مسئولية أدباء الشباب
نحن اليومَ على أبوابِ مرحلةٍ من مراحل الأدب العربي الحديث. مرحلة يُوشك أنْ يتسلَّم فيها أدباء الشباب المِشعَل الذي يُضيء للمستقبل، وهي مسئولية لا ريب في أنَّهم قد بدءُوا يشعُرون بوِقْرها على كواهلهم، ولذلك جعلوا يعرضون لمشكلاتٍ جديدة، ظنُّوا أنَّ من واجبهم أن يقطعوا فيها برأيٍ حاسم، فكان أنْ تجادلوا في أمرِ اللغة الفُصحى والعامية، وأدب المجتمع، والفنِّ للفنِّ … إلى غير ذلك من الموضوعات التي لا ينتهي فيها حديثٌ ما دام بابها قد فُتح.
ولا بأسَ من الحديث في هذه الشئُون، ولا ضررَ من تصارُع الآراء في ميدان الأدب والفنِّ والفكر، فكلُّ هذه المناقشات منتهيةٌ بإذن الله في ضمير الفنَّان الحقِّ، إلى زبدٍ يذهب جُفاءً؛ لأنَّ الفنَّان الحقَّ لا يُصغي إلى كلام، ولكنَّه يعكف على عملٍ. وما من رأي في الأدب والفنِّ، كان له قيمة بمفرده، ولا يعيش الرأي إلا من خلال الأثَر.
اصنعْ أولًا الأثر في الأدب والفنِّ، وهو يتكلَّم لك عن آرائك أمام الأجيال، لذلك لن تكون لكلِّ تلك المناقشات، وكلِّ تلك الآراء — ما دامت طائرةً في الهواء، ولم تصاحبْها أعمال — قيمةٌ تنفع الناس وتمكُث في الأرض … العمل القيِّم هو كلُّ شيءٍ في الأدب والفنِّ؛ الخَلْق الإنشائي هو وحده الباقي الراسخ بما نُفخَ فيه من رُوح الحياة الباقية.
وهنا يأتي سؤالٌ: ما هو العمل القيِّم؟ … أهو المكتوب بالفُصحى أم المسجَّل بالعامية؟ … أهو الذي يُخاطب الخاصَّة أم الذي يُكتب للعامَّة؟ … أهو الأدب للحياة أو هو الفنُّ للفنِّ؟
إذا الْتمسنا الجوابَ عند الآداب الكبرى العالمية؛ فإننا نجِدُ فيها لكلِّ مذهبٍ من هذه المذاهب مكانَه المُعترَف له فيه بالقيمة والبقاء.
فالعمل القيِّم هو العمل القيِّم وكفى.
ومع ذلك يجب أن نحاول قليلًا تحديدَ معنى القيمة في العمل الفني، وهو أمرٌ شاقٌّ، فلْأحاول على كلِّ حال؛ أظنُّ أنَّ قيمة الأثر الفني مردُّها من حيث الشكل: إلى الكمال والإتقان والقدرة والتمكُّن، حتى عندما يلجأ الأديب الفنَّان إلى استخدام لغةٍ عامية؛ فهو لا ينبغي له أن يلجأ إليها لعجزٍ أو لهروب، بل لتفوُّقٍ واقتدارٍ، ورغبةٍ فنية في إحكام التعبير، هكذا فعَلَ «روبرت لويس ستفنسون» وهو من أبلغ الشعراء الإنجليز كتابةً بالفصحى عندما جعَلَ البحَّارة يتحاورون بلُغتهم العاميَّة المُستبهَمة، وهكذا فعَلَ «شارلز ديكنز» وهكذا فعَلَ «جورج دي كورتلين».
القدرة والتمكُّن والإتقان والطَّمع في الكمال … تلك هي صفات الأثر القيِّم من حيث الأسلوب والشكل. أمَّا من حيث الموضوع، فأبرز الصفات اللازمة هي: الإنسانية، هي كلُّ ما يؤثِّر في الإنسان، في كلِّ زمانٍ ومكان، وما يدفعه إلى السموِّ بنفسه، وما يخطو بمجتمعه إلى مصيرٍ أفضل … كلُّ ذلك في إطارٍ من المتعة الفنية الرائعة الراقية الباقية.
الإتقان والإمتاع والإنسانية … تلك أهمُّ صفات الأثر الأدبي والفني في نظري.
فمَن أنتج في الأدب أو الفنِّ عملًا غيرَ مُتقَن في أسلوبه الفني ولا مُحكَم في تعبيره الأدبي؛ فقَدْ وقَعَ في العجز الشكلي.
ومَن صنَعَ عملًا لا متعة فيه ولا روعة؛ فقَدْ صنَعَ شيئًا آخَر غير الأدب والفنِّ.
