بنو هاشم من التكتيك إلى الأيديولوجيا
على الرغم من أن ألوية السيادة المستقرة في بيت عبد الدار قد كفَلَتْ له اختصاصاتِ
التحكم
والقوة، فإن تكتيك هاشم اتجه منحًى آخَرَ تمثَّلَ في اكتساب القلوب؛ فقام يهشم الثريدَ
لقومه بيدَيْه
— لذلك لُقِّب هاشمًا — ومدَّ بسخائه القاصي والداني، أمَّا اسمه الحقيقي فكان عمرو.
يقول ابن
كثير: «هاشم واسمه عمرو، سُمِّي هاشمًا لهشمه الثريدَ مع اللحم لقومه في سِنِي المحل،
كما قال
مطرود بن كعب الخزاعي في قصيدته، وقيل للزِّبَعْرى والد عبد الله:
عمرو الذي هشَمَ الثريدَ لقوْمِه
ورجالُ مكَّة مسنتونَ عِجاف
سنتْ إليه الرِّحلتانِ كِلَاهما
سَفَر الشتاءِ ورِحْلة الأَصْياف
وذلك لأنه أولُ مَن سَنَّ رحلتَيِ الشتاء والصيف.»
١
وإذا كان هاشم هو أول مَن سنَّ رحلتَي الشتاء والصيف؛ فلا ريب أنه فعل ذلك في الوقت الذي
بدأت فيه قريش تتحوَّل من مجرد حارس وقابض للعشور، أو مجرد محطة ترانزيت، إلى بلدة تحتكر
التجارة لنفسها، وتتاجر في بضائع الأمم بأموالها. ولنلحظ أن القرآن الكريم يربط بعد ذلك
بين
هذا العامل الاقتصادي المتمثِّل في التجارة — وأثر ذلك في التقرش والاستقرار — والعامل
الديني؛ في قوله:
ِلِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ
رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي
أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ. وحول الفهم نفسه يكتب
الدكتور «أحمد شلبي» قوله: «فأصبحت مكة «جمهورية صغيرة تجارية» … وراجت تجارة مكة، فأخذت
قريش توطِّد مركزها في البلد الحرام؛ فسنَّتْ … رحلتَيْ الشتاء والصيف؛ رحلة الشتاء إلى
اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام؛ فارتفعت مكانة مكة في الجزيرة، واعتُبِرت العاصمة المعترف
بها، وسَمَتْ منزلةُ سوق عكاظ؛ فأصبح ملتقى الخطباء وقطب الدائرة الفكرية … وهاشم الجَد
الثاني للرسول كان سفيرَ قريش لدى الملوك، وقد عقد مع الروم معاهدةً تجارية لتذهب تجارة
قريش إلى الشام في أمان ومَنَعة.»
٢
لكن هاشمًا أعطى الوضع المتأزم أبعادًا جديدة، عندما دعم قوى حزبه العسكرية برجال
الحرب
والدم والحلقة من بني النجار والخزرج في يثرب؛ فشدَّ الوثاقَ بهم بأن «تزوَّجَ سلمى بنت
عمرو من
بني النجار من الخزرج»؛
٣ ليكون ذلك لحزب عبد الدار وعبد شمس إعلانًا صريحًا عن قيام التحالف بين الحزب
الهاشمي وأهل الحرب اليثاربة، وترك ولده شيبة المعروف بعبد المطلب ينمو ويربو ويرضع
الفروسية بين أخواله، حيث كان كل التاريخ الديني يتواتر هناك في مقدسات اليهود.
وبموت هاشم تولَّى أخوه المطلب منصب السقاية والرفادة والقيادة، «والمطلب كان يُقال
له
القمر لحُسْنه» فيما يزعم ابن كثير.
٤ ثم إنه اتبع أسلوب أخيه وسياسته في اجتذاب القلوب بالكرم والعطاء والبذل؛ فنال
ألقابَ المحبة والتكريم، حتى لقَّبوه لجوده بالفَيْض.
