حلقات الأجيال
«الأجيال تتماسك في الأمم، كما تتماسك حلقات السلسلة الفقرية في الأجسام.»
الدنيا حلقات! … كلُّ جيلٍ يجب أن يمدَّ يده إلى الجيل الذي يليه! … إذا تمَّ ذلك في أمَّة فقَدْ صحَّ كيانها واستقام، شأن الجسم السليم بسلسلته الفقرية المُتماسِكة، وإذا لم يتمَّ ذلك فنحن أمام كائنٍ سقيم، انفصلتْ حلقاتُ وجوده وانفصم عمودُ ظَهره، ولم يعُد يصلح للبقاء! … وإذا كان من واجب القادة أن يرسلوا البصر إلى خمس سنوات أو عشر إلى الأمام، يعدُّون خلالها برامج الإنتاج؛ فإنَّ من واجبهم أيضًا أن يعدُّوا الرجال الذين يَخلُفونهم في مراكز القيادة! … بهذا لن تكفَّ عجلة التقدُّم عن المسير!
والإنتاج الفكري ككلٍّ إنتاجٌ يجب ألَّا يشذَّ عن هذا المبدأ، وعلى المفكِّرين أن يرسلوا، هُم قبل غيرهم، ذلك النظرَ البعيد إلى حياة الفكر في خلال ما يستقبل من أعوام، وأن يعدُّوا الأمر، ليحتلَّ غيرُهم ما احتلُّوا من مقاعد، وأن يمهِّدوا الطريق أمام المواهب الجديدة، لتظهر وتُزهر وتُؤتي ثمراتها! … فإنَّ السؤال الذي يجول دائمًا في الخواطر هو: ما الذي سيحدُث في العشرة أو العشرين عامًا المقبلة؟ … هل الأمل معقودٌ على طائفةٍ من الأدباء يمكن أن تبرز بنوبتها في الصفِّ الأول؛ لتَمضي في رفع مِشعل الأدب والفكر في هذا البلد؟! أو أنَّه كما يقال: «ليس في الإمكان أبدع ممَّا كان؟!»
رأيي أنَّ إمكان الإبداع ممتدٌّ في كلِّ أوان! … فالإبداع شيءٌ حيٌّ متحرِّك في الزمان والمكان، لا يتعلَّق بالماضي وحده، ولكنَّه كالشجرة يمتدُّ ويتطوَّر في مختلف الفصول، يبدِّل ويغيِّر في أوراقه وفي مظاهر إيناعه وإثماره، ماضيه متصلٌ بحاضره، وحاضره مرتبطٌ بحبل مستقبله! … إنَّ المجهودات تُبنى فوق المجهودات … والمواهب تنبع من المواهب، والإبداع يؤدِّي إلى إبداع … والثمرة تخرج منها الثمرة، وكلُّ هذا في فلك يدور، ولا ينفكُّ عن الدوران إلى آخِر الأزمان!
ونحن — إذا جُلْنا اليومَ في حديقة الأدب العربي الحديث — وجَدنَا أشجارًا مملوءةً بعصير الحياة، يانعةً بأزهار الفنِّ، لا ينقُصها إلَّا أن ننظُر إليها بعين الرضا، وأن نتخيَّل ما ستكون عليه غدًا من سُموقٍ وارتفاع؛ فلا شيءَ يُفسد الحديقة ويُقْفِرها ويُفْقِرها، مثل أن نرى دائمًا أشجارها شُجيرات، لن تكون يومًا ضخمةَ الجذوع وارفةَ الظِّلال! … يجب أن نروِّض عيوننا على أن ترى الأشياء والأشخاص في غَدِها — لا في حاضرها وحده — وأن نعرف كيف نقرأ المستقبل من خلال سطور الحاضر! … إذا استطعنا ذلك، فما من شكٍّ أننا واجدون في مختلف فروع الأدب أقلامًا، سيكون لها من الصَّدارة والقيادة في الأعوام العشرة أو العشرين المقبلة، مثلما كان لأصحاب الصَّدارة والبُروز في العشرة أو العشرين عامًا الماضية!
