حجارة الضيعة
قم يا ابني، قم قبِّل خدَّ بابي الأملس، قبله لتحس شفتاك طعم شفاه أجدادك الأقدمين، إن شفاههم الصلبة قد نعَّمت هذا الخد فصار مثل الحرير».
وتحلحل أبو نعوم رويدًا رويدًا، ثم نهض ومشى مشية المقيَّد، وقال بصوت عالٍ: أمرك يا عيوني!
واقترب من الجرن، وبعد ألف جهد استطاع تحريكه، فهزَّ رأسه وقال: هاتيك أيام وهذي قبالها.
وما استقر حيث كان حتى رأى دودة سارحة على طرف عباءته، فقال لها: هه! من قبر من طلعت؟ ومن جثة من تغذيت؟ على مهلك، لا تخافي، على كل حال أنت منا وفينا، أنت بنت ضيعتنا.
وفي الغد دقَّ قداس الأحد فكان أبو نعوم أول الملبين، قعد يتشمس في مكانه منتظرًا ابتداء القداس، جلس وحده، ولكن واحدًا تعود أن يدوِّن أخباره في دفتر لتظل تاريخًا للضيعة، قعد حده فطفق يروي له ما شاهد وما سمع من أخبار أمراء لبنان من فخر الدين وآل سيفا إلى المير يوسف والمير بشير الجالس سعيدًا على كرسي إمارة الجبل.
سأل أبو نعوم الشاب القاعد حده: من أين هذا الشب؟ فأجابه الفتى: غريب.
فقال: أهلًا وسهلًا، من رأس شفتيه.
وانتهى القداس فكان أبو نعوم أول الخارجين، وأخذ الطبر وقعد على الصُّفَّة، فأقبل الشاب مسلِّمًا على الشيخ، وقال له: أعجبك الطبر يا جدي؟
فأمسكه أبو نعوم بيده المرتجفة وقال له: عندنا مثله كثير يا ابني، تعلَّم في المستقبل ألَّا تعلق طبرك بمفتاح باب الكنيسة، هذا خرق لحرمة الضيعة، أخذتُه فكَّة مُشكِل، وإلا كان وقع الشر. يا أولاد، هذا من جيراننا وضيفنا، قوموا بواجبه. هذا طبرك يا شب، ثاني مرة خذ حذرك.
وذهب الناس إلى بيوتهم، وراح الشاب مع أصحابه.
وأحبَّ أبو نعوم أن يتمشى في ذلك اليوم المشمس، كان يجد لذة في النظر إلى حجارة الضيعة ويطلق عليها لقب الأصحاب. كان ينفر من الحيطان المرمَّمة، ويأسف لأنها تغيرت عن عهده.
وبلغ في نزهته برج الضيعة القديم، فرأى أن حجارة منه قد أُخِذت فثار وهاج. خبَّروه أن بطرس — وجيه الضيعة — احتاج إليها ليكمل مدماكًا في بيته الجديد، فأخذ يرغي ويزبد كأنما قتل أحد أولاده: لا كبير ولا صغير، هذه حجارة عاشرت جدودنا وأفضلت عليهم وحمتهم، لولاها ما بقَّى منها المماليك من يخبر، فبدلًا من أن نبني البرج نهدمه؟ يا خيبتنا تجاه الأجداد!
ومضى يعدد مآثر تلك الحجارة التي اقتُلعت من مكانها كأنه يرثي ولدًا له مات في عز شبابه: حجارة دهرية تخبر عن تاريخ جدودنا وأعمالهم، هي وحدها تربطنا بضيعتنا وبلادنا، أنطمع بها وننقلها من وطنها؟ أؤكد لكم أنها توجَّعت، والله العظيم إنها حزنت لما فارقت أخواتها بعدما عاشت معهم مئات السنين. قولوا للشيخ يردها مثلما كانت، وإلا فإنها تنتقم منه ومن الضيعة.
وقعد على حائط البرج يبكي، ثم تناسى المصيبة فطفق يحدِّث نفسه بصوت عالٍ: «هذا البرج حمى الضيعة مرَّات، هذا أخو الكنيسة في الساعات السود، كيف يأخذ منه واحد حجرًا، وفي الضيعة حجارة مرمية على الطرقات، والمقلع على رمية حجر من بيته؟ أيُّ معنًى يبقى للضيعة إذا راح البرج؟ في كل حجر من حجاره وجه جد من جدودي. آه، كلما تغير حيط من حيطان الضيعة أحسُّ كأني فارقت واحدًا من عشرائي!»
«يا مرين، يا مرين، هاتي لي أتغدا يا جدي.»
ولما تيقن أنها سمعت قال لنفسه: أريد أن آكل بين أصحابي وأحبائي.
ثم أخذ يُمِرُّ يده بحنو على وجه حجر أمثل في البرج كأنه يداعب جدًّا محبوبًا، وألقى نظرة على الجبال القائمة حوله، فخال أنه أحاط نظرًا بالمسكونة كلها، فقال: ما أجملك يا بلادنا وما أحلاك!
وسأل نفسه كعادته: قولتكم هاتيك الدني حلوة مثل هذي الدني. من يدريك؟ سلمها ربانية يا بو نعوم.
وفيما هو في هذه النجوى، جاء بضعة كهول ليقفوا على رأيه، الطاعون تفشَّى في البلاد وظهر في القرى المجاورة فماذا يعملون؟
فصلَّب أبو نعوم يده على وجهه وقال: الله يرد البلية عن الضيعة، زنِّروا الكنيسة.
فاستغربوا كلمته، فأفهمهم كيف، فطافوا على بيوت الضيعة واحدًا واحدًا، وعاد أبو نعوم بعدما تغدى إلى مجلسه على الصُّفَّة عند الكنيسة.
وجاءوا بالحوائج التي يعملون منها زنَّارًا: من هنا ملاءة، ومن هناك كوفية، ومن عند هذا ملحفة، وجمعوا كثيرًا من الحرير غير المفصل والمخيط من حياكة نساء الضيعة وبناتها.
وحل أبو نعوم كمره عن وسطه ودفعه إليهم، فقالوا له: تعطينا زنَّارك؟! اتركه، أخذنا من بيتك.
فصاح بهم: خذوا بدني أيضًا، بدني من ضيعتي ولها.
وبعد تزنير الكنيسة أمر أبو نعوم أن يحرسوا مدخل القرية، ويمنعوا الغرباء من دخولها.
ولما أمنوا شر الطاعون فكوا الزنَّار، فكان على من يريد استرجاع حاجته أن يدفع فكاكًا، وإذا تُرِكت تُباع بالمزاد وثمنها للكنيسة.
وردوا على الشيخ كمره، فقال لهم: فكاكه فيه، نذرته دفع بلاء عن الضيعة.
كان في كمره خمس ذهبات ادخرها ليومه الأسود، ولكن الضيعة وفته حقه حين مات، فجهزوه من مال الوقف، ودفنوه في الكنيسة تقديرًا لإخلاصه.