ولم يَطُلِ العمرُ بالمطلب سيدًا؛ فقد رحل تاركًا استكمال المهمة الجليلة لابن أخيه؛
ذاك
العبقري الفذ شيبة بن هاشم المعروف بعبد المطلب، الذي تربى صغيرًا في كنف أخواله من أهل
الحرب اليثاربة، ثم تزوَّجَ بنت جناب بن كليب الخزرجي شدًّا للأواصر ومدًّا للوثاق.
٥ وكان واضحًا من البداية فهمه الثاقب لأبعاد الأوضاع في مكة؛ فحرص على استدامة
حلف المطيبين بالزواج من بني زهرة. ومن المهم هنا أن نذكر أنه عند عودته من المدينة إلى
مكة
ليتبوَّأ مكانَ عمه المطلب، وجد عمَّه نوفلًا قد وضع يده على أملاكه خارجًا عن حياده
مستهينًا
بحداثة سِنِّه، إلا أن عبد المطلب كتب من فوره إلى أخواله بني النجار في يثرب مستنصرًا:
أبلِغْ بني النجارِ أنَّى جِئتَهم
أني منهم وابنهم والخميس
رأيتهم قومًا إذا جِئتُهم
هَووا لِقائي وأحَبُّوا حسيس
فإنَّ عمي نوفلًا قد أبى
إلَّا التي يغضُّ عنها الخسيس
٦
وما كاد إبراقه يصل الأخوال، حتى قدحت حوافز خيول ثمانين محاربًا يثربيًّا بالبرق،
يحملون
السيوف إلى مكة؛ مما دفع نوفلًا إلى التراجع من فوره، وردَّ أملاكَ عبد المطلب إليه،
لكنه أعلن
خروجَه على حياده، وانحيازه لحزب عبد الدار وعبد شمس، ضد عبد المطلب وحزبه الهاشمي. وهذا
ما
تشرحه لنا السيرة الحلبية عن المطلب وابن أخيه في قولها: «وكان شريفًا مطاعًا جَوَادًا،
وكانت قريش تسمِّيه الفيَّاض لكثرة جُوده، فلما كبر عبد المطلب فوَّضَ إليه أمرَ السقاية
والرفادة.
فلما مات المطلب وثب عليه عمُّه نوفل بن عبد مناف، وغصبه أركاحًا (أيْ أفنية ودُورًا)
… فكتب
إلى أخواله بني النجار بالمدينة بما فعله معه عمُّه نوفل، فلما وقف خاله أبو سعد بن عدي
بن
النجار على كتابه بكى، وسار من المدينة في ثمانين راكبًا حتى قَدِم مكة، فنزل بالأبطح؛
فتلقَّاه
عبد المطلب وقال له: المنزل يا خال. فقال: لا والله حتى ألقى نوفلًا. فقال: تركته في
الحجر
جالسًا في مشايخ قريش. فأقبل أبو سعد حتى وقف عليهم، فقام نوفل قائمًا وقال: يا أبا سعد
أنعم صباحًا. فقال له أبو سعد: لا أنعم الله لك صباحًا. وسلَّ سيفه، وقال: وربِّ هذه
البنية
(الكعبة)؛ لَئِنْ لم تردَّ على ابن أختي أركاحَه، لَأملأنَّ منك هذا السيف. فقال: لقد
ردَدْتُها عليه …
ولمَّا جرى ذلك حالَفَ نوفل وبنوه بني أخيه عبد شمس على بني هاشم.»
