ابن عزرائيل
جاءت أم إبراهيم بعين مكسورة تستكتب معلم ذمَّتها
١ (الخوري) رسالة إلى ولدها المهاجر، فاستأجلها. ولما أشعرته أن البريد على سفر
امتشق قلمه من أنبوبة دواته، ثم لاقها
٢ وطفق يكتب.
وتلا على أم إبراهيم ديباجة الكتاب الناعمة فترطبت أهدابها، وراح الخوري يتعصر كحبلى
تتمخض، وبعد ألف جهد نزلت على سنِّ قلمه الكلمة المأثورة: من أخذ من ملة غير ملته مات
بعلة
غير علته. وأحسَّ طعم هذا الإلهام الرفيع فاهتزت لحيته، وانفتح فمه الأدرد
٣ عن ثنيَّة
٤ ما زالت غارزة باللثة
٥ كأنها سن ثوم.
قعدت منه أم إبراهيم مقعد الكلب تتحرك جوارحه كلما تحركت يد صاحبه، تحاول بزفراتها
المديدة حثَّ الخوري، وأخيرًا هتفت به بلا شعور: ايش كتبت يا معلمي؟ البوسطجي معجل.
فاستمهلها بالخمس اللطاف، وعينه على القرطاس، حتى إذا انهال عليه الوحي تلقاه بلهفة
وكتب:
سمنجون بنت خالك مثل قلب الصباح، قامتها رمح رديني،
٦ وعيونها لوزية، وخدودها مثل التفاح الشامي. صورة بورق يا ولدنا، والمثل يقول:
أهلك ولا تهلك.
وزفر الخوري زفرة استهولتها أم إبراهيم، وقرأ ما خربش، فقرعت صدرها داعية بطول عمره،
وانكبت على يده الطاهرة تقبِّلها بحرارة، سحرتها فصاحة الرسالة فضمنت عود ولدها غبَّ
اطلاعه
عليها، ولكنها استقصرتها، فاستزادته، فكتب: طلَّاب سمنجون مثل النمل، الناس تقصدها من
بني
وبني … وأنا أصبحها وأمسيها. احضر حالًا حالًا حالًا، المرأة حاجة الدهر، والإنسان لا
يجدها
كل ساعة، يكفيك ما جمعت، ولمن تجمع إذا مت بلا عقب؟
– يا أم براهين، عجلي، البسطجي رائح.
وغلَّف الخوري الرسالة، فصرخت أم إبراهيم: لا يا معلمي، لا. ونتشتها من يده وأخذت
تحرق
أطرافها بسيكارة الخوري.
وبعدما ابتعدت بها خطوات تذكرت أنها لم تقبِّل يده شاكرة، فانفتلت صوبه، ثم أدركت
حرج
الموقف، فاعتذرت من بعيد وهرولت.
وبعد أشهر خفَّ إخوة إبراهيم وبنو عمه إلى ميناء بيروت ليستقبلوه، وزحف من بقي في
الضيعة
من أحياء إلى دكان على مفرق الطرق، يحسبه الرائي منطرة،
٧ لا حانوتًا يتبضع منه القرويون ويتقمشون. أما الدفع فموعده كتلك الساعة التي لا
يعلمها أحد إلا الآب … وبعد انتظار ساعات في تلك البرية أطل الموكب تتقدمه الحمولة: أعدال
نُقل
٨ وحوائج، وصناديق أميركية تتلألأ تحت أشعة عين الشمس؛ فارتفعت الأصوات بالتأهيل
والترحيب، ثم تناوبوا التقبيل حتى شكا إبراهيم خدرًا في رقبته وطلب الهدنة … ثم استؤنفت
المعركة، وأخذوا يعرِّفونه بمن درجوا وشبُّوا في غيابه، فيقبِّلهم ويربِّتهم
٩ تربيتًا أميركيًّا، يضحك له البعض، وينشده الآخرون. وساروا به أخيرًا، فريق
يهزج، وفريق يغربل وينخل، وكلهم يقولون: يا بارك الله، هامة جمل! وكانت أمه تنتظره في
ساحة
الكنيسة حيث يمر، فازارته القديس، ووفت نذرها. وفي البيت كثرت السؤالات عن الغائبين فكان
الجواب: الجميع بخير.
وفتحت أم إبراهيم كفها فأطعمت وسقت بسخاء، وسهر إبراهيم إلى ما بعد نصف الليل، فأصبح
شاكيًا قلق فراشه ويبوسته، مع أن الوالدة نفشته أي نفش، ولكن التخت خشبي وبلا رفَّاس،
فبيت
إبراهيم من المحافظين ما زال كما فارقه.
وجاء الجيران مع الصبح، فقعد يحدثهم بابتسامة اكتسابية، رأوه شابًّا كبير الظل، أخذ
التعب
شيئًا من نضرته أمس، أما اليوم فهو عظيم جدًّا: شاربان قاعدان كأنه الزناتي خليفة. سألوه
عن
«توفيقه» فشكر ربه برطانة
١٠ المهاجر الحديث العود. وبعد أيام قاطع على ألوف من الحجارة، كما يفعل المهاجر
«الموفق»، فتحدثت الضيعة بذلك أيامًا، ودبت الحياة في مقالعها المهجورة.
