تبعات الأجيال
كلُّ جيلٍ مسئولٌ عن أفكاره التي قد تتسرَّب — بعلمه أو بغير علمه — إلى نفوس الأجيال الجديدة … لذلك يحسُن تفسير تلك الأفكار من حينٍ إلى حين، حتى لا يُساء فَهْمها!
من ذلك أنَّي رأيتُ بعض الشبَّان ينزحون اليوم إلى بلاد الغرب في طلب العلم، فيصطدمون بحياةٍ أخرى وحضارةٍ أجنبية … فإذا هم أحيانًا، يفكِّرون ويشعُرون شعورَ «محسن» وتفكيره في كتاب «عصفورٌ من الشَّرق» يومَ ذهَبَ بعد الحرب العالمية الأُولى إلى الغرب … فهُمْ يَهيمون مثلَه باحثِين هناك عن «الرُّوح» … وتسيطر على تفكيرهم مثله فكرةٌ واحدة؛ هي روحانيةُ الشرق وعَظَمتها ومواضعها ومنابعها! … ثم يسيرون خلْفَ «محسن» الآخَر في كتابِ «عودة الرُّوح» ينقِّبون كما نقَّب عن منبع ميراثهم الثقافي والروحي، في «رواسب» الآلاف من السنين الكامنة في ضمير مصر. ريفها وأهلها الصادقين! … ويعتزُّون مثلَه بأصالة الشعب المصري، ويردِّدون ألفاظه المباهية بعراقة حضارته! … إلخ.
من الخير بالطبع، أن ندَعَ هذا الشباب يعيش في مثل هذه المشاعر والأفكار! … لكنْ من الخير أيضًا أن نقول له: قدِّسْ ماضيك دون أن تذهب في ذلك التقديس إلى الحدِّ الذي يجعلك تُوصد رُوحك دون تلقِّي كلِّ جديدٍ ينفعك، ولو كان ذرَّةً من أشعة! … اغترفْ بشجاعة من كلِّ منبع، وخذْ من كلِّ ميراثٍ لتُثري نفسك، ويتَّسع أفقك!
هذا قولٌ من واجبي أن أكرِّره دائمًا!
فالخطر على غَدِنا، كلُّ الخطر، من ذلك الفهم المحدود لكلمة «طابعنا»، ومن تلك الفكرة التي تجعل الشباب يتَّخذ من روحانيته الشرقية، ورواسب حضارته المصرية سُجونًا وحصونًا تعزله عن تفكير العالم، وتمنعه من المساهمة في النشاط الفكري الإنساني العام بقوةٍ وشجاعة، دون أن يرى بهَلَعٍ في الثقافة الغربية أو الحضارة الأجنبية غيلانًا تستطيع أن تخطف بسهولة روحه من بين جنبَيه! … إنَّ روحنا أقوى وأعمق من أن تطغى عليه حضارةٌ من الحضارات … فلماذا كلُّ هذا الخوف من مواجهة الحضارات الأخرى؟!
كلُّ مَن أراد أن يكتب عندنا قصةً، حَرصَ على أن يكتب تحتها بخطٍّ واضح: «قصةٌ مصريَّة»! … وعُني بأنْ يُجري حوادثها في الأحياء الوطنية، ويصبغها صبغًا عنيفًا بالألوان المحلية! … كلُّ ذلك ليُقنع نفسه بأنَّه يصنع فنًّا قوميًّا ذا رُوح مصرية أصيلة.
كلُّ هذا نوعٌ من مركب النقص، أو من الخوف، لا مبرِّر له … إنَّ الرُّوح المصري الأصيل يستطيع أن يطبع أيَّ موضوعٍ يمسُّه، ولو كان في محيطٍ أجنبي، كما استطاع الرُّوح الإسلامي أن يطبع فنَّ العمارة، الذي استنبطه من الوثنيين والبيزنطيين! … وكما استطاع «شكسبير» أن يطبع بشخصيته الأساطير التي نقلها عن الإيطاليين، والدنماركيين، والشرقيين!
بل إنَّ جانبًا كبيرًا من الآداب الكُبرى يتعمَّد أن يتَّخذ موضوعه بلادًا وأشخاصًا أجنبية عنه؟ … وهو مُمْتلِئُ الثقة بأنَّ الموضوع الأجنبي لا يؤثِّر مقدارَ شَعرةٍ في لون الطابع الشخصي لهذا الأدب! … هذا هو الأدب القوي الواثق بنفسه، يطبع بخاتَمه ما شاء من موضوعات، ويدَعُ عَلَمه يرفرف على ما شاء من بلاد!
«إنَّ سُفور المرأة في مصر قد سبَقَ سُفور الأدب! … من أجل هذا نرى أن جانبًا كبيرًا من أدبنا الحديث، ما زال أدبًا «حبيسًا» تفوح منه رائحة الحُجرة المغلَقة! … أدب صناعة، وأدب «عُلَب محفوظة» من التعبيرات المستعارة، والأساليب والدراسات المستخرجة من خزائن الأقدمين!