٧
أما الطبري فيقول: «فلما رأى ذلك نوفل، حالَفَ بني شمس كلها على بني هاشم. قال محمد
بن أبي
بكر، فحدَّثَ بهذا الحديث موسى بن عيسى، فقال:
يا ابن أبي بكر، هذا شيء ترويه الأنصار تقرُّبًا
إلينا، إذ صيَّرَ الله الدولة فينا؛ عبد المطلب كان أعزَّ في قومه من أن يحتاج إلى أن
تركب بنو
النجار من المدينة إليه. قلت: أصلَحَ الله الأمير؛ قد احتاج إلى نصرهم مَن كان خيرًا
من عبد
المطلب. قال وكان متكئًا فجلس مغضبًا، وقال: مَن خير من عبد المطلب؟ قلت: محمد رسول الله
ﷺ. قال: صدقتَ. وعاد إلى مكانه وقال لبنيه: اكتبوا هذا الحديث عن ابن أبي بكر.»
٨
ويتضح لنا وعْيُ عبد المطلب بن هاشم السياسي، وبُعْدُ نظره، وحِسُّه القومي؛ في قيادته
وفدًا إلى
اليمن برفقة ابن أخيه أمية (قبل النزاع المشار إليه)، وحلفائه: أبي زمعة جَدِّ أمية بن
عبد
الله بن أبي الصلت — وسيكون لأمية هذا شأن — وخويلد الأسدي بن أسد بن عبد العزى (ومن
الواجب
ملاحظة امتداد ذلك التحالف في زواج حفيد عبد المطلب، النبي محمد
ﷺ، من السيدة خديجة
بنت خويلد الأسدي رضي الله عنها) في الوقت الذي استمر فيه على التكتيك الهاشمي؛ بأنْ
سار
على السُّنَّة الكريمة المعطاء بالجود؛ حتى لقَّبَه الناس: شيبة الحمد.
٩
لكن الجديد في أمره هو عمله على وضع أيديولوجيا متكاملة لتحقيق أهداف حزبه؛ فكان إدراكه
النفاذ لسُنَّة جَدِّه قصي الدينية والسياسية مساعِدًا على تحديد الداء ووصف الدواء؛
والداء فرقة
قَبَلية عشائرية، والأسباب تعدُّد الأرباب وتماثُل الشفعاء. ومن هنا انطلق «عبد المطلب
يضع أسس
فَهْمٍ جديد للاعتقاد؛ فَهْمٍ يجمع القلوبَ عند إله واحد»، ويتميز بأنه يلغي التماثيل
والأصنام
وغيرها من الوساطات والشفاعات؛ لأنه لا يقبل من أحدٍ وساطةً ولا شفاعةً إلا العمل
الصالح!
وتمهيدًا لما أزمع، أعلن في الناس: أنه بينما كان نائمًا في الحجر بالكعبة أتاه رئي،
وغتَّه ثلاثَ مرات، وأوحى إليه الأمر بحفر البئر المعروفة باسم زمزم. وتقول كتب الأخبار
الإسلامية إنها كانت بئرًا لجرهم بين صنمَيْ إساف ونائلة، دفنَتْها حين تركت مكة.
١٠ نعم، لقد تمثَّلَ تنافُس بني العمومة من قبلُ في احتفار الآبار، جذبًا للقبائل وقوافل
التجارة، فقديمًا حفر عبد الدار «أم جراد»، ولما حفر عبد شمس «الطوى»، ردَّ عليه هاشم
بحفر
«بدر»، فزاد أمية في الكرم وحفر «الحضر»، فردَّ عليه عبد المطلب بحفر «زمزم».
