تأسيس (٢)
يقول الدكتور «أحمد شلبي» في كتابه «السيرة النبوية العطرة»: إن «أهم مصادر الثروة
عند
العرب ارتبطت بالتجارة، وقد اشتهر العرب في الجاهلية بالتجارة شهرةً واسعة؛ حتى قيل:
«إن كل
عربي تاجر.» وكانت الجزيرة العربية تمثِّل بحرًا واسعًا تخترقه قوافلُ الإبل في شبه مجموعات
من
السفن، تمخُر عُبابَ البحرِ الفسيح، وقد حلَّتْ هذه القوافل محلَّ الملاحة بالبحر الأحمر
الذي كانت
فيه الملاحة عسيرة … وكان هناك طريقان رئيسيان للقوافل؛ أحدهما من الشمال إلى الجنوب،
وغير
بعيد عن البحر الأحمر، وهو في الشمال يتفرع إلى الشمال الشرقي تجاه سوريا، وإلى الجنوب
الغربي تجاه فلسطين، وهو في الجنوب يسير شوطًا مع ساحل حضرموت. أما الطريق الثاني فهو
يخترق
الجزيرة العربية من البحر الأحمر إلى الخليج العربي مارًّا بمكة، ويتفرع في قلب الجزيرة
إلى
فرعَيْن: يتجه أحدهما إلى الشمال الشرقي فيصل شطَّ العرب، ويتجه الآخَر إلى الجنوب الشرقي
ويسير
مع الخليج العربي مارًّا بدبي ومسقط وظفار. ولما وقعت اليمن فريسةَ الاستعمار الحبشي
ثم
الفارسي، استطاع المستعمرون أن يسيطروا على النشاط البحري الذي انكمش انكماشًا ظاهرًا،
أمَّا
النشاط البري داخل الجزيرة، فقد انتقل إلى مكة؛ لأن نفوذ القوى الأجنبية لم يستطع قطُّ
أن
يمتدَّ إلى قلب الجزيرة.»
١
ثم إن الدكتور «شلبي» يعمد إلى إعادة تفصيل هذه المسألة في موضعٍ آخر من كتابه، فيقول:
«إن
هؤلاء البدو استطاعوا أن يلعبوا دورًا مهمًّا في تجارة العالم، في تلك الأزمان السحيقة
… ولم
تكن سفنُ ذلك العهد تستطيع استعمالَ البحر الأحمر المملوء بالجزر، التي تجعل الملاحة
خطرًا
عليها، ومن عيوب الملاحة في البحر الأحمر أيضًا أن شواطئه قليلة الموانئ، وأن به كثيرًا
من
الشطوط الضحلة، التي كان اقتراب السفن منها أمرًا محفوفًا بالخطر. ولم تكن السفن تستطيع
استعمال الخليج الفارسي؛ بسبب وجود الفُرْس على ساحله الشمالي، وهم أعداء لسكان حوض البحر
المتوسط؛ وعلى هذا «أصبحت المواصلات البرية هي الطريق المهم للتجارة عبر البادية»، بين
الشمال
والجنوب، وبين الشرق والغرب، وقد حدَّد البدو أماكن للراحة والاستجمام طوال الطريق، فكانت
بمثابة محطات يتزوَّدون منها بالماء والزاد، وكانت أيضًا بمثابة مخازن يُودِعون فيها
بعضَ
المتاجر لتلحق بقافلةٍ أخرى عبر طريق آخَر.»
٢
ويضيف هنا الأستاذ «أحمد أمين» قوله: إن «طريق البحر لم يكن طريقًا مأمونًا، فالتجأ
التجارُ إلى البر يسلكونه، ولكن طريق البر نفسه كان طويلًا وخطرًا؛ لذلك أحاطوه بشيء
من
العناية؛ كأنْ تخرج التجارة في قوافل، وأن تسير القوافل في أزمنة محددة، وطرق محددة.»
ثم
يشير إلى تحوُّلٍ هو جد خطير؛ برغم أنه كان ناتجًا طبيعيًّا من تحوُّل مكة من مجرد محطة
على
الطريق، تأخذ عشورها وضريبتها، إلى حاضرةٍ تجارية تظهر فيها طبقةٌ من التجار تحتكر الأمر
لنفسها، فيقول:
ثم انحطَّ اليمنيون … وحلَّ محلَّهم في القبض على ناصية التجارة عربُ الحجاز، وكان
ذلك منذ بداية القرن السادس للميلاد؛ فكان هؤلاء الحجازيون يشترون السلعَ من اليمنيين
والحبشيين، ثم يبيعونها على حسابهم في أسواق الشام ومصر، وقليلًا ما كانوا يبيعونها في
أسواق فارس؛ لأن التجارة مع الفرس كانت في يد عرب الحيرة. وجعل عرب الحجاز مكة قاعدةً
لتجارتهم، ووضعوا الطريق تحت حمايتهم.
