هيكل
رأسه برَّاق مدور كقالب جبن فلمنكي، يجتمع فيه النقيضان: في القمة بقية وبر كصوف السنانير، وفي المنحنى شعر مثل شوك القندول. يصح في تلك الكرة ما قاله برناردشو في لحيته الكثة وصلعته الجرداء: كثرة إنتاج، وسوء توزيع …
ثم يقف محاولًا تقديم سيكارة لعلك تسبقه إلى تلك المكرمة … وإن غفلت أو تغافلت تقصَّى جيوبه، ثم قال: هات سيكارة، نسيت علبتي عند فلان. ويسمي لك إما وزيرًا وإما مديرًا.
ومن مواهبه النادرة أنه يرود الأرض في دقائق معدودات، فإن رأى قلة خيرك انصرف إلى غيرك.
مسرح هذا البطل ساحات دور الحكومة وأروقتها؛ فهو «أبو فتح» جديد، يتصيد في الحرام وعلى عيني وعينك يا تاجر. هناك — في السراي — يعرض خدماته على الوارد والصادر، وخصوصًا على من لا ظهر له، ولولا همته القعساء — كما يقول — مات حق الفقير.
صنَّارته في تصيد العوام تحيةُ المأمورين القادمين إلى الدواوين، فإن ظفر بكلمة من أحدهم فاز بطعم كثير الخير والبركة.
إذا وفد قوم على السراي زجَّ بنفسه بينهم ليقول بعد الخروج للمغفلين: هذا وفد من القرية الفلانية، كان ميعادهم أمس وجاءوا اليوم، عرَّفناهم بمعالي الوزير. مساكين، راحوا شاكرين حامدين.
ويغادر هيكل السراي مع المأمورين كأنه واحد منهم، يكمن لطرائده عند باب أحد مقاهي ساحة البرج كمون العنكبوت للذباب، حتى إذا استحوذ على جليس هاها بصبيان القهوة وصفَّق لهم، ثم يتلطف ويقول: اطلب، فنجان قهوة، قدح بيرة، كاس عرق، قنينة كازوز، تحب وسكي؟ أبدًا غير ممكن، لا بد من شيء.
وإذا امتنعت أنت طلب هو، فتشرب على صحته، وله الغنم وعليك الغرم، فأساليبه في التغافل عن الدفع غريبة عجيبة. إن خاف أن تنزل به الكارثة ابتدر وابتكر، فكل مارٍّ على الرصيف، شرط أن يكون من ذوي الجثث الضخام، هو عنده إما موظف كبير، أو زعيم خطير، ينهض له هيكل إجلالًا واحترامًا، فإن ردَّ التحية قال لك: هذا فلان بيك، صديقي جدًّا. وإذا أومأ ذاك المار برأسه أو يده أوهمك هيكل أنه دعاه وله معه كلام.
– انتظرني، أنا راجع حالًا.
وهكذا يرهنك عند صبيان المقهى كما رهن الغراب الديك في الأسطورة المشهورة.
ثم يتنهد ويجاوب عنك: المسألة بسيطة، من لا يحس مع الناس لا يكون من الناس، إنما مصيبتك فيهم أنك إذا قصَّرت عن مسألة قامت قيامتهم، أأنا رب العز حتى أعمل كل شيء؟
وهكذا يمد لك السفرة على الطريق، فيربح المعركة الثانية، وفي الغد يربح الثالثة.
يصبِّحك بقصة ملفقة: سعادة البيك — القاعد على نار — طلع إلى صوفر، ولكن التعب ما ضاع، سهر هيكل في بيت رفيع العماد، كثير الرماد، وصاحبه طويل النجاد … هناك، لحسن حظك، التقى سيدة تقدِّم وتؤخِّر، ينام البيك على يدها، تزوَّد منها بطاقة توصية تحرق العشب. ثم يريك ظرفًا مخربش العنوان باسم جناب البيك، ويسألك كراء سيارة. وبعد أن تتدهور فلوسك في هوته يودعك: فلا تؤاخذنا يا شيخ. ويلتفت بعد ابتعاد خطوات ملوِّحًا بسبحته قائلًا بابتسام: ادعُ لنا بالتوفيق.
