تأسيس (١)
«إذا أراد الله إنشاء دولةٍ خلق لها أمثال هؤلاء.» قالها «عبد المطلب بن هاشم» وهو يشير إلى أبنائه وحَفَدته، فبرغم التفكك القَبَلي في بيئة البداوة التي عاشتها جزيرة العرب، فإن هناك مَن استطاع أن يقرأ الظروف الموضوعية لمدينة مكة بوجه خاص، وأن يخرج من قراءته برؤية واضحة؛ هي إمكانُ قيامِ وَحْدةٍ سياسية بين عرب الجزيرة، تكون نواتها ومركزها «مكة» تحديدًا، برغم واقع الجزيرة المتشرذم آنذاك.
والخطاب هنا — سواء صحَّتْ نسبته للنعمان بن المنذر أو لم تصح — لصاحبِ رؤيةٍ سياسية فذة، حاوَلَ أن يوضح — بإيجاز — الظرفَ الاجتماعي العربي، الذي حال حتى هذا الوقت دون قيام وَحْدةٍ سياسية كبرى لعرب الجزيرة؛ ذلك الظرف المتمثِّل في «نظام قبلي»، و«عصبية عشائرية» كانت من لزوم ما يلزم عن شكل المجتمع البدوي غير المستقر، للإبقاء على دوامِ وجودِ القبيلة؛ باعتبارها وَحْدةً عسكرية مقاتِلة يلزمها التماسُك اللَّزِج دومًا، والذي كانت مادتُه اللاصقة: رابطةَ الدمِ التي اكتسبتْ قدسيةً مفرطة، وهو ما يفسِّر الشكل الديمقراطي البدائي الذي تمتعت به القبيلة؛ بحيث وقف جميع الأفراد داخلها على قدم وساق، بمساواة تامة، وبمعيار الانتساب لأبٍ واحد، وذلك وَحْده كان كفيلًا بإلغاءِ أيِّ تمايز، إضافة لظرفٍ آخَر دعَمَ هذه المساواة؛ وهو مواجَهتهم جميعًا لذات المصير دومًا، كمقاتلين.
والخطاب يوضح أيضًا — بشكل وضاء — الأسبابَ التي لم تؤدِّ بالنظام البدوي إلى إفراز مؤسسات سياسية (ملكية) متوارَثة؛ لأن القبيلة وَحْدة عسكرية طارئة، و«زعامتها بدورها أمر طارئ» متغيِّر، تبعًا لمقتضيات الصراع الناشئ وظروفه؛ تلك المقتضيات التي تحدِّد سمات الزعيم المطلوب آنيًّا؛ وعليه فالزعامةُ كانت تُمنَح منحًا لصاحب القدرات التي تناسب الظرف ومقتضياته، وهي صفات مكتسَبة لا تنتقل بالوراثة؛ على حين ينضوي الجميع في الظروف الاعتيادية تحت لواء الأحكم، الأكبر، الأكثر درايةً والأكثر قدرةً على المنح والعطاء. وفي كلا الحالين «تظل المساواة حاضرة»؛ مما جعل البدوي واعيًا تمامًا لفرديته، مُصِرًّا على الاعتداد بنفسه؛ بإسراف تمثُّله دواوين العرب في الحماسة، والفخر، والاعتزاز بالفرد أو بالقبيلة أو بالنسب.
وفي خطاب «النعمان» دعْمٌ آخَرُ لوجهة نظر «الأسود بن عبد العزى»؛ فهو يؤكد أن الأمم إنما تَقْبل الخضوعَ لملك فرد في وَحْدةٍ سياسية، إذا «تخوَّفت نهوضَ عدوِّها إليها بالزحف». وقد أثبَتَ الحجاز — ومكة بالذات — أنه بعيد المنال، ولا يتخوف نهوضَ عدوِّه إليه؛ فبينما كانت الممالك العربية قد وقعت تحت الاحتلال أو النفوذ الأجنبي — ففقدت اليمن استقلالَها منذ الربع الأول من القرن السادس الميلادي، وسقطت تحت حكم الأحباش ثم الفرس، وفقدت مملكة الحيرة استقلالَها وتحوَّلت إلى إمارةٍ يحكمها أمير فارسي، واضطربت أحوال المملكة الغسانية بعد أن قلب لها الرومان ظهرَ المِجَن — فإن منطقة الحجاز بمدينتَيْها الرائدتَيْن «مكة ويثرب»، كانت تتمتع باستقلالٍ نقي، هيَّأها له وضْعُها الجغرافي، ووعورة الطريق إليها؛ فكانت هي البيئة العربية الخالصة، البعيدة عن مجال الصراع الدولي، وعن التأثر بالحضارات الأجنبية، بدون أن تفقد التواصل معها. ولم تخضع لحاكم أجنبي، ومع ذلك فلم تكن فيها ممالك بالمعنى الحقيقي، «ولا وَحْدة سياسية كبيرة تنتظم أمر قبائل الحجاز جميعًا»؛ وهذا كله إنما هو دعم حقيقي لرأي «الأسود بن عبد العُزى»!
وإزاء كل هذه العوائق الواضحة، والمحبطات السافرة للحُلْم، وللأمل، وللتوقع، لم يجد الآخَرون سوى الاهتداء إلى أنه لا حلَّ سوى أن يكون مُنشِئُ الدولة المرتقَبة نبيًّا مثل داود، وعندما وصلوا إلى هذا، فشا الأمر بسرعة هائلة بين العرب؛ حتى اشتدَّ الإرهاص بالنبي المنتظر خلال فترة وجيزة، وآمَنَ هؤلاء بذلك، وأخذوا يسعَوْن للتوطئة للعظيم الآتي، وإنْ ظلت المشاعر القبلية داخل النفوس التي تهفو للوَحْدة، وظن كلٌّ منهم أن الآتي سيكون منهم، مثل «أمية بن عبد الله الثقفي» الذي راودَتْه نفسه بالنبوة والملك، فقام ينادي:
لكن العجيب فعلًا ألَّا يمضي من السنين غير قليل، حتى تقوم في جزيرة العرب دولة واحدة، بل دولة قوية ومقتدرة، تطوي تحت جناحَيْها — وفي زمنٍ قياسي — ممالكَ الروم والعجم؛ بعد أن أعلن حفيد عبد المطلب بن هاشم: محمد بن عبد الله ﷺ، أنه النبي المنتظر!