الاتفاق
ساد الصمت فترة بين «يوجاراجا» و«عثمان»، وكان واضحًا أنَّ كلًّا منهما يقيس قوة الآخر، ومدى قدرة احتماله … وكان «عثمان» يعرف أنَّ «مامو» من أكبر تجار المخدِّرات في الهند، من خلال التقارير التي قرأها عن المنطقة، وقطع حبل الصمت دخول أحد الحراس الذي نادى على «عثمان»، ثم جذبه بعنف إلى الخارج …
كان «عثمان» يعرف أنَّ كل ما يحدث له في السجن هو جزء من التمثيلية المتقنة التي يُخرِجها رقم «صفر» مع رجال الأمن في مصر … لذلك عندما جذبه الحارس بعنف، أدرك أنَّهم يريدون إيهام «يوجاراجا» بجدية شخصية «نظام برهان» التي يتقمَّصها «عثمان».
دخل «عثمان» غرفة، وجد بها ثلاثة رجال … قال أحدهم مبتسمًا: سنقوم ببعض التغييرات في شكلك … أرجو ألَّا تتضايق لأنَّك ستتألم قليلًا!
وتقدم أحد الرجال وأخذ يمزق ملابس «عثمان» في أماكن معينة … وفوجئ «عثمان» بلكمة قوية … أسالت الدماء من أنفه … وكاد يقفز لمواجهة المعتدي، لولا أنَّ الرجل ابتسم قائلًا: معذرة … لا بُدَّ أن تكون الإصابات حقيقية، فهذا المهرِّب ذكي وخطير … ونحن نعتمد عليك!
وأحسَّ بألم في كتفه … ثم بدأت عمليات التضميد بالمطهرات الملونة … وقطع القطن والشاش … ثم أخذوا «عثمان» إلى مرآة كبيرة في غرفة مجاورة … وعندما وقع بصره على ما جرى له، ابتسم … لقد كان واضحًا أنَّه ضُرب بقسوة … ثم قدموا له طعام الغداء … وقالوا له: ستتظاهر بالجوع في الزنزانة … عليك أن تُناديَ في طلب الطعام … وسوف ينهَرك الحارس.
قال له أحد الرجال: والآن أريدك أن تمشيَ متخاذلًا، كأنَّ ساقيك لا تستطيعان حَمْلَك.
وبدأ «عثمان» مِرانَه على المشية … وبدا كأنَّه محطَّم وضعيف … وبعد ساعتين اقتاده الحارس إلى الزنزانة مرة أخرى، ثم قذف به على الأرض … وأخذ عثمان يتأوَّه وهو يزحف إلى ركن الزنزانة …
بدت علامات الدهشة على وجه «يوجاراجا» وهو يرى «عثمان» يزحف ويتأوَّه … ثم فتح الحارس الباب مرة أخرى، وأحضر طعام «يوجاراجا»، وصاح «عثمان»: إنني جائع، الطعام أيها الحارس!
ردَّ «الحارس» بعنف: لن تأكل حتى تعترف!
ثم أغلق الباب بعنف … أخذ «يوجاراجا» يتناول طعامه في صمت … بينما تظاهر «عثمان» أنَّه استسلم للنوم، وبعد نصف ساعة، عاد الحارس مرة أخرى، فأخذ الإناء الفارغ وخرج … واقترب «يوجاراجا» من «عثمان» … وأحسَّ «عثمان» بأنفاس المهرِّب، وهو ينحني عليه ويتأمله … ثم يمد أصابعه ويلمس الجرح الذي في كتفه … وسمِعه يتنهد بارتياح.
ظلَّ «عثمان» نحو ساعتين نائمًا، ثم استيقظ صائحًا في طلب الطعام …
قال «يوجاراجا»: لقد أبقيتُ لك قطعة من الخبز.
ومدَّ يده بها … تناولها «عثمان» بسرعة، وأخذ يقضِمها بشراهة، كأنَّه لم يذق الطعام منذ أيام …
قال «يوجاراجا»: هل عذبوك؟
عثمان: هؤلاء الأبالسة!