١١ لكن زمزم ليست ككل الآبار؛ فهي البئر الوحيدة التي قيل فيها إنها حُفِرت بأمرٍ
غيبي — في حُلْم عبد المطلب — إضافة إلى ما شاع يتردَّد حول أمرها، بحسبانها فعلًا إلهيًّا
لا
إنسانيًّا، فجَّرَها الله قديمًا تحت خد إسماعيل بن إبراهيم (عليه السلام) ليشرب وأمه
منها. وفي
ذلك يقول ابن هشام في السيرة: «فضلُ زمزم على سائر المياه: فعفت زمزم على المياه التي
كانت
قبلها يسقى عليها الحُجَّاج، وانصرف الناس إليها لمكانها في المسجد الحرام، ولفضلها عمَّا
سواها
من المياه، ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام …»
١٢
ويقدِّم لنا ابن كثير نصَّ هذا الأمر أو الوحي بحفر زمزم، وهو:
احْفِرْ زَمْزَم، إنَّكَ إِنْ حَفَرْتَهَا لَنْ تَنْدَم، هِيَ تُرَاثٌ مِنْ
أَبِيكَ الْأَعْظَم، لَا تَنْزِفُ أَبَدًا وَلَا تُذَم، تَسْقِي الْحَجِيجَ
الْأَعْظَم، مِثْلَ نَعَامٍ حَافِلٍ لَمْ يُقْسَم، وَيَنْذِرُ فِيهَا نَاذِرٌ
لِمُنْعِم، تَكُونُ مِيرَاثًا وَعَقْدًا مُحْكَم، لَيْسَتْ كَبَعْضِ مَا قَدْ
تَعْلَم، وَهِيَ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّم.
١٣
ثم يعقب بالقول: إن عبد المطلب «ساد في قريش سيادة عظيمة، وذهب بشرفهم ورئاستهم؛
فكان
جِماعُ أمرهم عليه، وكانت إليه السقاية والرفادة بعد المطلب، وهو الذي جدَّدَ حفر زمزم
بعدما
كانت مطمومة من زمنِ جرهم، وهو أول مَن طلى الكعبة بذهبٍ في أبوابها، من تينك الغزالتين
اللتين
من ذهب، وجدهما في زمزم مع تلك الأسياف القلعية.»
١٤ ثم يؤكد أن عبد المطلب كان مؤسسًا لملة واعتقاد، فيروي عن ابن عباس وابن عمرو
ومجاهد والشعبي وقتادة … (عن ديانة أبي طالب بن عبد المطلب): «هو على ملة الأشياخ … هو
على
ملة عبد المطلب.»
١٥
ويبدو أن أخطر شأن في هذه الملة وفي أمر عبد المطلب جميعه، هو إدراكه للنسب وخطورته
بين
الأعراب، بحسبانه العامل الجوهري في تفككهم السياسي؛ لاعتزاز كل قبيلة بنسبها القَبَلي
—
والذي ظلَّ مستبطنًا في بطن التحول الجديد للبنية الاجتماعية المكية — ومن هنا كان إعلانه
أن
العرب جميعًا وقريش خصوصًا، «يعودون بجذورهم إلى نسب واحد؛ فهم برغم تحزُّبهم وتفرُّقهم،
أبناء
لإسماعيل بن إبراهيم»؛ لذلك، ولأنه ينتمي إلى هذه السلالة الشريفة، فقد أعلن في الناس
تبرُّؤَه
من أرجاس الجاهلية، وعودته إلى دينِ جَدِّه إبراهيم، ودينُ إبراهيم هو الفطرة الحنيفية
التي ترفض
أيَّ توسُّطٍ بين العبد والرب، فإذا أهَلَّ رمضانُ صعَدَ إلى غار حِراء متحنفًا، ثم عاد
ينادي قومه أنه
قد حرَّمَ على نفسه الخمر،
١٦ وكل ضروب الفسق؛ حاثًّا على مكارم الأخلاق، داعيًا الناس لاتِّباعه، مؤمنًا بالبعث
والحساب والخلود، هاتفًا: «والله إن وراء هذه الدار دارًا يُجزَى فيها المحسِن بإحسانه،
ويُعاقَب
فيها المسيء بسيئاته.» ثم لا يلبث أن «يبشِّر قومه بقرب قيام الوَحْدة السياسية»، فيشير
إلى
أبنائه وحَفَدته الذين أصبحوا له عزوةً وشدَّ أَزْر، ويقول: «إذا أحبَّ اللهُ إنشاءَ
دولة، خلق لها
أمثالَ هؤلاء.»