٣
ومصداقًا لقول الأستاذ «أحمد أمين» نجد الروايات الإخبارية تُجمِع على قيام «تبع»
ملك اليمن
في وقت مبكر بحملةٍ لإخضاع مكة ويثرب، كأهم المحطات التجارية على الطريق.
ويقول «المسعودي»: «وهو الملك السائر من اليمن إلى الحجاز، وكانت له مع الأوس والخزرج
حروب، وأراد هدْمَ الكعبة، فمنعه مَن كان معه من أحبار يهود.»
٤
كما تُجمِع هذه الروايات على عدد آخر من محاولات ملوك حمير التبابعة، لتوسيع نفوذهم
وسيطرتهم على الخطوط التجارية في أماكن مختلفة من الجزيرة، ومنها قيام «تبع بن ملكي كرب»
بتجريد حملتين: الأولى على طريق التجارة مع الفرس، وقصدت منطقة الحيرة؛ والثانية على
طريق
الشام مصر، وقصدت الحجاز؛
٥ هذا إضافة إلى حملة الفيل المشهورة على مكة. ولعل الصراع الذي نشأ في اليمن بين
الديانة اليهودية والديانة المسيحية كان ناتجَ سعْيِ الرومان للحدِّ من نفوذ اليمن وسيطرته
على
الشريان التجاري. وعادةً ما اتخذ مثل ذلك الصراع أشكالًا دينية، وقد بدأ بلا جدال في
تحالف
الحبشة — كمنافس لليمن — مع الروم، واعتناق المسيحية، من أجل دعم سيطرتهم على الطريق
التجاري. ثم ظلت اليمن محلًّا لاصطراع الروم والفرس، أو اصطراع المسيحية المدعومة من
الروم،
واليهودية المدعومة من الفرس، «لظروف اقتصادية بحتة»؛ حتى الفتح الإسلامي سنة ٦٢٨م.
وقد فشلت الحملات جميعها على الحجاز ولم تحقِّق أغراضها، وما إنْ أطلَّ القرن السادس
على
ربعه الأخير، حتى بدأت المنافسة بين مكة ويثرب — أهمِّ محطتَيْن في الحجاز — تبدو أكثرَ
وضوحًا.
وكان ممكنًا أن تصبح يثرب صاحبةَ شأنٍ خطير في العصر الجاهلي، بحسبانها محطة مرور ضرورية
يمر
عليها الطريق التجاري القادم من مكة شمالًا، لولا دخولها مرحلة تمزُّق، نتيجةَ الخلافاتِ
الداخلية التي ربما كان سببها تركيبها الهجين؛ فبرغم تجانُس السكان — فسكانها من الأوس
والخزرج من اليمن وبطون اليهود يعودون إلى أصول يمنية — فإن العامل الديني ووجود اليهود
فيها كان لا شك عاملًا مؤجِّجًا للصراع الداخلي، حتى أشرفت على هلاكٍ كاملٍ أدَّى بها
إلى محاولة
سبق لمكة؛ فكادت تقوم بها مملكة على يد «عبد الله بن أُبَي بن أبي سلول» قبل الهجرة
النبوية إليها.
٦
«ولم تكن قريش بريئةً كلَّ البراءة مما يحدث في يثرب»، وإنما أسفرت عن توجُّهها بالتحالف
مع
الأوس ضد الخزرج يومَيْ معبس ومضرس، وهو مما يلقي الضوء على المستقبل القريب؛ «عندما
يتحالف
أهل يثرب وعلى رأسهم الخزرج مع النبي
ﷺ ضد قريش»، ويفسر لنا التحالف الذي سبق ذلك بين
عبد المطلب بن هاشم ممثِّلًا لبني هاشم، وبين الخزرج من أهل يثرب.
ومع نهاية القرن السادس الميلادي نجد مكة تقف على الطريق، مالكةً لمركز رئاسي لا
شك فيه،
بعد أن أتاحت لها الظروف الداخلية تجميعَ التجارة الخارجية في يدها، وأتاحت لها الظروف
الخارجية أن تستغل الأوضاع العالمية لصالحها، خاصةً الصراع الدولي الهائل بين الروم والفرس
في الشمال والجنوب، وهو الأمر الذي أعانها على «القيام بأمر تجارة العالم، والنجاح فيه
بكفايةٍ أكسبتْ أهلَ مكة ثروةً عظيمة»، فحظيت باحترام عربي عام؛ حتى باتت مؤهَّلةً للزعامة،
في وقت
أخذ فيه العرب يتطلعون إلى منطقة عربية مستقلة تتولى زعامة النهضة العربية وتقودها. أو
كما
يقول الدكتور «أحمد الشريف»: «أصبحت أهلًا لأن تكون موضع النواة في قيام نهضة قومية عربية،
واطمأنت قريش إلى هذا المركز، وعملت على دعمه، وحرصت على دوامه.»
٧