الفصل الثاني
(١) في قصر الملك
ابتهج الدرويش وولده بما ظفرا به من نعمة الحرية، وزاد ابتهاجهما تلك الهدية النفيسة التي أهدتها السعلاة إليهما. وما زالا يجدّان السير حتى بلغا المدينة. وكان أول خاطر مرّ بذهن الغلام هو أن يذهب إلى ملك بنارس ليحرس كنوزه ونفائسه من عدوان اللصوص، بعد أن ظفر بالطلسم العجيب.
وقد أسرع إلى القصر الملكي، وقابل وزير الملك، وأفضى إليه برغبته، واستعداده لحراسة الكنوز الملكية من كل عاد (معتد)، لأنه خبير باقتصاص الأثر (تتبعه) خبرة نادرة لا يشركه فيها أحد من الناس.
فقال له الوزير: «أصادق أنت فيما تقول؟»
فأجابه الغلام: «إي وربّي، إنه لحق لا ريب فيه، وستثبت لك الأيام أنني قادر على اقتفاء أثر اللصوص وتعرّف أماكنهم، والاهتداء إلى مخابئهم وأوكارهم (مساكنهم)، مهما تفننوا في إخفاء آثارهم وتضليل الباحثين عنهم. فهل تتفضل يا سيدي فترفع أمري إلى جلالة الملك لعله يأذن لي في خدمته؟»
(٢) أجر القصاص
فقال له الوزير: «ما أرى جلالة الملك إلا مرحّبًا بخدمتك إياه ليأمن على كنوزه عادية اللصوص (شرهم).»
ثم ذهب الوزير إلى ملك بنارس فأخبره بنبإ القصاص. ولا تسل عن فرح الملك بهذا الخبر، وابتهاجه لسماعه؛ لأنه كان مشهورًا بالغنى والبخل معًا، ولم يكن ينغّص عليه راحة باله، ويكدّر صفو حياته، ويقلق نومه، إلا خوفه على كنوزه ونفائسه التي لا تقوّم (لا تقدر) بمال. وكان يسهر ليله ويظل نهاره في حراستها حتى لا تمتد إليها أيدي اللصوص. فلا عجب إذا رأى في ذلك القصاص ضالته التي ينشدها (حاجته التي يطلبها) وأمنيته التي تمناها.
وقال الملك لوزيره: «عد إليه فاسأله: كم يريد أجرًا على ذلك؟»
فقال له الوزير: «لم يفتني ذلك، فقد سألته: كم يريد أجرًا على حراسة الكنوز؟ فقال لي: إنه يطلب مائة دينار يوميًا.»
فاستكثر الملك هذا الأجر، واستدعى إليه الغلام ليساومه. فلما رأى إصراره على ذلك، لم ير بدًا من إجابته إلى ما طلب ليريح باله من حراسة نفائسه وكنوزه الثمينة.
(٣) حوار الملك والوزير
ومر على ذلك شهور عدة، وذاعت شهرة هذا القصاص في جميع أرجاء المملكة؛ وعرف اللصوص قدرته وبراعته في اقتفاء الآثار، فكفوا عن كل محاولة لسرقة الكنوز، ولم يجرؤ أحد منهم على الدنوّ (الاقتراب) من مكانها.