١٧ أولئك الأبناء الذين كاد يقدِّم أحدهم ذبيحًا (ابنه عبد الله أبو النبي عليه
السلام) كما كاد يفعل جَدُّه البعيدُ إبراهيم (عليه السلام) مع ولده إسماعيل (عليه
السلام).
وفي أمر عبد المطلب يقول المسعودي: «تنازع الناس في عبد المطلب، فمنهم مَن رأى أنه
كان
مؤمنًا موحدًا، وأنه لم يشرك بالله عز وجل … وكان عبد المطلب يوصي بصلة الأرحام وإطعام
الطعام ويرغِّبهم ويرهِّبهم، فعل مَن يراعي في المتعقب معادًا وبعثًا ونشورًا.»
١٨ هذا بينما يتحدث الأستاذ العقاد عن صراع الهاشميين وأبناء عمومتهم على الرئاسة،
وعن عبد المطلب بوجهٍ خاص فيقول: «وقد تنافَسَ بنو هاشم وبنو أمية على هذا الشرف، فأسفرت
المنافسة بينهم عن فارقٍ ملحوظ في الطباع؛ ملحوظِ الأثر في خلائق الأسرتين من أيام الجاهلية
إلى ما بعد الإسلام بعدة قرون … لقد كان بنو هاشم — أسرة النبي
ﷺ — أصحاب رئاسة، وكانت
لهم أخلاق رئاسة … وكان عبد المطلب متدينًا صادق اليقين، مؤمنًا بمحارم دينه … وكان في
الحق
نمطًا فريدًا بين أصحاب الطبائع التي فُطِرت على الاعتقاد ومناقب النبل والإيثار. كانت
مناقبه
مطلبية تدل عليه ولا تَصْدر عن غيره، وكانت كلها مزيجًا من الأَنَفة والرصانة والاستقلال
…
وأدعياءُ التاريخ خلقاءُ أن يسألوا أنفسَهم هنا سؤالين، لا يغفلهما أحد يفقه معنى تمحيص
الخبر،
وأولهما في هذا السياق: «لماذا يخترع الرواة هذه الأخبار عن عبد المطلب دون غيره؟» وثانيهما:
لماذا لم يخترعوها ولا اخترعوا أمثالها عن حرب بن أميَّة؟ وكل ما تفرَّقت فيه الروايات
من أمر
عبد المطلب قد استقرت على صفةٍ لا تفترق فيها روايتان، وهي «صدق التدين والإيمان بمحارم
الدين».»
١٩
هذا بينما يقول الحافظ السيوطي: «إن أجداده (عليهم السلام) من آدم إلى مرة بن كعب
مصرَّحٌ
بإيمانهم …» وقد ذكر في عبد المطلب «أنه كان على ملة إبراهيم (عليه السلام)؛ أيْ لم يعبد
الأصنام …»
٢٠ كما جاء عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله
ﷺ: «يُبعَث جدي
عبد المطلب في زي الملوك وأبهة الأشراف …» وكان أبو طالب ممَّن «حرَّمَ الخمرَ على نفسه»
في
الجاهلية كأبيه عبد المطلب.
