الشباب والتجديد في الشعر
لستُ ممَّن يتمسكون بعمود الشِّعر القديم وأوزانه وقوافيه بغير جدال ومناقشة، فأنا مستعدٌّ دائمًا للإصغاء إلى كلِّ رأيٍ جديد، وليس كلُّ شِعر يدبج على الطريقة القديمة يُعجبني، فمن شعراء اليوم مَن يحاول تقليد القديم بفخامةِ الديباجة، وغرابة اللفظ، ورصانة العبارة، ورنين الوزن، والتزام القافية، فإذا بي أجد الناظم ولا أجد الشاعر! … وإنَّ من بيننا اليوم مَن يزعم أنَّه شاعرٌ مُجيد لمجرَّد أنَّه يملك قاموسًا عربيًّا، ويُجيد القوافي والأوزان، ويجِد مَن يصدِّقونه ويظنُّون أنَّه يقول شعرًا!
ليس بشاعرٍ حقٍّ ذلك الذي يقدِّم الصخرة ولا يفجِّرها حياة! … وليس بشاعرٍ حقٍّ ذلك الذي يغرف من نهر النثر كلامًا ككلِّ كلام!
هذا من حيث «الشكل».
وإذا تركنا الشكل وأخذنا الموضوع، فإنَّ المسألة تحتاج كذلك إلى بحثٍ آخر. ما هي المعاني الجديدة التي يجب أن يتناولها الشِّعر الجديد؟ … وأقول «يجب» على الرغم منِّي؛ لأنَّي ضدَّ كلِّ إرغامٍ في الفنِّ عامَّة وفي الشِّعر على الأخصِّ، ولكنَّ كلمة «يجب» أصبحت مُتداوَلةً بين شعراء الشباب وأدبائهم ونقَّادهم اليوم؛ فلا بأس من استعمالها في هذا المقام.
هل كلُّ موضوع تتناوله الصحف، ويتحدَّث به الناس في المجالس يصلُح للفنُّ الشِّعري؟ … هل موضوعات النثر تصلُح أيضًا موضوعاتٍ للشِّعر؟!
قد يقال إنَّ الشِّعر فنٌّ إيحائيٌّ، وليس بالفنِّ الإخباري … إنه مصباحٌ كمصباح علاء الدين يكشف لك عن كُنُوزك أنت المخبُوءَة في أعماق نفسك، ولكنَّه ليس بالكِيس المملوء الذي يُفرغ في خزائنك الخاوية!
وعلى هذا فالموضوع الذي يعالجه يجب أن يكون متَّفقًا مع طبيعة رسالته؛ أي أن يكون الموضوع شفَّافًا مُضيئًا عاليًا حتى تكون له قوة الكشف والإيحاء، لا أن يكون موضوعًا ثقيلًا إعلاميًّا يملأ الرأس بمادةٍ محدودة، ولا أن يكون أخبارًا وأحاديثَ وتواريخَ وحوادثَ مردَّدةً ممضوغةً ممَّا استهلكها النثر فلَمْ يبق للشِّعر إلا أن يضعها في «العُلَب نظمًا محفوظًا»!
كلُّ ذلك قد يقال، وكلُّ ذلك صحيح في جملته … ولكنِّي في الفنِّ أفضِّل دائمًا الاعتماد على الفنَّان … أكثر من الاعتماد على كلمة «يجب». إنَّ الفنَّان عندي هو الساحر الذي لا يُسأل عمَّا فعَلَ؛ لأنَّه ما دام فنَّانًا حقيقيًّا أصيلًا فإنَّه قديرٌ بسحره المُعجِز وحده أن يفعل كلَّ شيء. إنَّه قديرٌ بمواهبه أن يرتفع بالموضوع العادي إلى أسمى مراتب الشعر، في حين أنَّ الفنَّان الكاذب الرديء قد يهبط بالموضوع الشعري إلى المستوى السُّوقي أو الإخباري.
نخرج من ذلك كلِّه إلى أنَّ التجديد الحقيقي في شِعرنا العربي من حيث الشكل والموضوع، لن يكون تجديدًا حقيقيًّا وجديًّا إلا إذا قام على طاقةٍ كبيرة من الثقافة والموهبة والتجربة تستطيع أن تتحدَّى الصعوبات، وأن تقارعها وتنازلها؛ فما من فنٍّ يحتاج اليومَ إلى أشقِّ الجهود لإنهاضه مثل الشِّعر … لا الشعر العربي وحده بل الشعر في كلِّ لغة … حتى لقد قيل إنَّ عصرنا ليس عصر الشعر؛ لفرط ما يُلاقي الآن في كلِّ مكانٍ من ازورارٍ وفتور … فقلَّما توجد في عواصم العالم المتحضِّر اليوم دارُ نشرٍ تُقبل على طبع ديوان شعر، أو دارِ تمثيلٍ — إلا في النادر — تُجازف بإخراج تمثيليَّة شِعرية … ذلك أنَّ الشاعر العظيم الذي يفرض عبقريته على عصره غيرُ موجودٍ الآن في العالم بالقوة أو الضخامة التي وُجد بها في القرون السابقة … وكلُّ ما يوجد اليوم محاولاتٌ غامضة أو يائسة لتجديد الشِّعر في نطاقٍ ضيِّق من خاصَّة المثقَّفين المتحمِّسين … فهل معنى ذلك أنَّ عصر الديمقراطية والشعبية هو النثر؟ … أو معنى ذلك أنَّ هذا العصر الحديث لم يوفَّق بعدُ إلى الطابع الشِّعري الذي يناسبه ويمثِّله؟!
سؤالٌ لم يزَل بلا جواب … وما من جوابٍ لمثل هذه الأسئلة إلا الظُّهور الفعلي لشاعرِ العصر المجدِّد الحقيقي.
متى يظهر؟ … كيف يظهر؟ … ما من أحدٍ يدري … كان هذا العصر حقًّا محتاجًا إليه … وعندما يظهر سيأتي معه بأسلوبه الجديد الذي يناسب عصره.