تحذير للشِّعر الجديد عند الشباب
قد يظنُّ البعض أنَّك إذا أردتَ أن تكون شاعرًا جديدًا؛ فما عليك إلا أن تأتي بموضوعٍ ممَّا تتناوله الصُّحف اليومية وتكتبه نثرًا، ثم تقسِّمه إلى جُمَل مختلفة في الطُّول والقِصر، وتضع كلَّ جملة في سطر، ولا بأس من أن يكون في السطر كلمةٌ واحدة أحيانًا أو كلمتان … وحبَّذا لو كان بين السطر والسطر سجعةٌ أو سجعتان؛ ليقع من ذلك في الأذن ما يشبه الروي أو النغم.
كلَّا … ليس هذا إلا الشِّعر الجديد الكاذب … لا الشِّعر الحقيقي … إنَّ الشِّعر الجديد يعجبني شخصيًّا أحيانًا نادرة، وإنِّي أرى أصحابه مجدِّدين حقًّا حتى وإن حطَّموا كلَّ القيود القديمة … ذلك لأنَّهم شعراء … شعراء بالهبة على الرغم من كلِّ شيء.
ولكني أريد أن أحذِّر … فإن مظهر السهولة التي يكتب بها أحيانًا تغري كلَّ إنسان أن يكون شاعرًا … ولم أفطن إلى هذا الخطر إلا يومَ قال بعضُهم بغير حيطة: إن الغرض من هذه الطريقة الجديدة هو التحرُّر من قيود الوزن والقافية التي كان يفرضها الشِّعر القديم؛ أيْ أنَّهم أرادوا اجتناب الصعوبة بإلغائها … وإلغاء الصعوبات أمرٌ مستحسَن دائمًا إلا في الفنِّ؛ لأنَّ الفنَّ صعبٌ … ويجب أن يكون صعبًا دائمًا، حتى يكون فنًّا؛ لأنَّ الفنَّان هو الإنسان الذي يواجه الصَّعب، ويحوِّله إلى سهل … تلك هي معجزته … وعندما يُقال إنَّ الفن سحر أو هو نوعٌ من السِّحر، وقد كان كذلك في مطلع الأزمان، وكان يقوم به السَّحِرة والكهَّان؛ كان تأثيره في الناس مُنبعِثًا من أنَّه شيءٌ مُعجِز لا يستطيعه كلُّ شخص، ولكنَّه يلين ويسهل في يدِ الكاهن أو السَّاحر أو الفنَّان!
أول شرطٍ إذن هو أن يكون عسيرَ المنال، إلى أن يجيء الفنَّان فيُخضعه لقدرته وموهبته، ويصيِّره سهلًا بسيطًا سائغًا للناس … إنَّ الفنَّ صخرةٌ صُلبة، على الفنَّان أن يفجِّر منها الماءَ الزُّلال … وليس الفنُّ نهرًا جاريًا يغرف منه كلُّ عابرِ سبيلٍ بلا مجهود … لا بد في الفنِّ إذن من صُعوباتٍ وعوائق وقيود … وشرط الفنَّان أنْ ينتصر على الرغم منها، لا أن ينتصر بإلغائها … إنَّ اللاعب الماهر هو الذي يفوز مع احترامه لشروط اللعب، أمَّا إذا بدأ بإلغاء الشروط أو بتخفيف وطأتها ففيم الفوز إذن؟!
أفهَمُ أن يكون إلغاءُ الشروط أو القيود لأنَّها سخيفة، لا لأنَّها عسيرة، وفي هذه الحالة يجب أن تُوضع شروطٌ جديدةٌ للفنِّ الجديد، كان يشترط فيه الموسيقى والصورة والقوة الدافقة الدافعة، ولا حاجة بقافية بعد ذلك … أمَّا مجرَّد الإلغاء تيسيرًا للفنَّان فهو مبدأُ خطرٍ على وجود الفنِّ ذاته … حقيقةً إنَّ الفنَّ الجديد هو الذي يبدو سهلًا، ولكنَّه كما يقال السَّهل الممتنِع وليس السهل إطلاقًا … هو السهل في نظَرِ الناس، لا في نظَرِ الفنَّان … هو الذي يكابد فيه الفنَّان، ويعاني، ويجاهد، ليُبلغه بعد ذلك للناس هينًا مستساغًا، حتى ليخيَّل للناس جميعًا أنَّهم مستطيعون الإتيانَ بمثله دون مشقَّة ولا عَناء.
هذا هو السِّحر في الفنِّ … هو الذي يخيِّل للناس أنَّ الأمر في متناول أيديهم؛ وهو في الحقيقة أبعدُ منالًا من النجوم … إنَّ الفنَّ العظيم هو هذا: هو السهل للناس، والصعب للفنَّان.