٢١
وليس أدل على مثل هذه التوجهات بشأن عبد المطلب مما «زعمه الإخباريون» من اعتقاد العرب
في
شأنه، كصاحب ملة، وكرجل له نوعٌ ما من العلاقة بالسماء؛ وفي أنه ثمة رابطٌ بين ذلك «وعلمه
اليقيني المسبق بأن حفيده؛ محمد بن عبد الله
ﷺ هو نبي الأمة وموحدها المنتظر». فتشير
كتب التراث إلى أن قريشًا استقت به من السماء بعد جَدْبٍ أشرفَتْ معه على الهلاك؛ فصعد
بهم ومعه
حفيده إلى جبل أبي قبيس ينادي ربه: «اللهم هؤلاء عبيدك وبنو عبيدك وإماؤك وبنو إمائك،
وقد
نزل بهم ما ترى، وتتابعت علينا السنون، فذهبت بالظِّلْف والخُفِّ والحافِر (أيِ الإبل
والبقر والخيل
والبغال والحمير)، فأشفت على الأنفس (أيْ أشرفَتْ على ذهابها)، فأذهبن عنا الجَدْب وائتنا
بالحيا
والخصب.» فما برحوا حتى سالت الأودية. أما الاعتقاد الثابت لدى هؤلاء فقد كان هو: «له
فخر
يكظم عليه (أيْ يسكت عنه ولا يُظهِره)، وسُننٌ يهتدي بها (أيْ يرشد إليها).» وفي الاستسقاء
به قالت
رقيقة بنت أبي صيفي شعرها:
بشَيْبةِ الحمْدِ أَسْقى اللهُ بَلْدتَنا
وقد عُدِمْنا الحَيَا واجْلَوَّذَ المَطَر
٢٢
ولا بأس هنا من إيراد نصٍّ يحكي عن اعتقاد في علاقة عبد المطلب وسننه بالسماء، واستجابة
السماء له؛ يقول:
ولما سقوا لم يصل المطر إلى بلاد قيس ومضر، فاجتمع عظماؤهم (وذهبوا إليه يقولون):
قد أصابتنا سنون مجدبات، وقد بان لنا أثرك وصحَّ عندنا خبرك، فاشفعْ لنا عندَ مَن شفعك،
وأجرى الغمامَ لك. فقال عبد المطلب: سمعًا وطاعة … ثم قال: اللهم رب البرق الخاطف،
والرعد القاصف، رب الأرباب، ومليِّن الصعاب، هذه قيس ومضر، من خير البشر، قد شعثَتْ
رءوسها، وحدبتْ ظهورُها، تشكو إليك الهُزال، وذَهابَ الناس والأموال، اللهم فافتحْ لهم
سحابًا خوارة، وسماء خرارة، لتضحك أرضهم، ويزول ضرهم. فما استتمَّ كلامه حتى نشأت
سحابة سوداء دكناء، لها دوي، وقصدت نحو عبد المطلب، ثم قصدت نحو بلادهم؛ فقال عبد
المطلب: يا معشر قيس ومضر، انصرفوا فقد سُقِيتم. فرجعوا وقد سُقوا.
٢٣
أما ما جاء عن فخر له يكظم عليه ولا يُظهِره؛ فقد كان زعمًا واضحًا في الحديث المتواتر
في
كتب السير والأخبار، عن اللقاء السري الذي تم بينه وبين سيف بن ذي يزن، عندما قاد وفد
قريش
لتهنئته باستقلال بلاده عن الحبشة. وبهذا الشأن يورد ابن عبد ربه ما زعم أنه دار في هذا
اللقاء، في حديثٍ مسجوعِ الفواصل؛ فقال سيف — فيما يزعمون — لعبد المطلب:
إني مفوِّضٌ إليك مِن سر علمي أمرًا لو غيرك كانَ لم أَبُحْ له به، ولكني رأيتك موضعَه
فأَطْلعتُك عليه، فليكنْ مَصُونًا حتى يأذن الله فيه، فإن الله بالغ أمره. فإني أجد في
العلم المخزون، والكتاب المكنون الذي ادَّخرناه لأنفسنا، واحتجبناه دون غيرنا، خيرًا
عظيمًا، وخطرًا جسيمًا، فيه شرفُ الحياة، وفضيلةُ الوفاة، للناس كافة ولرهطك عامة،
وبنفسك خاصة … إذا وُلِد مولودٌ بتهامة، بين كتفَيْه شامة، كانت له الإمامة، إلى يوم
القيامة … هذا حينُه الذي يُولَد فيه، يموت أبوه وأمه، ويكفله جَدُّه وعمه، وقد وجدناه
مرارًا، والله باعثه جهارًا، وجاعل له منا أنصارًا (المقصود هنا أهل يثرب؛ فهم من
أصل يمني)، يُعِز بهم أولياءه، ويُذِل بهم أعداءه، ويفتتح كرائمَ الأرض، ويضرب بهم الناس
عن عرض، يُخمِد النيران، ويكسر الأوثان، ويعبد الرحمن، قوله حكم وفصل، وأمره حزم
وعدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله … والبيتِ ذي الطنب، والعلاماتِ
والنصب، إنك يا عبد المطلب، لَجَدُّه من غير كذب. فخَرَّ عبد المطلب ساجدًا … قال ابن
ذي
يزن: اطوِ ما ذكرتُ لك دون هؤلاء الرهط الذين معك؛ فإني لستُ آمنًا أن تدخلهم
النفاسة، في أن تكون لكم الرياسة، فيبغون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، وهم
فاعلون وأبناؤهم.