ومَن صنَعَ عملًا مُتقنًا مُمتِعًا رائعًا، ولكنَّه فاقدُ المعنى الإنساني والفكرة الدافعة للإنسان والمجتمع … فقَدْ صنَعَ أدبًا وفنًّا … ولكنَّه أدبٌ وفنٌّ من طرازٍ بارعِ الصَّنعة، زهيد القِيمة، كالزُّجاج البَخْس البرَّاق، لا الجواهر النفيسة الثابتة.
والآن، فلْنعُد إلى مسئولية أدباء الشباب، أو مَن يسمُّونهم اليومَ كذلك، وهم أولئك الذين ستتركز في جهودهم الحركة الأدبية والفنية في السنوات العشرين أو الثلاثين القادمة.
ما هي حقيقةُ المسئولية المُلقاة على كواهلهم؟
أول شيءٍ يجب أن يكونوا حرَّاسًا على القِيَم الحقيقية في الفكر والفنِّ، وأنْ يُجدِّدوا ما شاء لهم التجديد، ولكنْ داخلَ إطارِ الإتقان والتفوُّق والتجويد، ومن أجل ذلك يجب أن يحاربوا رُوح الاستخفاف والاستهتار والابتذال في كلِّ ما يمسُّ الأدب والفنَّ، فعصر السرعة بصحافته وإذاعته، وعصر التعليم العام بجماهيره الواسعة المستهلِكة لرخيص البضاعة الأدبية والفنية … كلُّ هذا يقضي نهائيًّا على الأدب الحقيقي النابع من المواهب الحقيقية، إذا لم يَجِد في أدباء الشباب، قادة الغد، حاميًا قويًّا للإنتاج الجيِّد، وسدًّا منيعًا يحول دون تسرُّب الغذاء الفكري الفاسد إلى نفوس الشعب. كما أنَّ عليهم واجبَ الدفاع عن حرية الأدب ومسئوليته، والأديب الحرُّ في نظري هو المسئُول أمام ضميره وحده، عمَّا يكتب ويُنتج خدمةً للإنسان والمجتمع بالطريقة التي يراها هو وحده؛ لأنَّ الأديب الحرَّ الحقَّ هو المسئول أمام نفسه وحدها.
فأدباء الشباب هم المسئولون عن مجتمعهم الجديد أمام أنفسهم وأمام التاريخ الأدبي؛ لأنَّهم هُم الذين سيؤثِّرون فيه بكتاباتهم تأثيرًا مباشِرًا في السنين الثلاثين أو العشرين القادمة. وأنَّ آثارهم ستكون هي القدوة والمثال لجيلٍ جديد من غلمان اليوم ومراهِقيه.
وقد يسأل سائلٌ: وما أثر جيلنا نحن في السنوات العشرين أو الثلاثين القادمة؟ … فأقول: مَن يدري؟ … ربما قُرئتْ كتبنا في الغد كما نقرأ اليوم كتب «المويلحي» و«المنفلوطي» … وقد تصبح أساليبنا صالحةً للدراسة التاريخية، وغير صالحة للاستعمال العصري.
وهل يستطيع كاتبٌ اليوم أن يكتب بأسلوبِ «المويلحي» أو «حفني ناصف» دون أن يتعرَّض لسخريةِ الساخرين؟
وهل يكتب أحدٌ اليوم في إنجلترا بأسلوب «شكسبير» … أو حتى بأسلوب «ثاكري» أو بفنِّ «توماس هاردي» أو «جالسورثي»؟
وهنا تظهر مسألةٌ أدبية.
ما هو إذن الأثر الحقيقي للقدماء؟ … ما هي قيمة فنِّ الأجيال الماضية بالنسبة إلى الجيل الطالع؟
للإجابة عن هذا السؤال، يجب أن نفرِّق بين الاحتذاء وبين الاهتداء، بين المعالجة وبين التكوين.
الواقع أنَّ الجيل الجديد لا يحتذي في المعالجة إلى أقرب معاصِريه إليه؛ لأنَّه يتَّصل بأساليبهم الجديدة اتصالًا مباشرًا، ولكن ما من أديب أو فنَّان يصحُّ أن يسمَّى أديبًا أو فنانًا ما لم يستوعب فنَّ القدماء ويهتدي بهم في تكوينه الأدبي والفني.
الأساليب الأدبية والفنية في تطوُّر مستمرٍّ … ولكنَّ أساليب الأجيال الماضية يجب أن تُسهم جميعها في تكوين الأديب الجديد أو، الفنَّان الحديث.
نخلص من هذا كلِّه إلى أنَّ أدبنا في العشرين أو الثلاثين سنة القادمة قد يجعل جيلنا صالحًا لمهمَّة الهداية والتكوين، ولكنه سيضع القيادة الفعلية والنماذج المباشرة في أيدي أدباء الشباب.
وبهذه النماذج سيُلَوِّنون وجه الأدب بلونه الجديد.
وتلك مسئوليتهم … ويا لها من مسئولية!