أما ملك بنارس فلم يكن مرتاحًا إلى الأجر الفادح (الكبير المثقل) الذي يتقاضاه (يأخذه) القصاص، فدعا وزيره إليه ذات يوم وقال له: «أنى لنا أن نثق بحديث هذا القصاص عن نفسه؟ وكيف نتعرف صدقه من كذبه؟ ومن يدرينا أنه بارع في اقتفاء آثار اللصوص كما يدّعي؟ وما بالنا ننقده (نعطيه) كل يوم مائة دينار، وهو لا يعمل شيئًا يسوّغ به هذا الأجر الفادح الذي يتقاضاه منا (يعني أنه لم يصنع شيئًا — في مقابلة ما يأخذه من المال الكثير — يجعله جديرًا به، مستحقًا له)؟ ألا تراه يقضي يومه كله لاهيًا بالشطرنج مع أبيه في حديقة القصر أمام النافورة (الفسقية التي يخرج منها الماء)، وهما يشربان أفخر الأشربة، ويطعمان أشهى الأطعمة (يأكلان ألذ المآكل) ويلبسان أثمن الثياب، ثم لا يعملان بعد ذلك شيئًا؟ ألا ترى أن هذا الغلام قد خدعني وسخر من بلاهتي (ضعف عقلي)؟»
فقال له الوزير: «لن يعدو أمره أحد احتمالين: فهو إما صادق في دعواه أو كاذب، فإذا كانت الأولى فإن بقاءه لحراسة الكنز ضروري، وليس لنا عنه غنى؛ وإن كانت الثانية، فهو جدير بالهلاك جزاء خديعته ومكره.»
فقال له الملك: «أليس يجدر بنا أن نبلو أمره (نمتحن حقيقته) ونخبر قوته لنتعرف قدرته من عجزه؟»
فقال له الوزير: «صدقت يا مولاي، وليس الرأي إلا ما تراه!»
(٤) السارقان
وفي الليلة التالية دبر الملك ووزيره خطة بارعة لسرقة الكنوز، فاقتحما مخابئها — في ظلام الليل — وأخذا منها جمهرة (طائفة) عظيمة من اللآلئ النادرة والنفائس الثمينة، ووضعاها في حقائب؛ ثم حملاها ودارا بها حول القصر مرات ثلاثة، ليضللا الباحثين عنها، ثم اجتازا بها حدائق القصر، وتسلقا حائطه، وارتقيا (صعدا) سلمًا عاليًا، ثم هبطا من سلم آخر إلى أحد الحقول، حيث فتحا صهريجًا (مخزن ماء) لا يعرفه أحد غيرهما، وأسقطا الحقائب كلها فيه، ثم عادا أدراجهما إلى القصر، وقد أيقنا أن أبرع قصاصي الأثر لن يهتدوا إلى ذلك المخبأ الأمين القصيّ (البعيد).
(٥) بين يدي الملك
وفي اليوم التالي نهض الملك باكرًا، وتظاهر بالغضب لاجتراء اللصوص (إقدامهم وهجومهم) على كنوزه الثمينة، وصاح صيحات مفزّعة عالية، وهو يقول متوعدًا ثائرًا: «لقد سرق اللصوص الخبثاء جمهرة من أنفس الحليّ واليواقيت التي يزدان (يتزين ويتجمل) بها تاجي، ولست أدري: كيف استباحوا داري، وانتهكوا حماي (كيف اقتحموا بيتي الذي أحميه)؟ وما أعرف: أين كان حارس الكنوز الذي يتقاضى على حراستها أجرًا فادحًا كل يوم؟»
وما إن أتم ملك بنارس قوله، حتى مثل الفتى (وقف) بين يديه، وكان قد علم هذا النبأ الهائل (الخبر المفزع)، وتألم لسرقة هذه النفائس، فأسرع إلى القصر ثم قال له على الفور: «هأنذا طوع يديك ورهن إشارتك، وقد جئت إليك مستأذنًا في اقتفاء أثر اللصوص (تتبع خطواتهم).»
فقال له الملك: «إنما ادخرتك (احتفظت بك) لمثل هذا اليوم، فاذهب موفقًا محمودًا.»
(٦) نجاح القصاص
وعاد قصاص الأثر إلى مستودع الكنوز الملكية، مقتفيًا آثار اللصين، ثم دار حول القصر — كما دارا — مرات ثلاثة، ثم اجتاز الحدائق، وارتقى درجات السلم الأول، وهبط درجات السلم الثاني، ثم سار ميمّمًا (قاصدًا) الصهريج في وسط الحقل، الذي ألقى فيه اللصان ما سرقاه من النفائس، ثم أمر باستدعاء غوّاص ماهر لينزل إلى قاع الصهريج، ويحضر ما ألقي فيه من الحقائب!