أما سمنجون — وهي بيت القصيد — فشعرت بهبوط درجة الحرارة مذ رأته وحدثته، كانت تتوقع
تجاوزها الحد فإذا الأمر بالضد، فقالت في نفسها: لم يتغير فيه شيء، هو هو، ولكنَّ هناك
شيئًا صعبًا فهمه، هذا الإبراهيم غير هذاك، وإن كان إياه. أما كيف فما أعرف … منذ خمسة
عشر
عامًا و«برهون» ملء قلبي وأذني، فما لي إذ جاء لا أرى تلك اللهفة؟ ما لذكريات الصبا غافية
لا تفيق، وقربي منه لا يرغبني فيه؟ عجيب! لما كنا وليدات كنت أحبه أكثر.
ووزع إبراهيم هداياه على الأخصَّاء من مواس، وساعات، وأقلام حبر، وخواتم ذهب أميركي،
وغير
ذلك، وحمل إلى سمنجون الساعة الثمينة مع سلسلتها الطويلة من الذهب الخالص، والخواتم،
والأساور، فترطب قلبها وتندى، ولكنها تذكرت دملجًا
١١ زجاجيًّا أهداه إليها في الصغر، قبل الهجرة، فرأت أن تلك الزجاجة الزرقاء كانت
أحب إلى قلبها من هذا الذهب والألماس، فما سر ذلك؟
وأدرك إبراهيم أنه لم يظفر منها بتهافت العشاق رغم الهدايا النفيسة، والبيت العظيم
الذي
بلغ الأعتاب، فأخذ يتفاصح ويتظرف، وإذا بالأمر بالعكس، فهو غائبًا عن العين أقرب إلى
القلب،
تتأمله سمنجون فتقول في نفسها: «رجولة تامة، غنى وافر، جاه
١٢ يمتد بسرعة الغيم، هذا مطران الأبرشية شرَّف للسلام عليه، وتهنئته بالرجوع،
ومدير الناحية يجيء بعد يومين، و«البروش»
١٣ الذي أهداني إياه في السهرة الأخيرة يسوى مائة ذهب، فما أريد بعد؟ ليس هناك رجل
آخر أحبه لأقول قلبي مشغول، فما هو السبب يا ترى؟
يتحدث إبراهيم عن شأنه في المهجر أحاديث تحبِّب وترغِّب، وكلما أمعن في أحاديثه جدَّ
قلبي
في الهرب، فما العلة يا ترى؟ قصتي عجيبة والله!»
وأتى المدير ليهنئ بالعود الأحمد، فبالغ السنيور إبراهيم في إجلاله وتكرمته، أعد له
غذاء
ملوكيًّا قلما أعد مثله في البلاد، ودارت الأنخاب على المائدة، فأثنى صاحب العزة على
كد
إبراهيم وجده، ورفع اسم الجالية عاليًا بما أنشأ من روابط متينة مع رجال الدولة في «الريو».
وأخيرًا رفع المدير كأسه شاربًا نخب المهاجرين بشخص زعيمهم برهون، وتمنى عودتهم جميعًا
غانمين مثل إبراهيم أفندي.
فهزَّ شيوخ القرية رءوسهم إعجابًا عند كل جملة، خصوصًا حين قال عزَّته: «إبراهيم
أفندي».
أما سمنجون فكانت حاضرة كالغائبة، واستؤنف الأكل والشرب، ونُثرت النكات والأحماض
١٤ التي هي مسرح القرية وحياتها؛ فانتشى إبراهيم وأفاض في سرد ما عنده من نوادر
وفكاهات محفوظة، وأكثرها تدور حول المرأة، وختمها بهذه الحكاية فقال: «تزوج عزرائيل امرأة
مترجلة كانت تتحكم فيه، فرزقه الله ولدًا اختارت له أمه الطب مهنة، وأجبرت زوجها عزرائيل
على ألَّا يقبض روح مريض يعالجه ابنهما، فأطاع حتى يستريح من شرها، وبعد حين كره عزرائيل
الحياة مع زوجته المتأمرة، فهجر البيت، ولكنه ظل يلتقي بابنه عند المرضى.
ومرضت الملكة مرضًا عضالًا عجزت عن مداواته حكماء الدولة، فدعوا لها ابن عزرائيل،
فتركها
له أبوه حسب الاتفاق.
وعاشت الملكة طويلًا، فوبَّخ الرب عزرائيل، فصمم على قبض روحها، ودعوا ابنه فجاء،
ولكن
عزرائيل ما تزحزح هذه المرة، ولما عجز الابن عن إخراجه أخذ يفكر، فما وجد حيلة أنفع من
أن
يتهدده ويخوِّفه بأمه، فصاح به: أبي، أمي ورائي، اهرب.
ولما سمع عزرائيل ذكرها طاح كالمجنون، وصحت الملكة.»
أضحكت الحكاية الناس إلا سمنجون، وفي الغد ردَّت عليها ردًّا قاسيًا، فأعادت إلى إبراهيم
هداياه.