وإذا أعرض عن هيكل ذو حاجة أو استخف به، بث حوله وسطاءه وسماسرته فقالوا له: هيكل رجل داهية، عفريت، الدنيا وسائط، لا توكِّل أحدًا. ثم يعددون له ما حل من مشاكل كبار عدا الصغار، أصحابها إما موتى، وإما غائبون، أو مجهولون.
أما هيكل، وهو من المغامرين في الثرثرة، فعنده لكل مقال مقام. يلجأ هنا إلى ما قلَّ ودل، فيتطلع تطلع النسر، ثم ينحني صوبك ليهمس في أذنك: الكبير منهم بيدي مثل الخاتم في الخنصر. وإذا بانت في وجهك دهشة قال لك باستهتار: نعم، نعم. كبِّر وصغِّر يا سيدي.
ويتعرم عليك هيكل مشيحًا بوجهه عنك، فيقرصك الوسيط قرصة لاذعة ليقول لك: صدق يا سيدي. ويروي لك واحدة من خوارق الأستاذ هيكل ويختمها بقوله: الشكران في الوجه مذمة. ثم يغمزك صارًّا أصابعه، مرجئًا الحديث لئلا يجرح تواضع الأستاذ بلا علم …
الناس مغارس، وكذلك هم هؤلاء الدجالون الهبالون، إذا مات منهم سيد قام سيد، قلما يخلو منهم بلد. أما هيكل فهو رجل الساعة، له في كل عرس قرص، ينشر في الصحف كلامًا يتملق به أولي الأمر كما تتملق هرَّتك بحك جلدها، فيمسي مقرَّبًا منهم ولا حاجب عليه ولا بوَّاب.
وصدَّق هيكل نفسه فغرَّته عينه بجميع البشر، واتجه حديثه اتجاهًا جديدًا لما كبر، فصار يقول: أمس كنا مع فلان في «البار الفلاني»، وأول من أمس كنا في «السرك» الفلاني. خسر أكثر من ألف ليرة، شرب حتى تلف، ثم يدق على صدره مؤكدًا: أنا وصلته إلى بيته، منذ عشرين سنة لا نتفارق، مثل اللحم على الظفر.
فضرب هيكل صدره البهم وقال على الفور: أعرفه مثلما أعرفكم، كان المرحوم أبوه يعزني، الله يعزكم، كان — الله يرحمه ويرحم موتاكم جميعًا — يقول لي: دبِّر الصبي يا هيكل، أنا متكل عليك. أمس رافقته إلى الجبل لزيارة شخص عظيم ورجعنا موفقين. مستقبله عظيم، هكذا تنبأت لوالده، يا ليت والده عاش ليراه على الكرسي، ولكنه، في كل حال، مات مجبور الخاطر.
فقال صاحب الدار: لهذا الشاب — ودلَّ على أحد الساهرين — دعوى في محكمته، يدفع ثلاثمائة ليرة إن ربحها.
فانبسط هيكل وكاد يخرج من ثيابه وقال: خذوها من لحية عمكم هيكل.
وضربوا له موعدًا فأتاهم، وقال وهو يقعد: على العشا قلت له: يا صبي، دعوى فلان تهمني. احزروا ماذا قال؟ وحياة عيونكم قال: خذها من عينيَّ التنتين يا عمي هيكل. ما ذكرت له المبلغ حتى أعرف إن كان يذكر الفضل. مسكين، والله ما نسي، ولكني أخيرًا أخبرته.
وبعد أخذ ورد قبض هيكل المبلغ وودَّع. فما بلغ الباب حتى استوقفه الشاب صاحب الدعوى وقال له: تؤكد، يا خواجا هيكل، أنك تعرف القاضي؟
فهز هيكل برأسه وقال: يا سبحان ربك، نحن نغني في الطاحون؟ قلت لك: تعشيت أمس عنده.
وكان صمت غير طويل تحدثت في أثنائه عيون القوم، فأدرك هيكل أن الفخ انطبق، ولكنه تماسك وقال: إن كنتم لا تصدقوني فهذا مالكم.
وبينما كان القاضي يسترد المال أراق على جوانب شرف هيكل الرفيع شيئًا غير الدم … فاستخذى هيكل وخرج وهو يمسح وجهه بكمه.