وكان الملك وحاشيته (المقربون منه) وخاصة قومه يرقبون ذلك القصاص البارع، والدهش مستول عليهم، والحيرة بالغة منهم كل مبلغ.
وقد أدرك القصاص الذكي حقيقة السارقين، وعرف — من آثار أقدامهما — أنهما: ملك بنارس ووزيره، فالتفت إلى الملك قائلًا: «لقد اهتديت إلى مخبأ النفائس المسروقة، وعرفت مكانه من هذا الصهريج. ولست أجهل أن سارق الكنز رجلان جليلان رفيعا المنصب (المقام والعمل)، عظيما الخطر (القدر والشأن).»
وما انتهى القصاص من كلامه، حتى خرج الغواص من الصهريج حاملًا الحقائب المسروقة، واحدة في إثر الأخرى.
فدهش الحاضرون، وتملكهم العجب والسرور، فصفقوا مبتهجين، منه وحنوا رؤوسهم أمام القصاص معجبين.
(٧) غضب الملك
ولا تسل عن غضب الملك وألمه، حين رأى نجاح القصاص في تعرّف هذا المخبأ القصيّ (البعيد)، واهتدائه إلى النفائس المسروقة؛ واشتدّ به الغيظ لإخفاقه (خيبته) في خداع الفتى الذكي الذي أحبط (أفسد) مؤامرته، وفضح أمرها، وكشف الستار عن دسيسته المستورة.
وقد أخرجه الغيظ والغضب عن طوره (حدّه اللائق به)، وأنسياه الحزم والكياسة، وأبيا عليه أن يقف عند هذا الحد من الهزيمة المخزية، فهمس في أذن وزيره قائلًا: «لا أزال أستكثر عليه الأجر الذي يتقاضاه مني كل يوم، ولا بد لنا من تعجيزه وإرهاقه (تكليفه ما لا يطيق)، واختبار مدى قوته في تعرف اللصين؛ فقد وقفت براعته وحذقه — فيما أرى — عند الاهتداء إلى مخبإ النفائس المسروقة. وما أظنه — بالغًا ما بلغ من الفطنة والذكاء — قادرًا على تعرف السارقين.»
فقال له الوزير الأحمق: «ليس الرأي إلا ما يراه مولاي.»
فالتفت ملك بنارس إلى قصاص الأثر، وقال له بصوت جهوري (عال): «لقد نجحت أيها الفتى في تعرف المخبأ الذي أودع فيه اللصوص ما سرقوه من نفائس، ولم يبق عليك إلا أن تتعقب اللصوص، وتذكر لنا أسماءهم، لنؤمن بحذقك وجدارتك (مقدرتك).»
فقال له القصاص الحازم الذكي: «كلا، فما بنا من حاجة إلى ذكر أسماء اللصوص، وليس لهذا أقل خطر (لا قيمة له)، وحسبنا أن نهتدي إلى ما ضاع من الكنز، وأن نتعرف ما سرق، لا من سرق!»
(٨) إصرار الملك
فظن الملك أن قصاص الأثر عاجز عن تعرف السارقين. ولم يكن القصاص جاهلًا حقيقة الأمر، ولكن إخلاصه وحبه مليكه قد منعاه أن يفضي بسر اللصين على ملأ (جمع) من الرعية والخاصة وأعيان الحاشية. فقد أدرك القصاص الخطر الذي يهدد ملك بنارس ووزيره، إذا افتضح أمرهما، وعرفت الرعية أنهما مثلا دور السارقين.
ولكن ملك بنارس لم يقدر للفتى (لم يشكر له) هذا الإخلاص، ولم يتبصّر عاقبة أمره، وأبى إلا أن يصرّ على تحقيق طلبته، فقال للقصاص غاضبًا: «لن أثق بمقدرتك، ولن أؤمن بجدارتك (كفائتك) بعد الآن، ولن أمنحك ما تتقاضاه مني كل يوم من أجر كبير، إذا عجزت عن تعرف اللصوص، وأخفقت في الاهتداء إلى أماكنهم. وإني لأقسم بتاجي وسيفي هذين لأنتقمنّ من أولئك اللصوص الأنذال، ولأمثّلنّ بهم أقبح تمثيل (لأعذّبنهم أشد عذاب)، ولأجعلنّهم عبرة لكل من تسوّل له نفسه (تزين وتيسر له) سرقة هذه الكنوز.»
