بين جيلَين
جاءني ذاتَ صباح أديبٌ شابٌّ … وقدَّم إليَّ روايةً مصرية ألَّفها ونشَرَها في كتاب … وهو مزهوٌّ فخورٌ مُنتعِش، كشجرةٍ آتتْ ثمارها، فحملتُ كتابه في يدي بعنايةٍ وحنان … أقرأ العنوان … ثم شرعتُ أقلِّب بعضَ الصفحات، وإذا حركةٌ بالباب تبلُغ أذنَيَّ؛ فرفعتُ عيني فوجدتُ فتاةً لطيفةَ المَظهَر، أنيقةَ المَلبَس، مُشرِقةَ الوجه، وضَّاحة الجبين، تستأذن وتدخُل وتجلس، قبل أن تمنحني وقتًا لردٍّ أو جواب، ولم تنتظر منِّي كلامًا؛ فَقَد انطلقَتْ هي تقول بلسانٍ فصيح وجَنَانٍ ثابت: إنِّي قارئةٌ ساخطة ثائرة … جئتُ أوجِّه إليك سؤالًا واحدًا: ماذا تصنع الآن؟ … مضى العام تلوَ العام، دون أن يَظهَر لك كتابٌ في السُّوق؛ أهي الصحافة التي شغلتْك؟
وأشارت بيدها إلى جوِّ الحياة الصاخبة الذي يُحيط بمكتبي!
•••
والْتفتُّ إليها لأُجيب … ولكنَّ الشابَّ سبقني صائحًا بحماسة: أمِنَ الضروري أن يؤلِّف هو وينشُر؟ … أليس في الدنيا كتبٌ أخرى جديرةٌ بالقراءة تظهر في كلِّ حين؟
فنظرتْ إليه الفتاةُ دهِشةً، ثم نقلتْ بصَرَها إليَّ كالمتسائلة.
فوجدتْني أهزُّ رأسي مُوافقًا مُصادقًا مُؤمنًا … فعادتْ إلى الشابِّ قائلةً: إنِّي أسأله هو عمَّا يشغله؟!
فقال الشابُّ بقوةٍ وتدفُّق: ما لنا وما له؟ … فلْيشغلْ نفسه بأيِّ شيءٍ، خيرًا من أن يملأ مائتَين أو ثلاثمائة صفحة، يجعلها قصةً يتقدَّم بها في كلِّ موسم … حتى يُقال إنَّه دائبٌ على الإنتاج … ما كان أسهل عليه أن يكرِّر نفسه! … ويُخرج حلقاتٍ لا تنتهي على نمط «عودة الروح» أو «عصفور من الشرق» أو «الرباط المقدَّس» أو «المسرحيات الاجتماعية والذهنية»، أو يستغلَّ على الأقلِّ كتبَ التاريخ، يستخرج منها قصصًا لا تَنفَد، وينشر في كلِّ موسم ما تشائين ويشاءُ أمثالُكِ، لمجرَّد النشر أو الكسب أو إثبات الوجود أو إظهار النشاط!
– أتراه يستنكف من فعل ذلك؟ … أو لا يرى له جدوى؟!
اطرحي عليه هذا السؤال … ها هو ذا أمامكِ!
•••
فالْتفتتْ إليَّ الفتاة لحظةً، ثم انصرفتْ عنِّي يائسةً إلى الشاب: إنه يهزُّ رأسه دائمًا … أجِبْ أنت!
– ولماذا أُجيب عنه؟ … ولماذا تصرِّين على الكلام في شأنه؟ … إذا أردتِ فإنِّي أحدِّثكِ عن نفسي … فأنا ولا شكَّ مُلمٌّ بكلِّ تفاصيلها، وأنا أديبٌ ومؤلِّف وروائي و…
– عجبًا! … ولكنِّي لم أجِئ لأتحدَّث إليك!
– هذا خطأ منكِ أيتها الآنسة! … لو كنتُ مكانكِ لسألتُ توًّا عمَّن يكون هذا الشابُّ الموهوب الذي تدخَّل في الحديث بهذه الشجاعة، وطلبتُ أن يقدِّم إليَّ … وأن يحدِّثني عن كتابه الذي ظهَرَ حديثًا؛ لأطمئن على أنَّ الأدب بخير … سواءٌ ألَّف صاحب هذه الحُجرة أو لم يؤلِّف … ونشر كتبًا أو لم ينشر، وعاش أو لم يعِش؟!
– إنَّها حقًّا لشجاعة، بل جُرأة! … إنك تتدخل على نحوٍ …
– لا تنظُري إلى «صاحب الحُجرة»! … إنه لن يُنقذك منِّي، ولن يتكلَّم … ولن يبتَّ برأيٍ … إنَّه كما ترَين يُجيبكِ دائمًا بهزِّ رأسه!
