شبَحُ جيل
ذهبتُ إلى شارع «بلبور»، ذلك الحي النائي من أحياء «باريس» — حيث كنتُ أُقيم بعد الحرب العالمية الأُولى — فماذا وجدتُ؟ … وجدتُ الشارع الضيِّق كما كان، ووجدتُ حُجرتي، كما كانت، مفتوحةَ النافذة على الفضاء الواسع، وأعترف أنِّي تأثرتُ، وشعرتُ برجفة؛ فقد خُيِّل إليَّ أنِّي أرى شخصًا في النافذة، شخصًا أعرفه، شابًّا نحيلَ الجسم، أسودَ الشَّعر، يُرسل البصر إلى الأفق البعيد، كأنما يريد أن يهتك حُجب الغيب؛ ليطالع ما خُط في لوح قدَرِه! … ولكنَّ القدَر — فيما يبدو — ما كان قد خطَّ حرفًا واحدًا في اللوح! … إنما وقَفَ مُمسِكًا به ينتظر — ينتظر الرسم الذي خطَّه الشابُّ لحياته! … نعم، لقد كان ذلك الشابُّ قد وضَعَ لحياته شِبه «خريطة» واضحة المعالم، دقيقةِ التفاصيل! … كان قد طرَحَ في مصر مهنة المحاماة والقانون؛ ليَمضي في حَمْل القلم، ويقول للناس أشياءَ، يعتقد أنَّها قد تنفعهم! … وما كان يريد غير ذلك، ولا يطمع من حياته في غير ذلك — فلا الجاه العريض كان يُغريه، ولا مفاتن الحياة كانت تستهويه، ولا الثراء كان يجذبه أو يقنعه أو يُرضيه!
وعندما يضع «إنسان» لحياته خطة، فإنَّ «القدَر» أحيانًا يأخذ وينفذ!
لذلك تقدَّم «القدَر» فيما يظهر، إلى الشابِّ وتسلَّم منه الرَّسم، ونقله إلى لوحه وهو يهمس باسمًا: ما دمتَ أنت «المهندس» الدقيق لبناء حياتك، فلن أكون أنا غير «المقاول» المنفِّذ الأمين!
ولقد برَّ «المقاول» فعلًا بالوعد … وأتمَّ العمل … وأقام البناء طبقًا للرسم … لا أكثر ولا أقلَّ.
•••
وددتُ لو أستطيع أن أسأل ذلك الشاب الذي تخيَّلتُه في النافذة: أيُعجبك هذا البناء؟!
لم أتلقَّ بالطبع جوابَ ذلك الشابِّ! … ولستُ أدري بماذا كان يُجيب في مثل سنِّه؟ … ولكنِّي سمعتُ الجواب من أعماق نفسي أنا: لا … لا يُعجبني.
وهنا … خيِّل إليَّ أنِّي أسمع «القدَر» يقول بنبرةِ تهكُّم: الذنب ليس ذنبي … لقد نفَّذتُ ما تسلَّمتُ … إن كان هناك عيبٌ فهو عيب الرسم!
فقلتُ له في الحال: اطمئنَّ … ما من أحد يتَّهمك أنت … ما من شكٍّ في أنَّ المسئُول هو ذلك المهندس «الغشيم»!
فقال مزهوًّا: عندما يترك لي، أنا القدَر، مهمَّة الرَّسم، فإنِّي أفعل المعجزات؟
فقلتُ له: بالتأكيد … ولكنْ ماذا تقول في أولئك الأغرار الذين يتصدَّون للهندسة ووضع الخرائط، فيحبسون حياتهم داخل رسمٍ خيالي … لا يستطيعون منه خروجًا أبَدَ الدَّهر؟!
فقال: مهما يكُن خيال الإنسان فهو لن يُطاول خيالي! … أستطيع أن أدُلَّك على عشرة تعرفهم، ولا شكَّ أنَّهم اليوم من أصحاب الملايين. أحدهم كان حُوذيًّا في عرَبَّة نَقْل، والآخر بائعًا جائلًا من باعة «الخردوات»، والثالث عاملًا في حانوت فواكه … وهلمَّ جرًّا … ما من واحدٍ منهم وضَعَ لحياته خطة، أو تخيَّل لمصيره رسمًا! … تركوا كلُّهم لي أنا مهمَّة الرَّسم، وعهدوا إلي بهندسة بناء حياتهم فصنعتُ لهم ما لم يخطر لأحدٍ منهم على بال!
فقلت له: ماذا صنعتَ لهم؟
– أقمتُ بناء حياتهم، على أعمدةٍ من الذَّهب!
– أعطيتَهم المال؟!
– نعم … أغرقتُهم في المال!
– نعم! … أغرقتَهم!
قلتُها هامسًا، وأنا أهزُّ رأسي، تلك الهزَّة الطويلة التي تطوي التهكُّم المستتر!
فقال «القدر»: ماذا تقصد؟ … ألَمْ أُعطِهم أكثرَ ممَّا كانوا ينتظرون؟
فقلت على الفور: هذا صحيح؛ لأنَّهم ما كانوا ينتظرون من الحياة أكثر من ذلك.
فقال متخابثًا: وماذا في الحياة أكثر من ذلك؟!
فقلتُ باسمًا: ألا تعرف أنت؟!
فقال: أتعرف أنت ضوءًا أشدَّ من وهج الذَّهب؟!
فقلت في الحال: القلوب الصغيرة هي التي تُضاء بالذهب، أمَّا القلوب الكبيرة فلا تستطيع جبال الذهب أن تُضيء أرجاءها وأعماقها!
فقال: أنا الآن إذن في نظَرِك مهندسٌ ومقاوِل من نوعٍ رخيص.
فقلت: أنت مهندسٌ ومقاوِل، اعتاد أن يرسم ويُقيم البيوت الصغيرة!
لقد تبيَّن لي الآن أنَّ البيوت الكبيرة لا يرسمها غير أصحابها!
فقال بخبث: ولماذا شكوتَ الساعةَ إذن من بناء حياتك؟!
فقلتُ مُطرِقًا: لأنَّ الشابَّ الذي وضع الرسم، كان حسَنَ الظنِّ، واسعَ الخيال، لقد خطَّ على صفحة ذهنه بيتًا كبيرًا … كبيرًا جدًّا، لم أستطع أنا أن أملأه أو أتَّخذ مكاني فيه! … إني حبيسُ قصرٍ رحب. لم يستطع إيماني، ولا جهدي، ولا قدرتي، أن تَشغَل كلَّ قاعاته وأبهائه.
•••
قلتُ ذلك وانصرفتُ خارجًا من شارع «بلبور» بعد أن ألقيتُ نظرةً أخيرة على شبَحِ الشابِّ الواقف في النافذة، وهمستُ: وداعًا! … عفوًا … لم أستطع أن أفعل أكثر من ذلك! … لعلَّك أنت الذي بالغتَ في التفاؤل!
ومشيتُ في الطريق الذي كانت تُقام فيه السُّوق كلَّ أسبوع، ويذهب إليها الشابُّ ليحمل مُؤْنته من الأرز والبيض، ويُنفق «الفرنكات» القليلة، التي لا يملك غيرها على مدى الشهر الطويل، ولكنَّه كان سعيدًا؛ لأنَّه ما بالطعام وحده يعيش الإنسان! … نعم، كان سعيدًا، بالأمل الذي يلمع في الأفق كأنَّه نجم!
ما تغيَّر شيءٌ في ذلك الحيِّ القصيِّ، إلا ذلك النجم الذي اختفى والأفق الذي غشَّاه الضباب!