أمَّا أدب الهواء الطلق، أدب التعبير عما في أعماق النفس في حرية وأمانة وإخلاص، أدب الحياة النابضة بتفاصيل المشاعر الآدمية. هذا الأدب الخارج من القلب؛ ليخاطب كلَّ قلب على وجه البسيطة، هذا الأدب العالمي الذي يؤثِّر في نفس كلِّ أمَّة وكلِّ جنس وكلِّ آدمي؛ لأنه نبَعَ صافيًا خالصًا حارًّا من قلبٍ آدمي، هذا الأدب حظُّنا منه قليل؛ لأنَّ حظَّنا من الصراحة والصدق قليل!» … إلخ.
هذا كلامٌ جرَتْ به الأقلام اليومَ كثيرًا … كما ردَّدَت الألسُن عباراتِ «الفن والحياة» و«الفن والشعور» و«الفن والصدق» … إلخ؛ مما يدلُّ على أنَّ معنى الأدب أخذ يتحوَّل إلى الاتجاه المثمر، في مجتمعنا المعاصر … لكنْ هل معنى ذلك أن نكفَّ عن النظر في كتب الأقدمين؟
أرى من واجبي أيضًا أن أوضِّح … لقد أحيَتْ وزارة المعارف ذكرى أبي العلاء المعرِّي، وأخرجتْ كتاب «سِقطُ الزَّند» فعكفتُ على مطالعته من جديد! … وخرجتُ من ذلك أقول: «فنُّ هذا العبقري «رهين المَحبَسَين» … أهو فنُّ هواءٍ طلْقٍ وقلبٍ وشعور وحياة؟! أم هو فنُّ رجلٍ ضرير حبيس حُجرة مغلقة يمتعنا حقًّا؟! … ولكنه إمتاعٌ لا يُثير عواطفنا، بقَدْر ما يُثير تفكيرنا، ولا يهزُّ قلوبنا بقَدْر ما يهزُّ رءُوسنا، ولا نجِد فيه اللذة سهلةً ميسَّرة، ولكننا نبلُغها بذهننا بعد كدٍّ وجدٍّ وغوص؟!»
إذن يجب أن أوضِّح للشباب كلامي المطلق الذي نشرتُه منذ أعوام، وأن أقول لهم إنَّ الشعور الحارَّ وحده، بما يثيره من انفعال، ليس هو كلَّ الفنِّ، ولا هو خيرُ الفنِّ في بعض الأحيان؛ لأنَّ المتعة التي تأتي من غير غوص، هي في أكثر الأحوال رخيصة! … وآلام «فرتر» العاطفية أقلُّ رُتبة في نظر «جوته» نفسه، وتاريخ الأدب من «فاوست» الذهنية! غموضُ قولي السابق، أتى من أنِّي لم أحدِّد معنى «القلب»! … القلب في الفنِّ هو الصدق — لا الصدق بمعناه الضيِّق، المقصور على الشعور العاطفي أو الوجداني — بل أيضًا صدق الشعور بحقيقة فكرة من الأفكار!
على هذا النحو يجب كذلك تحديد معنى «الحياة» في الفن! … ما من شكٍّ أنَّ الفنَّ هو تعبيرٌ عن الحياة … وليس من السهل تصوُّر فنٍّ منفصلٍ عن الحياة، إلا أن نتمثَّل فنَّ الزخرف الإسلامي الذي لا يصوِّر زهورًا، ولا طيورًا، ولا حيوانًا! … ويقوم على تخطيطٍ هندسي! … فنٌّ عريقٌ بديعٌ لا شكَّ فيه، ولكنَّ نسبته إلى الحياة التي نعرفها تحتاج إلى مشقَّة في التخريج! … هذا التجريد الذهني في الزخرف الإسلامي، يماثله التجريد الذهني في الفنِّ المصري القديم، بخطوطه الرئيسية العارية من اللحم والدم! … لقد كان همُّه أن يُحيي الفكرة في الحجر، لا أن يقلب الحجر حياةً كما فعَلَ الإغريق.
مهما يكُن من أمرِ تفضيلنا هذا النوع أو ذاك؛ فإنَّ اختلاف العقليات والاتجاهات والأنواع في الأدب والفن، يحملنا على أنْ نوسِّع معنى «الحياة» حتى تشمل كلَّ هذه الألوان من الآداب والفنون.
لا بد أن تكون «الحياة» في الفنِّ، ليست بعض ما يقع في العالم الخارجي ويضطرب فيه الإنسان بحسِّه ومشاعره فقط، بل أيضًا كل ما يقع في العالم الداخلي ويستخرجه الإنسان بفكره وذهنه وتأمُّلاته! … إنَّ الحياة في الأدب والفن هي الحياة كلُّها — الحياة الكاملة، بمعناها الواسع العميق — تلك «الحياة» التي تسكن في كلِّ جزء من أجزاء الإنسان الحي في قلبه، وفي غريزته، وفي حسِّه، وفي رأسه!
•••
ذلك بعضٌ من تلك الأفكار التي تركناها تسعى من جحور الكتب إلى وعي الشباب دون انتباه! … حبَّذا لو عُدنا من حينٍ إلى حين؛ بأيدينا أو بأيدي غيرنا من النقَّاد والباحثين، نراجع ما نشرنا، ونسترجع ما أصدرنا؛ لنعيده مفسَّرًا مجدَّدًا، كما تفعل المصارف المالية عندما تسترجع من أيدي الناس أوراقَ العُملة القديمة لتردَّها في حالةٍ جديدة!