– هذا صحيح! … وأنت، هل تعرفه منذ زمنٍ طويل؟
– أعرفه منذ خمس عشرة سنة … كنتُ يومئذٍ في الخامسة عشرة وكان أهلي في البيت يتحدَّثون عن «عودة الروح»، ولكنِّي لم أحفل بقراءتها شخصيًّا إلا عندما بلغتُ العشرين … في ذلك الوقت نشأتُ مع كثيرين من أقراني في الجامعة وشباب جيلي، وشببتُ معهم وهم يلغطون ويتناقشون في الرواية المصرية الطويلة التي شقَّ طريقها … ويُقسمون بحاسَّة الصِّبا أنَّهم سوف يُمضون في هذا السبيل، ويُخرجون يومًا رواياتٍ مثلها وخيرًا منها عن حياتنا القومية، وقد برَّ بعضُهم بوعده، ونشَرَ قصصًا على جانبٍ كبير من الطَّرافة والإتقان! … وأستطيع أن أُؤكد لكِ — أيتها الآنسة — أنِّي أحدُ هؤلاء النابغين! … أقولها بكلِّ صراحة وبكلِّ تواضُع.
– إني متأكِّدة من صراحتك وتواضُعك، وعلى الرغم من كلِّ شيء، ثقْ أنِّي بدأتُ أهتمُّ بأعمالك … ولكنْ، ألا تسمح لي قبل ذلك أن أعرف شيئًا قليلًا عن الأمر الذي جئتُ اليومَ من أجله؟!
– تفضَّلي! … ماذا تريدين أن تعرفي؟
– السؤال بالطبع ليس موجَّهًا إليك … أردتُ أن أعرف كيف يترك فنَّه العالي، لينزل إلى الكتابة في الصُّحف!
– والله لقد حيَّرتموه! … إذا ارتفع بفنِّه قُلتُم كيف لا يهبط إلى الناس: يشعُر بشعورهم، ويدرس أحوالهم، ويعرف أنباءهم، ويَعرض شكاواهم، ويدافع عن حقوقهم! … فإذا فعَلَ عُدتُم فقُلتُم: أين العُزلة التي يكتب فيها لطائفةٍ من الخاصة؟ … نصيحتي لكِ أيتها الآنسة ألَّا تُلقي هذه الأسئلة السخيفة! … لا تُؤاخِذيني! إنَّ مَن يكتُب لمئات الألوف، ويستطيع أن ينفعهم بعض النفع ويرتفع بهم بعض الارتفاع، لهو رَجلٌ يؤدِّي خدمةً عامَّة!
– وفنُّه؟!
– ما من فنَّان يستطيع أن يُهمل فنَّه وإن أراد! … ولعلكِ تخلطين بين الفنِّ وبين إنتاج الكتب في كلِّ موسم! … تخلطين بين الفنان والمعلِّم، وبين المُنتِج والتاجر! … ماذا تسمِّين ذلك الذي يسكت عندما ينبغي له السكوت … عامَين أو ثلاثةً أو خمسةً أو عشرةً، يدرس خلالها نفسه من جديد، ويزِنُ تأمُّلاته، ويختزن تجاريبه، ويُراقب أحوال الناس وتطوُّرات المجتمع … ويراجع أعمالنا القديمة، ويبحث — صامتًا صابرًا — عن طرائقَ للتعبير الفنِّي جديدة! … إنَّ النشر يا آنستي سهلٌ، ولكنَّ الصعب هو البحث الطويل في الظلام! … لعلكِ تجِدِينَه الساعةَ مشغولًا بالبحث عن نوعٍ من الفنِّ، لا علاقة له بكل ما عالج من قبل … «الفنُّ طويل والحياة قصيرة»! … تلك كلمة «جوته» المشهورة!
إنَّ من يريد أن يُمسك بتلابيب «الفنِّ» … في حياته المحدودة يجب أن يقفز فوق كلِّ تكرار لا غناء فيه! … وأن يركض خلف سرابه في كلِّ طريق حتى القبر!
•••
وسكت الفتى، ونظَرَ إليَّ كأنَّه يُسائلني: هل أصبتُ؟ … فتلقَّى منِّي الجواب هزَّة من الرأس أيضًا … أمَّا الفتاة فقَدْ أكبرتْ كلام الشابِّ الأديب، وقالت: اسمح لي أن أُبدي إعجابي بفهمك للفنِّ … وأن أسألك كتابك! … فإنِّي مُشوَّقة إلى قراءته … في أيِّ المكتبات أجِدُه؟
– آسفٌ كلَّ الأسف يا آنسة … إنِّي لم أجِئ هنا إلا بنسخةٍ واحدة … ولكنْ إذا أذِنتِ فإنِّي أُرافقكِ الآن إلى أقرب مكتبة، وأقدِّم لكِ نسخةً مُمضاة … ألديكِ ما يُبقيكِ هنا الساعة؟
– لا داعي لبقائي، نستطيع أن نذهب توًّا!
ونهضتْ في الحال وحيَّتْني تحيةً سريعة، وانصرفتْ … ونهَضَ الشابُّ لينصرف في أثرها بعد أن حيَّاني هو الآخر تحيةً سريعة، ولم يكَدْ يبلغ العتبة حتى بدا له رأيٌّ، فعاد أدراجه إليَّ واقترب منِّي. هامسًا راجيًا: المكتبات الآن مُغلَقة … أكونُ شاكرًا لو تفضَّلتَ، ورددتَ إليَّ هذه النسخة لأُهديها إليها الآن! … أمَّا أنت فسأُحضر لك نسختك في وقتٍ آخَر … إنَّ المستقبل أولى من الماضي!
فما تمالكتُ أن مددتُ إليه يدي بالنسخة … وأنا أغمز له بعينِي راضيًا باسمًا: صدقتَ! … وإنِّي لأراه مستقبلًا مُشرِق الوجه، وضَّاح الجبين!