تنوُّع الأجيال
في سورة «هود» من القرآن الكريم آيةٌ، قلَّ مَن فَطنَ إلى مراميها البعيدة، تلك هي:
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (هود: ۱۱۸).
مهما يكُن من أمر التفسيرات التي شُرحت بها هذه الآية، فإنه يبدو لي أنَّ في جوفها وميضًا ينمُّ أحيانًا عن أسلوب الله في خلق الكون … فذلك الاختلاف بين الأجرام في الأحجام هو سرُّ تجاذُبها وتماسُكها وتعاونها. ولو أنَّ الله جعَلَ الأجرام حجمًا واحدًا، وشبهًا واحدًا في كلِّ العناصر والأوزان والصفات؛ لانفرط عِقدها، وانحلَّ رباطها … أمَّا في مجال أرضنا وسكَّانها من الآدميين؛ فإن قانون الاختلاف له مثل هذه الضرورة واللزوم! … ولقد قرأتُ أخيرًا للمفكِّر الإنجليزي «جون هادهام» فخيِّل إليَّ أنَّه يُكتب بوحي من تلك الآية القرآنية هذه السطور: «لو أنَّ كلَّ بلدٍ كان له من الهيئة ومن الموادِّ الخام ما لسائر البلاد؛ لكان كلُّ بلدٍ يستطيع الحياة مستقلًّا تمام الاستقلال عن جيرانه، ولكنَّ الله نَظمَ خريطة الدنيا على نحوٍ يجعل كلَّ بلدٍ في حاجة كبيرةٍ أو صغيرةٍ إلى كلِّ بلد!» … وهذا القول يصدق أيضًا على الشعوب، فكلُّ شعب قد جعلت فيه مزيَّة يستطيع بها أن يُضيف شيئًا إلى مجموع الشعوب، وكلُّ شعب مدين للشعوب الأخرى بشيء يعوزه في إنتاجه أو ينقصه في تركيبه!
وما يُقال في شعبٍ يُقال في الأفراد الذين يتكوَّن منهم؛ فما من مجتمعٍ صحيحِ البنيان إلا كانت صحَّةُ بنيته ناتجةً من أفراد لا يتشابهون في نوع العمل واتجاه التفكير؛ لأنَّ تلك الصحة إنما قِوامها تلك المساهمة التي يؤدِّيها إلى المجموع كلُّ فردٍ بعمله الخاص، وتجاربه الشخصية، ومزاجه المختلف عن سواه، وطبيعته ونظرته! … وهل نستطيع أن نتصوَّر قيامَ مجتمع، يتكوَّن من أفرادٍ كلُّهم متشائمون في النظرة، أو كلُّهم متفائلون، وكلُّهم ذوو حرصٍ، أو كلُّهم مهملون؟ … وكلُّهم شعراء، أو كلُّهم مهندسون، أو كلُّهم خطباء؟!
•••
وإذا أردنا أن نكمل الصورة، فلْنهبط إلى الأعضاء في جسم الفرد! فالصحة في جسم الفرد قِوامها أيضًا ذلك الاختلاف في وظائف الأعضاء! … فالرأس يفكِّر، والقلب يشعُر، واللسان ينطق، والأذن تسمع، والقَدَم تسير! … وإنَّ هذه الصحة لتنهار يوم نرى كلَّ هذه الأعضاء تترك وظائفها المختلفة، وتتَّجه كلُّها إلى وظيفةٍ واحدةٍ متشابهةٍ للجميع، وهي التفكير! … نعم، ماذا يكون حال الجسم لو تمرَّد القلب، واللسان، والأذن، والقَدَم وقالت كلُّها: لن نشعُر، ولن ننطق، ولن نسمع، ولن نسير! … نريد كلُّنا أن نكون مثل الرأس، فلا نصنع شيئًا سوى أن نفكِّر؟! … معنى ذلك ولا ريب هو شللُ الجسم كلِّه وسقوطه في مكانه، لا يتحرك، ولا ينطق ولا يشعُر، ولن يُغنيه تفكيره شيئًا!
أسلوب الله في خلقه، يبدو إذن من ذلك الاختلاف: في الصفات، والهيئات، والسمات! … هنا سِر التناسُق في الخليقة؛ أيْ سِر تضامنها: فأعضاء الجسم متضامِنة في العمل؛ لأنها مختلفة في الوظيفة، ولو أنها تشابهتْ في الوظيفة لمَا تضامنتْ فيما بينها، ولاستقلَّ في الحال كلُّ عضوٍ عن كلِّ عضو، وبهذا الاستقلال يتفكَّك الجسم ويتفتَّت الفرد!
•••
فإذا انتقلنا إلى مجالِ الرأي، وَجَدنا أنَّ اختلاف الآراء في المجتمع البشري ضرورةٌ من ضرورات الطبيعة، أيْ مَظهَر لإرادة الله! … وهنالك فرقٌ بين الاختلاف في الرأي، والاختلاف في العقلية؛ فقَدْ تتشابه العقلية في شخصَين، ويختلف الرأي بينهما!
والمجتمع السليم يجب أن يقوم على قَدْر من الوحدة والانسجام في عقلية الأمة، وأجيالها ومقوِّمات شخصيتها العامة؛ دون أن يؤثِّر ذلك في اختلاف الآراء فيها! … فلا ينبغي أن يشطَّ بنا غرورنا الإنساني؛ فنعتقد أنَّ ما يجول في رأسنا من رأي، يجب أن يسود الناس أجمعين! … ما من رأيٍ واحد يمكن أن يسود هذه الأرض!
إنَّ العالم اليوم منقسمٌ إلى معسكرَين ورأيَين، كلٌّ منهما يريد أن يمحو الآخر من الوجود محوًا: الرأسمالية في جانب، والشيوعية في جانب. وكلٌّ منها يعدُّ من الذرَّة قنبلةً، يُزيل بها خصمه من خريطة الدنيا! … وقد تقع الحرب الفاصلة بينهما، في يومٍ قريب أو بعيد!
ولكن الذي لن يقع، هو وحدة الرأي في هذا العالم، حتى وإنْ ظَفرَ أحدُ الجانبَين بالانتصار الساحق الماحق! … ذلك أنَّه — في تلك اللحظة عينِها — لا يلبث أن ينقسم هذا الرأي الواحد المُنتصِر إلى آراء تختلف وتشتجر! … وهكذا دَوالَيك! … لأنَّ هذا ناموسُ الخالق الأزلي:
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (هود: ۱۱۸).