أجيال الطبيعة
يقول المفكِّر الصيني «يوتانج»: إنَّ من الناس مَن يرفض أن ينتج ذريَّة! فهل تستطيع الأشجار أو الأزهار أن ترفض إنتاج البذور التي تكفُل استمرار البقاءِ لنوعها؟ … إنَّ مشكلة العصر الحاضر هي أنَّ كثيرًا من الناس لا يتزوَّجون، وأنَّ كثيرًا ممَّن تزوَّجوا يرفضون إنتاج الذريَّة لأسبابٍ شتَّى: كارتفاع مستوى المعيشة، وازدياد تكاليف الحياة، ومشقة الكدح في سبيل الرزق! … لكنْ ما من سببٍ من الأسباب، ينبغي — في نَظَره — أن يحول دون قيامِ البشرية بواجبها الطبيعي الذي تقوم به الشجرة والزهرة!
هذا قولٌ حقٌّ! … لكنَّ هناك فرقًا في رأيي بين الشجرة أو الزهرة، وبين الإنسان! … إنَّ الشجرة لا تفكِّر في معارضة القوانين الطبيعية … إنَّها لا تنسى أبدًا أنَّها جزءٌ من الطبيعة ذاتها، وأنَّها عندما تُنتج البذور تترك للحياة مهمَّة فرزِ الصالح من الطالح ولا تتعجَّل النتائج، وتَدَع للزمن حرية العمل، يُنضج من الأنواع ما يُنضج، ويُميت منها ما يُميت، ويُضحِّي بمئات الآلاف، أو آلاف الملايين؛ ليُخرج فصيلةً ممتازة رائعة كاملة بعد حين!
أمَّا الإنسان فأمره مختلف … إنه حيوانٌ يفكِّر أو نباتٌ يعقل … وعملُ العقل والتفكير هو استخراج مبادئ واستنباط قوانين … وهذه القوانين والمبادئ كثيرًا ما تُعارض قوانين الطبيعة … ذلك أنَّ الإنسان العاقل يضع مبادئه في نطاق زمنه المحدود … ولكنَّ الطبيعة تضع مبادئها في نطاق زمنها غير المحدود … ومن هنا ينبع سوء التفاهم بين الطبيعة والإنسان في أغلب الأحيان؛ فأكثر الذين لا يتزوَّجون قد اتَّخذوا هذا القرار، بناءً على مبدأ من مبادئ العقل الذي يُزيِّن لهم الحرية الفردية، ويجعلها في صورةٍ مغرية من صُور السعادة الإنسانية! … هذا الرَّجلُ الفردُ المحلِّق كالعصفور — بغير عشٍّ في كلِّ الأجواء — لا يخشى الغد، ويتحدَّى الأنواء! … ما أسعده في وحدته وراحة باله وعدم مسئوليته! ويظلُّ هذا الرَّجُل في الحياة يصفق بجناحَيه لا يُظلُّ بهما أحدًا … إلى أن يموت بردًا بغير عشٍّ، أو يمضي راضيًا بغير ندم! … وهكذا ينتصر العقل على الطبيعة!
وإمَّا أن يشعُر العصفور أنَّ التحليق في الهواء لا يمنحه الحرية؛ بل يمنحه التَّيَهان، وأنَّ سعادته ليست في نشر الجناح على الهواء بل على بيتٍ وقرين! … عندئذٍ تنتصر الطبيعة على العقل، ويتزوج الرَّجُل، غير أنَّ العقل لا يتركه وشأنه؛ بل يعود إليه ليضع له المبادئ، ويسنَّ له القوانين، ويقول له: إيرادك صغير، فلا تُنجب أو أنجبْ طفلًا! … أو إيرادك متوسط؛ فأنجبْ طفلَين! … ويُصغي الرَّجُل إلى قوانين عقله، ولا يُصغي إلى قوانين الطبيعة!
قانون عقله يريد وصْلَ الإيراد بالذريَّة، وقانون الطبيعة لا يرى صلةً بين الإيراد وبين الذريَّة … العقل الإنساني المحدود يريد أن يحبس نتائجَ النسل الآدمي في نطاق الزمن الآدمي القصير، وفي حدود التكاليف المالية والمعاشية!
وعقل الطبيعة — غير المحدود — لا ينتظر نتائج هذا النسل إلا بعد أجيالٍ تتعاقب فيها الدول وتتغيَّر النُّظم!
وهنا السرُّ في أنَّ الإنسان الفطري يُنتج من الذريَّة كثيرًا! … والإنسان المتعلِّم يُنتج منها قليلًا! … ذلك أنَّ الإنسان الفطري أكثر مقاومة لعقله واندماجًا في الطبيعة وخضوعًا لقوانينها، ولكنَّ الإنسان المتعلِّم أكثر مقاومةً للطبيعة وخضوعًا لعقله!
الإنسان الفطري هو وحده الذي ينطبق عليه قول المفكِّر الصيني! … وهو وحده الذي مثله مثل الشجرة والزهرة، يُنتج وينسل بلا تفكير، وعلى الطبيعة أن تفرز إنتاجه الصالح من الطالح، وتُبقي القوي وتُميت الضعيف، وهو يتقبَّل حُكْمها باستسلامٍ وإذعان!
أمَّا الإنسان المتعلِّم فلا يقبل حُكْم الطبيعة في ذريَّته! … إنه هو الذي يريد أن يقرِّر بنفسه مصايرها، ويوجِّهها في الحياة تبعًا لبرنامج يضعه بعِلمه، ويرسمه بعقله!
إنَّها الحرب إذن بين الإنسان المتعلِّم المفكِّر، وبين الطبيعة!
وما دامت الحضارة تقلب كلَّ إنسان إلى متعلِّم مفكِّر؛ فلا بد أن تتَّسع هُوة الخلاف بين الطبيعة والإنسان إلى حدٍّ نرى فيه النسل يومًا يكثُر أو يقلُّ تبعًا لبرنامج رسمي تضعه الدولة وتطبقه على الأفراد!
المخلص من كلِّ ذلك، الحكمة … فإذا أعطي الإنسان الحكمة؛ فإنه يمسك بالميزان الذي يكفل له التوفيق بين إرادته وإرادة الطبيعة.