ويردف ابن عبد ربه القول: إن ابن ذي يزن «أمَرَ لكلٍّ منهم بعشرة أعبد، وعشر إماء
سود، وخمسة
أرطال فضة، وحلتين من حلل اليمن، وكرش مملوءة عنبرًا، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك.
فكان عبد المطلب بن هاشم يقول: يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك؛ فإنه
إلى
نفاذ، ولكن يغبطني مما يبقى لي ذكره وفخره لعقبي. فإذا قالوا له: وما ذاك؟ قال: سيظهر
بعد حين.»
٢٤
وعن اليقين بعلم عبد المطلب بأمر حفيده؛ يتحدث كَتَبة التراث مسلِّمِين بالأمر كما
لو كان
حقائقَ صادقة صدقًا مطلقًا، ثم يقصُّون أقاصيص تعبِّر عن هذا التسليم وذاك اليقين؛ فيذكرون
عن
ولده العباس (رضي الله عنه) قوله: «قال عبد المطلب: قَدِمتُ من اليمن في رحلة الشتاء،
فنزلنا
على حَبْر من اليهود يقرأ الزَّبُور، فقال: مَن الرجل؟ قلت: من قريش. قال: من أيِّهم؟
قلت: من بني
هاشم. قال: أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك؟ قلت: نعم ما لم يكن عورة. قال: ففتح إحدى منخري
فنظر
فيها، ثم نظر في الأخرى، فقال: أنا أشهد أن في إحدى يديك ملكًا، وفي الأخرى نبوة، وإنما
نجد
ذلك (أيْ كلا الملك والنبوة) في بني زهرة! فكيف ذاك؟! قلت: لا أدري … فقال: إذا تزوجتَ
فتزوَّجْ
منهم. فلما رجع عبد المطلب إلى مكة تزوَّجَ هالة بنت وهيب بن عبد مناف! فولدَتْ له حمزة
وصفية.
وزوَّجَ ابنه عبد الله أمنة بنت وهب أخي وهيب، فولدَتْ له رسول الله
ﷺ فكانت قريش تقول:
فلح عبد الله على أبيه؛ أيْ فاز وظفر … ثم رأيت في أُسْد الغابة … أن عبد المطلب تزوَّجَ
هو وعبد
الله في مجلس واحد … وجاز أن يكون الملك والنبوة اللذان تكلَّمَ عنهما الحَبْر، هما نبوته
وملكه
ﷺ لأنه أُعطِيهما.»
٢٥
وعليه فإن هذا الخبر — سواء حلَّ محلَّ الصدق من عدمه — يشير إلى أن علماء الأخبار
يريدون
تأكيد علم عبد المطلب، بل سعيه لتحقيقه وإنجاحه. وثمةَ شاهدٌ آخَر يتفق عليه الرواة،
ويقول عنه
البيهقي: «كان يُوضَع لعبد المطلب جَدِّ رسول الله
ﷺ فراشٌ في ظل الكعبة، فكان لا يجلس
عليه أحدٌ من بنيه إجلالًا له، وكان رسول الله
ﷺ يأتي حتى يجلس عليه؛ فيذهب أعمامه
يؤخرونه، فيقول جَدُّه عبد المطلب: دعوا ابني. فيمسح على ظهره ويقول: إنَّ لِابني هذا
لَشأنًا.»
