَّسع «الشارلستون»، إلى المتَّخذ صورة القمع. وكانت السوالف تارةً والشوارب المدبَّبة تارةً أخرى، ثم بدعة الشارب الحليق التي قيل يومئذٍ إنها تخنُّث وتشبُّه بالنساء، فأصبحَت اليوم هي القاعدة العامة السائدة بين الكبير والصغير … كل هذه أشياءُ لا يليق بعصرنا الحاضر أن يُعيرها اهتمامًا … وإنَّ الكبار عندما يجعلون منها قضيةً يَظهرون أمام الشباب بمظهرِ السخافة والتفاهة، ويفقدون في الحال الثقة والجديَّة والاعتبار.
نحن الآن في عصر الفكر المتحرِّك، ولا أمل في مواجهة ثورة الشباب إلا بوضعها في إطار الفكر والعقل والجوهر.
فلْنترك للشباب حريَّته في اختيار الشكل الخارجي والداخلي لحياته كما يفرضها عليه زمنه الجديد، ولا نطالبه إلا بشيء واحد، هو الإحاطة المتعمِّقة بحصيلة هذه الحضارة التي أوجدتْه ورضع من لبانها؛ ليحافظ ويُنمي ويُضيف إلى خير ما فيها، ويطرح ويغيِّر ويمحو ما فيها من شرٍّ وزيف … لأنَّ مستقبل هذه الحضارة في يده هو وحده … وصورتها غدًا سوف تكون كما يتصوَّرها هو ويصوِّرها، فلْتكُن إذن للشباب ثورة.
ولكنْ يجب أن يذكُر دائمًا الفرقَ بين «الهوجة»، و«الثورة».