الصِّدق أساس التجديد عند الشباب
رُوِّع ذاتَ يومٍ بعضُ أدباء الشباب وأطلقوا وصف «الإرهاب» على حركةٍ نقديَّة قام بها شبابٌ آخر من الأدباء غمروا الصُّحف والكتب فجأةً بدراساتٍ حشوها بكلمات مثل: «الأدب للحياة»، و«الأدب الوردي»، و«أدب البُورجوازية»، والسلبية والإيجابية والشكل والمضمون والعضوي وغير العضوي … إلخ.
إلى أن ظهرتْ فجأةً أيضًا ترجماتٌ لبعض النشرات والمجلات الأدبية، التي تصدر في بعض الدول الأوروبية والآسيوية الشرقية، وإذا بالسرِّ ينكشف، وإذا بأصل هذه الكلمات يتَّضح، فاطمأن الفريق الأول من الشباب وبدأ يمدُّ رجلَيه ويتنفَّس الصُّعداء، واستخزى الفريق الثاني قليلًا … وكادت تفتُر المعركة.
والسبب في اطمئنان الفريق الأول هو اعتقاده السابق أن تلك الأحكام الأدبية صدرت حقًّا عن موازين طبيعية، لا شكَّ في أنَّ أصالتها ومنبعها الطبيعي في أرضنا، فلما علم أخيرًا أنَّها موازينُ مستورَدة، وأنَّها مثارُ جدلٍ في بلادٍ أُخرى، بدأتْ تضعُف في نظره قيمةُ تلك الدراسات!
كما أنَّ السبب في استخزاء الفريق الثاني راجعٌ إلى أنَّه كان يُخفي — بمهارةٍ فائقة — مصدرَ موازينه ومصطلحاته؛ ليُلقي في الرُّوع أنَّها من اجتهاده الشخصي، مُوهِمًا أنَّها الموازين الطبيعية النهائية، التي يجب أن يقوم بها الأدب والفنُّ اليوم في بلادنا، بل والأمس أيضًا، بل كلُّ أدبٍ وفنٍّ ظهَرَ على وجه البسيطة في أيِّ زمان ومكان، دون جدلٍ أو مناقشة … فلمَّا انكشف الأمر، واتَّضح أنَّ كلَّ هذه المصطلحات والموازين قد تُرجمتْ ونُقلتْ عن آدابٍ أخرى، وتعبِّر عن شعوبٍ ودولٍ نبَتَ فيها ذلك نبتًا طبيعيًّا، شَعرَ الفريق الناقد أنَّ موقفه قد تحدَّد بما لا يُرضي أطماعه، وأنَّ الأدباء أخذوا ينظرون إليه على أنَّه مجرَّد مروِّج لمذهبٍ لا أكثر ولا أقلَّ!
هذه على وجه التقريب هي النتيجة الختامية لمعركةٍ أدبية شغلتْ أذهان الشباب في الأعوام الأخيرة.
وإنَّه لممَّا يُؤسف له أن تنتهي المعركة أو تفتُر على هذا الوضع؛ فنحن في حاجةٍ إلى منشِّط في مجال الآراء والأفكار الأدبية والفنية.
وإنِّي لأعتقد أنَّ هذه المعركة كان من الممكن أن تنفع الأدب والفنَّ نفعًا قويًّا مستمرًّا، لو أنَّها وُضعتْ من البداية على أساسٍ آخر.
ما هو هذا الأساس؟
هو أولًا الصِّدق … فما من بناءٍ يُبنى على الصِّدق إلا وكُتب له البقاء، في الأدب والفنِّ، وفي كلِّ شيء … كلُّ حركاتنا الأدبية والفنية السابقة بُنيتْ على الصدق؛ ولذلك عاشتْ، وكانت هي دعامةَ نهضتنا الفكرية الحقيقية … ومعنى الصِّدق في تلك الحركات أنَّها لم تكتُم شيئًا، ولم تُوهم أحدًا … بل قالت بكلِّ بساطة: نحن في حاجةٍ إلى أفكار الغرب؛ لإضافة ما لم يوجدْ في تراثنا وسننقل ما نحتاج إليه في تجديدنا الأدبي والفني.
وتمَّ هذا النقل والترجمة في وضَح النهار، كما حدَثَ في كلِّ أمَّة وعصر. وكلُّ أدبٍ غيرنا نما وازدهر ودخله هواء جديد؛ لأنَّ كلَّ تجديد في فكرٍ ككلِّ تجديد في هواء غرفة، يحتاج إلى فتح النوافذ.
