إبراهيم القصصي
بعد معارك طاحنة وطويلة الأمد، قطع إبراهيم الشوط الأول من البكالوريا، ثم قصَّر
في عقبة
١ الفلسفة فقعد حسيرًا ملومًا، وصبا إلى الجامعات فما فتح له الجزء الأول من
البكالوريا أبواب معاهد الحقوق؛ فقلع ثوب «جنسيته» وجاءها متنكرًا بهوية غريبة، فقبل
على
الرحب والسعة.
ورسب عدة سنوات فيئس وطلق الحقوق ثلاثًا. التفت يمينًا وشمالًا فلم يجد خيرًا من «الباب
الواسع» فولجه، وأخذ يمدُّ الصحف بالأخبار المحلية، فأحسَّ الناس بوجوده. ثم تخطى إلى
معالجة سياسة البلد وشئُونه الداخلية، فانفتحت له أبواب ضواطير السياسة، فأمسى وإياهم
يمرحون في صعيد واحد …
وتذكر بعد حين أنه عرض على معلمه — حين كانوا يتعلمون العروض — ما قرزم من شعر، فقال
له:
إنك ستكون قوَّالًا،
٢ فهاجم أحد الرؤساء بقصيدة وقعت منه موقع استحسان؛ لأنه طعن بها على السلف
وقدَّس الخلف. وأعاد الكرة في مناسبة أخرى فحك للممدوح حكًّا أرضاه فقرَّبه وأدناه؛ فهام
صاحبنا في أودية الشعر، ثم طمح إلى القمم مستعينًا بالصحف فجعلته الشاعر الكبير، فمات
من
الفرح.
ورأى أنه يحسن «الريبورتاج» فأخذ يمتحن ما يجريه قلمه من الأنهار في صحارى الصحف،
فرأى
فيه عناصر القص، فشاء أن يكون قصصيًّا كبيرًا، كما صار شاعرًا كبيرًا بباعه وذراعه ومعونة
صحف كان يغمرها بأخباره الملفقة.
انكبَّ على قراءة بلزاك واستندال ودوستويفسكي، فما رأى عندهم معجزًا. رأى أنه مثلهم،
وأنه
يستطيع ما استطاعوا، فتمخض ووضع قصة عجيبة، لفَّ المولود الجديد بأقمطة برَّاقة، وطاف
بتحفته على دور النشر، فوعدته بمطالعتها ورد الجواب. وبعد أسبوع أعيدت إليه مع الشكر،
فغضب
وسبَّ دين بلاد ليس فيها من يتذوق الأدب السامي، وأخذ يعلن في الصحف التي يراسلها عن
قصته
العجيبة، ويعد العالم العربي بظهورها قريبًا، ومما كتبه في أحد الإعلانات:
فريدة، قصة جديدة … مؤلفها الشاعر الأكبر … فتح جديد في لغة الضاد.
فيها اشتباكات ديماس، ووصف زولا، وتحليل دوستويفسكي، وعوالم بلزاك، وشخوص شكسبير،
وخيال شاتوبريان. هي القصة التي يحل بها الأدب العربي محله العالمي، فليبشر أبناء
الضاد فقد صار لهم أديب مسكوني.
٣
وبعد هذا الإنذار كرَّ على دور النشر، فظلت هادئة الأعصاب ولم تندحر أمامه، فرأى أن
يعمل
بقول المثل: ما حكَّ جلدك مثل ظفرك. فعزم، بعناد، على أن يكون مؤلفًا وناشرًا، فدفع قصته
إلى كاتب شهير، فقدمه إلى القراء، وتعاونا تعاونًا وثيقًا على غزو العقول، فصدرت المقدمة
مرقومة بالحروف الأبجدية، عشرون صفحة علَّم فيها الكاتب الشهير الناس كتابة القصة، واتخذ
لها نموذجًا قصة «فريدة» ذات الحوادث العجيبة، والتصوير الغريب، والتحليل النفساني الذي
لم
يدرك استندال بعضه، ولا دوستويفكي أقله.
وظهرت القصة الفريدة فاستقبلتها الصحف المعلومة بالتهليل والتكبير، وعظَّمت صاحبها
أيما
تعظيم، أما الأدباء الحق فصمتوا. ونعم إبراهيم بشهرة صحفية واسعة، ولم يكتفِ بما استجداه
من
ثناء الأقلام الجوفاء، وبما كتبه هو عن نفسه بلسان الآخرين، فطمع باستدراج النقاد الكبار
…
وبلغ به حب الشهرة حد الوسواس،
٤ فإذا جالسته أخذ يستدرجك إلى التنويه به والثناء عليه، وكلما فتحت فاك لتقول
كلمة تبتدئ بالفاء والراء ينتفض ظانًّا أنك ستقول شيئًا عن فريدة … حتى إذا أيأسته من
هذا
جال في ميدان البحث الأدبي، وتفوق على ابن الأثير في مدح نفسه، ورأى أنه أغزر ألوانًا
من
جبران.
