تصادُم الأجيال
كلما حدَثَ في مجتمع انفصالٌ بين الأجيال، رأى كلُّ جيلٍ أنَّ هذا المجتمع غريبٌ عليه، وأنه بريء منه، لا يدري كيف جاء، ولا كيف تكوَّن، ولا يعرف مَن المسئُول عنه.
جاءتْني رسالتان تُصوِّران هذه النظرة إلى المجتمع:
«إنَّ جيلنا كان له من الملاهي «كازينو دي باري»، وفتيات «أوركسترا كافيه إجبسيان» للطبقة المتفرنجة. وقهوتان للرقص والغناء في «وجه البركة» … أمَّا اليوم فقَدْ أصبح من مستلزمات الطبقة المتوسطة وجود «البار» الأمريكاني في المساكن الخاصة … وأصبح من حقِّ جاري أن يُثير أعصابي بمكرفون … وأصبح المخنَّثون يمشون متشابكين خمسةً خمسةً على الأفاريز! … وأصبحت الأوضاع مقلوبة! … القانون يَهاب الإجرام، والأبُ يخشى ثورةَ الابن، الذي رضَعَ من ثدي الحريَّة الفاجرة! … أمَّا في غير مصر فإنَّ القانون الرقيب على المجتمع، قد أجبر يومًا ممثِّلةً مصريةً كبيرة، كانت تضع ساقًا على ساق في ترام «جنوا» أن تُنزل ساقها، فثارتْ واعتبرتْ هذا الإجبار اعتداءً على الحرية، ولكنَّها اضطرتْ آخرَ الأمر أن تلتزم حدودَ المجتمع الذي تعيش فيه، فأنزلتْ ساقها على مضض.»
أمَّا الجيل الجديد فتمثِّله رسالةٌ، هذا نصُّها:
«إنني — كأحد أبناء الجيل الجديد — أقول: إنَّه جيلٌ يريد أن يصِلَ إلى إدراك معنى الحياة، وإلى بلوغ أقصى ما يمكن من المعرفة والتقدُّم والرُّقي! … على الرغم ممَّا يرى في تصرُّفاته من تهوُّر واندفاع، لا يقِفُهما عقلٌ، ولا يحدُّ منهما إدراك، حتى صار الناس يُوجسون خِيفة من أعماله، ويَرَون فيه خطرًا عليه وعلى المجتمع! … وما من شكٍّ في أنَّ للجيل الجديد أخطاءً، ولكنْ على مَن تقع التَّبِعة؟ … أليس المسئُول هو الجيل الذي سبقنا؟ … إنه لم يعرف كيف يقود الجيل إلى الشاطئ الأمين … لقد أخافه وأرهبه هذا التطوُّر المفاجِئ في التفكير الإنساني! … فترك له الحبل على الغارب؟ … أهو قد حَارَ بين أن يُقدِم معه، أو يُحجِم عن مجاراته؟! … ومن هنا ظهَرَ تردُّده وضَعفه وتخاذُله … أو أنه قد تجاهل، أو تغافل عمَّا تطوَّرت إليه الحياة العامة؛ فأراد أن يعود به القهقرى، وكانت النتيجة في كلِّ الأحوال أنْ عَصَى؛ لأنَّ الحياة التي نعيشها في هذا العالم الحاضر لا تسمح لحيٍّ أن يمشي إلى وراء، وإلَّا داستْه العجلات السائرة في موكب الحضارة! … إنما الخلاف هو في اختلاف طبيعة الجيلَين: أحدهما يريد التمهل، والآخَر يريد القفز! … وليس هذا بجديد! … هكذا كان الآباء والأبناء في كلِّ زمانٍ ومكان، ولكنَّ الجديد في عصرنا الحاضر — عصر الثورات والانقلابات — هو أنَّ الخلاف في الطبيعة والنظرة قد انقلب هو الآخَر إلى ثورة، ثورة اتخذتْ لها شتَّى المظاهر: في البيت، والمدرسة والعمل والمجتمع! … ولم يعُد من السهل أن نفرِّق في دُخانها بين حدود النظام والحرية، والحقِّ والواجب! … وبهذا اختلطَت الأقدار، وضاعت معالمُ القِيم، وفسدَت العلاقة بين الأجيال، وانفصلتْ حلقاتها! … وانعدم التعاون بينها، وانتهى الأمر إلى ما نرى، من وقوفِ كلِّ جيل موقفَ المُرتاب من الجيلِ الآخَر!»
كلُّ الأزمة إذن هي في هذا الانفصال بين الأجيال!
خرج البنون على آبائهم، وخرج التابعون على قادتهم!
في النظرتَين إذن إنكارٌ لحالة المجتمع، واعترافٌ بأنه قائم على فساد … وليس المهم إلقاء التَّبِعات، وقذْف الاتهامات؛ إنما المهم هو البحث في العلة، وعلاج الداء! … وما من شكٍّ في أن الأفكار تتطور اليوم بسرعةٍ ظاهرة، والحياة تتجدَّد، والمجتمع يتابع كلَّ ذلك على الرغم منه كورقةٍ فوق تيارٍ جارٍ! … وما أظنُّ كثيرين من الجيل السابق يخطر لهم أن يوقفوا عجلة الزمان، أو يُرجعوا عقارب الساعات إلى الوراء؛ فهُمْ متهمُّون أحيانًا بأنهم قد جرفوا في التيار جرفًا، دون أن ينظموا له الجسور والسدود. فالتجديد الشامل في نواحي المجتمع، لم يتمَّ شيءٌ منه في واقع الأمر إلا بإيحاءٍ، أو رضًا، أو تساهُل من الجيل السابق! … ولكنَّ الجيل الجديد يعيش في عصر التغيُّرات الخاطفة، والتطوُّرات السريعة، والاختراعات المفاجِئة، فأصبح لذلك أقلَّ من الجيل الذي سبقه صبرًا وجلَدًا، وأقوى منه رغبةً في كلِّ تغيير، وأعنفَ منه ثورةً على كلِّ ثابتٍ مستقر!
ليس الخلاف بين الجيلين في الحقيقة على مبدأ التطور والتجديد، فالكلُّ مسلِّم بضرورة الانحناء لدواعي التجديد والتطور، ولكنَّ الخلاف الحقيقي في ذلك التصادم — في ضياع الاحترام والثقة — في السير، لا بروح التعاون، بل بروح التحدِّي!