فحديقة الشباب تزخر بأزهارٍ طيِّبة الأريج، لا سبيلَ هنا إلى تَعداد صنوفها وألوانها! … وكلُّ ما أردناه هنا هو أن ندعم الأمل في غدنا الأدبي، وأن نتساءل عن واجبنا إزاءَ هذه النُّخبة من أعلام الغد — أولئك الذين يُمسكون بطرَف الخيط من وجودنا ليصبحوا غدًا امتدادنا — وأن نحاسب أنفسنا، نحن الذين تقدَّمناهم في حلقة الزمن، عمَّا صنعناه من أجلهم، وعمَّا يجب أن نصنع بالوارثين لنتائج جهودنا! … قبل كلِّ شيء يجب أن نعلم: أهُمْ حقًّا في حاجة إلينا؟ … وأيَّ نوعٍ من المعونة هُم مفتقرون إليه؟ … أهو مجرَّد اهتمامٍ بأعمالهم؟ … ما من شك في أنَّ الاهتمام خيرُ نافخٍ في همَّة الفنَّان؛ فإن الفنان لا يصبر طويلًا على الإنتاج لنفسه! … إنه يعمل كي يسمع لعمله صدًى … إنه زهرةٌ تعيش بأشعةٍ من نظرات الناس! … أخيرًا كانت تحمل تلك النظرات أم شرًّا؟ إنَّ الفنان لا يهدمه الذمُّ ولا القدح بل يدعمان وجوده. إنما الذي يهدمه حقًّا «الإهمال»! … كفنه منسوج من العنكبوت، ومدفنه تحت غبار النسيان، ومن خيرة الفنانين من توهَّم أنَّه مُهمَل فدفن فنَّه حيًّا، وانطلق يجِدُّ في عملٍ آخَر من أعمال الدنيا، لا صلة له بأدبٍ، ولا بفنٍّ؛ فخسره الفنُّ والأدب!
لا بد إذن من التنويه بأعمال الفنانين والأدباء، وإشعارهم، من حينٍ إلى حين، أنَّ رسالاتهم إلى قلوبنا وعقولنا قد وصلتْ، وأننا لجهودهم شاكرون، ولمزاياهم عارفون! … ولكنْ ما هي الطريقة؟ … ما من شكٍّ في أنَّ علينا نحن أن نصنع شيئًا من أجل الذين جاءُوا بعدنا! … لطالما اتُّهمنا بالأثَرة والانصراف عن مساعدة الآخَرين، وربما كان في هذا الاتِّهام بعضُ الصواب؛ فقد شُغلنا عن ذلك زمنًا … لا عن أثَرةٍ وحُب ذات، بل لتوهُّمٍ طبيعي أننا نستطيع أن نحمل في الأدب كلَّ الأعباء!
ولعل هذا من دوافع العمل المشروعة؛ أن نتصوَّر أنه لن يتمَّ شيءٌ إلا بأيدينا نحن! … فلقَدْ جاهدنا كثيرًا، وأنفقنا أغلب العمر في التكوين والإعداد واستكمال الأداة الفنية؛ كما لو كنَّا نحن وحدنا المنوط بهم فتْحُ الحصون وبناء القصور!
ولكنَّ الحياة علمتْنا أننا لن نستطيع أن نفعل أكثر من شقِّ طُرق ووضْعِ أُسس، وعلى غيرنا أن يبني! … شُعورنا اليوم شعور مَن يولد له الولد على كِبَر! … إنَّه يُفيق فجأةً على نظرةٍ أخرى إلى الأشياء؛ إنه لن يرى نفسه مركزَ دنياه، المسئُول وحده عن الرسالة … ولكنه يرى دنياه حلقاتٍ يكمِّل بعضها البعض، ويرى أن صغيره لم يُولدْ عِبئًا، بل خُلِق ليُكمل شيئًا لن يستطيع هو إتمامه، وأنَّ عليه منذ اليوم واجبًا آخر غير مجرَّد الإنتاج؛ عليه أن يُعِين خَلَفه على الوقوف على قدمَيه، ليحمل «بدوره» رسالته على منكبَيه!
غير أنَّ المشكلة التي تحيِّرنا دائمًا هي: وسيلة المعونة! … أهي في تجنيب الجيل الجديد أخطاءنا؟ … أم هي في إشعاره بأخطائه؟ … أهي في إعداده قبل الظهور؟ … أم في إظهاره قبل الإعداد؟! … ثم أولئك الذين قطعوا في فنِّهم شوطًا، وظهروا بعض الظهور، وبدتْ مواهبهم متألِّقة كقِطَع النور، أعلينا إزاءَهم واجب؟ … ما هو؟ … وما السبيل إلى الوفاء به؟ … إنَّا جميعًا لعلى استعدادٍ أن نؤدِّي واجبنا، ولن نُحجم عنه أبدًا إذا عرفنا الوسائل وملكنا الأسباب!