ونام ذات ليلة حزينًا، ضامه ركود الثناء وهو ممن يحبون أن يذكروا كل يوم، فقال في
قلبه:
الشهرة أقصى أماني الرجال وخصوصًا الأدباء.
وبعد أن استرخى في فراشه رفس اللحاف وقعد يحسب ما ربحه من سوق الدعاية، فعزم على إنفاق
ما
جمع في أشرف السبل، وبعد محاولات هدأت أعصابه فنام، وملأ قلبه أمل لا حد له ولا طرف.
وبكَّر في الغد للاصطباح عند أحد أصدقائه، وسأله أن يؤدي له خدمة لا تكلفه شيئًا،
وعرض
عليه الفكرة، وبعد أسابيع كان احتفال في أكبر فنادق الثغر، «علفة»
٥ لها ما بعدها أقيمت على شرف القصصي العظيم.
قام الشعراء والخطباء بما وجب، وتقدم أناس معدودون لهذه المهمة وسألوا المؤلف أن
يوقع على
نسخ من قصة «فريدة»، ففعل ذلك بتواضع. وفي الغد ظهرت كلمة في جريدة رصينة هذا نصها:
حقًّا إن الأدب مهزلة في هذا البلد، إذا أقيمت حفلة على شرف مؤلف «فريدة» فماذا
نترك لمؤلف تغريبة بني هلال؟ يا ضيعة الحبر تسوِّد به صفحات لا تبيض وجه البلاد!
كان قد هان علينا الأمر لو لم يمثلوا هذا الدور المضحك المبكي، ولو درى المؤلف
المغفل أنها مهزلة لاختار طريقًا أمثل من الطريق الذي سلك. إن سكون ريح النقد عندنا
جرَّأ زعانف
٦ الأدباء على التأليف، ولولا التدجيل الذي يؤدي إلى التضليل لظلَّ صاحب
«فريدة» في حقله، ولم يقتحم الغابات العذراء التي لا يرتادها غير النوابغ … فما
دامت الأقلام تحابي وتكتب ما يوحى به إليها، فلا ينتظر أن يكون لنا أدب
صحيح.
وفي غرفته التي رتبها ونظمها على طراز فني، قعد صاحبنا تحت المصباح الكهربائي المحجَّب
بمظلة بنفسجية يطالع «رسالة الغفران». وجاءه أحد أعوانه بالصحيفة فقرأ ما كتبه بحيرة
ودهشة
وقال في نفسه: يا للعجب! إن قصتي لمامة، الفصل الأول من عند موباسان، والثاني أُخذ عن
فلوبير، والتحليل لدوستويفسكي، والغرائب عن ادغار بووديماس، والتعابير أكثرها عن فصحاء
العرب، فكيف لا تكون قصة «فريدة» فريدة؟ الحق مع المتنبي والشعراء الذين قلدوه فيما بعد:
إنه الحسد، فأكثر النقاد حساد … فليفطسوا.
ثم بدا في وجهه غضب حليم، فضرب مكتبه بجمع يده وقال: أنا خالد، وكتابي خالد، غدًا
تقدرني
الحكومة فتزين عنقي بقلادة المجد، أو تبصم صدري فيشع عليه نجم الافتخار. وقد أُلِّفت
منذ
اليوم لجنة تعنى بتكريمي وتلتمس ذلك.
وجرَّه الحزن العميق إلى وادي الكرى، فرأى أنه في العالم الثاني، العالم الذي لم
يره،
ولكنه قرأ وصفًا له. رأى نفسه في كوخ حقير، ليس فيه غير حصير مقطع، وقربه كوز معشوشب،
وليس
حول ذلك الكوخ غير قندول، وعجرم، وعليق،
٧ فلم يعجبه ذاك المصير.
والتفت فرأى من بعيد رجلًا ينظر إليه ويبتسم، فقال له: من أنت؟ فأجابه: ما عرفتني؟
أنا
الصاحب بن عباد، لقد متُّ بموت دعاتي، ومات معي من دعوت له كذبًا وزورًا، وعاش بعدي وبعده
الشاعر العظيم. كان يجب أن تعتبر بي، فكل ظل يزول إلا الأدب الصحيح، فسبحانه! إنه الحي
الباقي.