بهذا تفادَت الحركات السابقة ذلك الاستخزاء والخجل وردِّ الفعل، الذي يحدُث عادةً عند اكتشاف حقيقةٍ مخيفة مكتومة … وما من ريبٍ في أنَّ حركة هذا الفريق من الشباب كانت تدعو إلى الاحترام، وكانت تتَّخذ مظهر الجديَّة والدوام، لو أنَّهم قالوا بكلِّ بساطة: «نحن في حاجةٍ إلى فتح النافذة الشرقية كما فُتحت النافذة الغربية.» … وقاموا بالفعل ينقلون نقلًا أمينًا ويترجمون ترجمةً دقيقةً عيونَ الأدب والنقد من البلاد الشرقية، دون الْتواءٍ أو تزييفٍ أو إيهام.
ذلك أنَّه ما من عاقل يُنكر هذه الحقيقة، وهي أنَّ تجديد الحجرات والنهضات يحتاج إلى فتح النوافذ المغلقة في كلِّ الاتجاهات … وقد حدث مثل هذا أيام النهضة الفكرية الإسلامية في عصر المأمون يوم نشطتْ حركات النقل والترجمة لآثار الفُرس والهند واليونان والرُّوم وغيرهم من مختلف الحضارات.
قد يُقال إنَّهم ما كانوا يملكون هذا الصِّدق في كلِّ الأوقات … هذا صحيح … ولذلك هم معذورون … ولكن …
ولكن العذر لا يعفيهم من مسئُوليتهم عن النتيجة … نحن نعذرهم … ولكننا نعذر أيضًا أولئك الذين استخفُّوا بهم بعد أن انكشف القناع.
هذا أولًا كما ذكرتُ، ولكنَّ هناك سببًا ثانيًا للأساس الخائر، ولعلَّه الأسرع في هدم الثقة، ذلك هو سوء التطبيق … إذ ما كاد هذا الفريق من الشباب يقع على بعض نماذجَ في الأدب والفنِّ والدراسات من تلك البلاد الشرقية وغيرها، حتى استخفَّه الزهو وانطلق — في رعونة وعجَلَة — يؤلِّف وينقُد، ويُخرج في الشِّعر والقصة والبحوث نِتاجًا سريعًا أكثرُه مفتعَل، يحاول أن يطبِّق فيه الأفكار المستوردة على مجتمعٍ مختلف عن ذلك المجتمع الذي جاءت منه تلك الأفكار وعلى أدبٍ لا يماثل في تراثه وتاريخه ومراحل تطوُّره آداب تلك البلاد الأخرى.
كلُّ ذلك أفقَدَ تلك الحركة التي كان يصحُّ أن تكون حركةَ تجديد بالفعل، بعض مظاهر الجدية … وبدلًا من أن تنتفع نهضتنا الفكرية والأدبية والفنية بمزايا النافذة الشرقية، كما انتفعتْ من قبل بمزايا النافذة الغربية، إذا بالأمر يكاد أن ينقلب إلى مهزلةٍ وإذا بالثقة تنهار شيئًا فشيئًا، وإذا بابتساماتِ السُّخرية أو الارتياب تعلو الشفاه قبل أن تمتدَّ الأيدي إلى كثيرٍ من هذه المؤلَّفات التي تظهر اليوم، في الشِّعر، أو القصة، أو النقد، لبعض هؤلاء الداعين إلى هذا النوع من التجديد من أدباء الشباب!
إذن … لقد عمل هذا الفريق، من حيث لا يريد ولا يتوقَّع، على الإضرار بحركته … وليت الأمر يقِفُ عند هذا الحدِّ … إذ لو أخذ الأمر على أنَّه سوء تطبيق؛ لانحصر الضَّرر في حدوده الضيِّقة. ولكنْ بعد انكشاف القناع، أصبح هذا الفريق في نظَرِ المثقفين ممثِّلًا أو مستوحيًا تلك الآداب الشرقية … فما ذنب تلك الآداب ومعظمها من القمم والشوامخ، أن تُجرَّ هي الأخرى في غبار السخرية وعدم الثقة؟
ما الذي يُنقذ الموقف الآن؟
أعتقد أنَّه ما من منقذٍ غير الشروع في حركة تجديدٍ حقيقية، تدعو إلى الاحترام، وتقوم على العمل المُضني غير المتعجِّل، وعلى الصبر الطويل والدرس العميق … يجب أن ندرس مجتمعنا دراسةً جديَّة، وأن ندرس أدبنا وفنَّنا دراسةً دقيقةً موضوعية، تُحيط بمراحل تطوُّره المتَّصلة بتطوُّر المجتمع، وأن يكون أدبنا الجديد والمتجدِّد نتيجةً طبيعية للتطور الفكري والاجتماعي، وأن يكون رائدنا في كلِّ ذلك الصِّدق والصراحة وسعة الأفق وحُسن التطبيق!