يوجاراجا: ماذا يريدون منك؟
عثمان: إنَّهم لم يجدوا ما أحضرته معي … لقد أخفيته في مكان لن يخطر على بال!
يوجاراجا: أين؟
تردَّد «عثمان» قليلًا، ثم قال: لا داعي لأن أذكره لك!
يوجاراجا: إذا قلت، فإنني سأقول لك شيئًا شديد الأهمية!
عثمان: مثل ماذا؟
يوجاراجا: إنني أدبِّر خطة للهرب … وإذا استطعنا أن نهرب ففي إمكاني أن أعرِّفك بالرجل الكبير في القاهرة … ثم أعرفك ﺑ «مامو» إذا خرجنا من مصر.
عثمان: وماذا يهمك في معرفة مكان ما أخفيه؟
يوجاراجا: إنني لا أحتاج سوى النقود … نريد نقودًا كثيرة.
سكت «عثمان»، بينما أخذ «يوجاراجا» يُلحُّ عليه: هناك ثلاثة من زملائي لم يُقبَض عليهم بعد. إنَّهم مختفون في مكان ما … ولكن المشكلة أنَّهم لا يملكون نقودًا كافية لشراء سيارة وتدبير الأسلحة!
عثمان: ولماذا لا يذهبون إلى الرجل الكبير الذي تتحدث عنه؟
يوجاراجا: إنَّه لا يتعامل إلَّا معي.
عاد «عثمان» للصمت من جديد، لقد حصل على معلومات هامة في ساعات قليلة، وعليه إبلاغها … ولكن لا يعرف متى سيخرج مرة أخرى، والأفضل مجاراة «يوجاراجا» فيما يقول …
قال «عثمان»: وما هي خطتك؟
يوجاراجا: عندما نخرج للعرض على النيابة، سيكون زملائي الثلاثة في انتظارنا، لقد درسوا كل شيء … السيارات والشوارع … وقالوا إنَّ في الإمكان تهريبي إذا كان معهم سيارتان وبعض الأسلحة!
عثمان: أعتقد أنَّ في إمكاني تدبير النقود!
كشَّر «يوجاراجا» عن أسنانه لأول مرة في ابتسامة سامة، ثم قال: متى؟
عثمان: لا أدري … ولكن قد يأتي شخص لزيارتي فأُخطره بما يفعل!
يوجاراجا: إذن، كل المطلوب منه أن يتصل برقم تليفون لمقابلة زملائي الثلاثة وتسليمهم النقود.
عثمان: لنفترض أنَّك ذهبت للتحقيق وحدك!
يوجاراجا: أقسم لك أنني لن أغادر هذا البلد إلَّا إذا مكَّنْتُكَ من الهرب معي، إنَّ بيننا كلمة شرف!
عاد «عثمان» للصمت من جديد … ومضت بضع ساعات، تحدث فيها كثيرًا، ثم جاء موعد العشاء … وجاء الحارس بطعام ﻟ «يوجاراجا»، ولم يحضر طعامًا ﻟ «عثمان»، ومرة أخرى ثار «عثمان» ثورة عارمة، وأخذ يقفز كالمجنون في الزنزانة … وجاء بعض الحراس على صراخه، وجرُّوه من الزنزانة إلى الخارج، وأغلقوا الباب.
ظلَّ صوت «عثمان» في الدهاليز مرتفعًا، حتى أدخلوه نفس الغرفة التي كان بها في الصباح … وكان الرجال الثلاثة هناك، وبسرعة روى لهم «عثمان» ما حدث … ووافقوا جميعًا على أن يقوم «عثمان» بمساعدة «يوجاراجا» في الهرب … وفي نفس الوقت ستساعد جهات الأمن «يوجاراجا» أيضًا … وطلب «عثمان» أن يتصل تليفونيًّا، وتحدَّث إلى «أحمد»، وشرح له كلَّ ما حدث.
أحمد: إنَّك تتقدم بسرعة!
عثمان: أريد أن أراك غدًا في السجن.
أحمد: سآتي.
عثمان: لقد قلت ﻟ «يوجاراجا» إنَّ زائرًا سيأتي لزيارتي، وسوف أرتب معه مسألة النقود.
أحمد: سأكون هذا الزائر.