فأدرك القصاص الذكي حينئذ أن ملك بنارس قد أخرجه الغيظ والحقد عن جادّة الحزم (طريقه)، وطوّح به الكيد إلى هاوية الشقاء؛ فقال له — ليغريه بتوكيد قسمه مرة أخرى — أمام حاشيته وخاصته: «احترس يا مليكي، وتدبر ما تقول، ثم خبرني في صراحة: ألا تزال مصرًا على تعرف السارقين والتنكيل بهم (إيذائهم)؟»
فقال له الملك: «أقسم بشرفي لأنكّلن بهم تنكيلًا، ولأعذبنهم عذابًا لا أعذبه أحدًا.»
فقال القصاص بصوت جهوري (عال): «إذا كان رب الرعية وحارسها وحاميها، وملاذ الشعب (ملجؤه) ومناط رجائه (من يتعلق رجاؤه وأمله به)، وموضع ثقته، يخون الأمانة ويغدر بالمخلصين، ويكذب الناس، ويمثل معهم دور السارق، فخبرني: كيف يفعل الشعب؟ وأي جرم تقترفه الرعية (ترتكبه) بعد ذلك؟»
(٩) افتضاح السر
فضحك الملك ساخرًا مما سمع، ولم تكفه هذه الإشارات الواضحة التي لا تحتمل تأويلًا، وأبت عليه حماقته إلا أن يندفع في تيار الغضب والكيد، دون أن يقدر العواقب الوخيمة (من غير أن يعرف النتائج السيئة ويتدبرها). وطوّح به الغرور فلم يعبأ بتحذير القصاص، وقال له في إصرار وعناد بصوت جهوري: «إن الشعب جدير أن يعاقب المجرم أيًا كان منصبه وخطره (مهما علا مقامه)، دون أن تأخذه في الحق شفاعة شفيع ولا لومة لائم.»
فقال له القصاص، وقد يئس من إصلاحه، وتقويم اعوجاجه: «أظنني قد أديت واجبي ولم يبق عليّ أقلّ لوم إذا أفضيت بأسماء اللصوص بعد ذلك!»
فقال له الملك: «ما أجدرك بذلك أيها الفتى حتى أقتنع بكفايتك، وأثق بجدارتك؛ ولئن لم تفعل، لأخفضن أجرك إلى عشرة دنانير.»
فقال له القصاص في صوت جهوري واضح النبرات: «لم يسرق هذه الحليّ إلا أنت ووزيرك، وهذه أثار أقدامكما ناطقة بذلك، شاهدة عليكما، فكيف تقول؟»
(١٠) غضب الشعب
فبهت ملك بنارس ووزيره وكادا يصعقا (كاد يذهب عقلهما) من هول المفاجأة، وندم الملك على إصراره وتهوره (اندفاعه).
وغضب الخاصة وسواد الشعب، وثار ثائرهم حين ظهرت لهم جلية الأمر (حقيقته). وعزّ عليهم أن يكون راعيهم وحامي ذمارهم (حارس بلادهم وأهليهم وديارهم) مدلّسًا (خائنًا)؛ وأن يمثّل — هو ووزيره — هذا الدور الخسيس، ليخفض أجر القصاص، ويحرمه حقه الذي عاهده على أدائه إليه.
واجتمع مجلس الأمة ورجال الشورى وأعيان المدينة، وقرّ قرارهم على عزله وعزل وزيره معه، كما اجتمع رأيهم على تولية هذا الفتى الشريف على العرش، واحتفوا (احتفلوا) بتتويجه أعظم احتفاء.
وهكذا كوفئ قصاص الأثر أثمن مكافأة على براعته وصدقه وبعد نظره، وعاش مع أبيه الدرويش، دهرًا طويلًا، في صفاء وابتهاج.