٢٦ أو بتعبير السيرة الحلبية: «دعوا ابني، إنه لَيُؤنِسُ مُلكًا.» أو قولها: «دعوا
ابني يجلس عليه، فإنه يحس في نفسه بشرف (أيْ يتيقَّن من نفسه شرفًا)، وأرجو أن يبلغ من
الشرف ما
لم يبلغه عربي قبله ولا بعده.»
٢٧ أو بتعبير ابن كثير: «دعوا ابني، فوالله إنَّ له لَشأنًا … دعوا ابني، إنه يُؤسِّس مُلكًا.»
٢٨ ثم كان يشتد وَجْدُ الجدِّ بالحفيد: «فقال عبد المطلب لبنيه: تحفظوا بابن أخيكم.»
أو قوله لأم أيمن حاضنته: «يا بركة … لا تغفلي عن ابني؛ فإن أهل الكتاب — أي ومنهم سيف
بن
ذي يزن — يزعمون أنه نبي هذه الأمة، وأنا لا آمَنُ عليه منهم.»
٢٩ ويروي البيهقي: «فكان عبد المطلب فيما يزعمون يوصي أبا طالب برسول الله
ﷺ، وذلك أن عبد الله وأبا طالب لأمٍّ، فقال عبد المطلب — فيما يزعمون — فيما يوصي به
(واسمُ أبي طالبٍ عبدُ مناف):
أُوصِيكَ يا عبْدَ مَنافٍ بَعْدي
بمُوحَدٍ بعدَ أبيهِ فَرْدِ
فارَقَه وهو ضَجِيعُ المَهْد
فكنتُ كالأمِّ لَه في الوَجْدِ
إنَّ الفَتى سيِّدُ أهلِ نَجْد
يَعْلُو على ذِي البَدنِ الأَشَدِّ
٣٠
وبما أنَّ لكل مجتهد نصيبًا؛ فقد أتت مساعي عبد المطلب وجهوده التي لم تَكِلَّ بثمارها،
وأتبعه
كثيرون على ملته الإبراهيمية وعقيدته الحنيفية، التي لم يستنكف المؤرخون والباحثون من
نعتها
ﺑ «دين عبد المطلب».
٣١ ومن هؤلاء التابعين (وفيهم السابقون الممهدون): قس بن ساعدة الإيادي، وأمية بن
أبي الصلت، وأرباب بن رئاب، وسويد بن عامر المصطلقي، ووكيع بن سلمة بن زهير الإيادي،
وعمير
بن جندب الجهني، وأبو قيس صرمة بن أبي أنس، وعامر بن الظرب العدواني، وعلاف بن شهاب
التميمي، والمتلمس بن أمية الكناني، وزهير بن أبي سلمى، وخالد بن سنان بن غيث العبسي،
وعبد الله القضاعي، وكعب بن لؤي بن غالب، وعبد الطابخة بن ثعلب، وزيد الفوارس بن حصين،
وزيد بن
عمرو بن نفيل،
٣٢ وأكثم بن صيفي، وأبو قيس بن الأسلت، وحنظلة بن صفوان، وغيرهم كثير. وبانتشار
الأيديولوجيا الحنيفية بدأ أتباعها يتنافسون في التقوى والتسامي الخُلقي؛ علَّ أحدهم
يكون
نبيَّ الأمة وموحِّد كلمتها، حتى شكَّلوا «تيارًا قويًّا، خاصةً قبل ظهور الإسلام بفترة
وجيزة.»
٣٣